تحت خيمة السيرك السياسي (الحلقة 26)

9 views
Skip to first unread message

kadhim finjan

unread,
Feb 16, 2015, 5:16:53 AM2/16/15
to
 
فضفضات شروية تحت خيمة السيرك السياسي
 (الحلقة 26)

حي ميت هندال إنريده
 
كاظم فنجان الحمامي
 
أتألم كثيراً كلما أعدت قراءة القصيدة المأساوية الرائعة التي كتبها الشاعر المبدع علي انكيل (أبو عراق) بعنوان (أبجدية الماء). في هذه القصيدة لوحات مؤلمة من صور النضال العمالي لأبناء الجنوب، وفيها إشارات عميقة للأهزوجة الشعبية (حي ميت هندال إنريده).
كان (هندال) عاملاً بسيطاً من عمال البصرة، اسمه الكامل (هندال جادر). ولد يتيماً معدماً عام 1923 في بيت فقير من بيوتات محلة (الخندق)، التي لا تبعد كثيراً عن الأسواق والمحال التجارية لهذه المدينة المينائية الكبيرة. عانى شظف العيش منذ طفولته، وتنقل في صباه بين (التميمية) ومخازن (الداكير). لم يلتحق بالمدارس الابتدائية، ولم يعرف مبادئ القراءة والكتابة إلا متأخراً. شأنه شأن أي فقير من فقراء العصور المتخلفة، التي مر بها جنوب العراق تحت وطأة التهميش والإقطاع والبرجوازية والقوى الفوقية المستبدة.
ما الذي يفعله هذا الإنسان الضعيف في مواجهة الظروف المعيشية القاسية ؟. وكيف يوفر لقمة العيش لأمه وأشقائه الصغار ؟. وجد (هندال) نفسه مضطراً للعمل في الأشغال اليومية الثقيلة، فكان عتّالاً وحمالاً يستمد قوت يومه من جهده العضلي.
كان يحمل أغراض الأسر الباذخة، وينقل بضاعتهم المستوردة من السفن الراسية على أرصفة نهر العشار إلى المخازن. وربما اعتاد على سماع عبارات الزجر والتعنيف من أرباب العمل. شعر (هندال) بتلك الفوارق الحادة بين الطبقة العمالية المسحوقة وبين الطبقات الفوقية المترفة، ووجد نفسه مطالباً بتفتيتها وتذليلها. فالتحق بإحدى المنظمات اليسارية، التي كانت تنادي بنبذ الطبقية بكل فوارقها المقيتة. لم تمض بضعة أعوام حتى صار (هندال) عنصراً فاعلاً في تلك التنظيمات المعادية للطبقية. فأسس نقابة (الكيل والحمّال)، استقطبت فئة العتًالين والحمالين، وأرسى بفطنته الأسس الصحيحة لعمل رفاقه في هذه المهنة القديمة.
كان هو المدافع الأول عن حقوقهم المهدورة، والمشرف المباشر على تنظيم أعمالهم اليومية. شارك في الدعاية الانتخابية لمرشحي الجبهة الوطنية عام 1954، وكان في مقدمة المتظاهرين في انتفاضة الشعب العراقي في كانون 1956، فالتف حوله العمال والمهنيين من كافة الاختصاصات، وكان هو قدوتهم ورئيسهم، ما أدى إلى تنامي المضايقات والأحقاد التي استهدفته وجماعته، باعتباره من المتمردين على الأنظمة الاستبدادية الموروثة التي كانت سائدة وقتذاك، فصدرت الأوامر عام 1959 من الجهات العليا في البصرة بإلقاء القبض على (هندال)، وإيداعه السجن بتهمة التحريض على العنف. كانت تلك الخطوة هي القشة التي أسقطت ديناصورات الحكومة المحلية، فزعزعت أركانها بخروج آلاف المتظاهرين المنددين بإجراءاتها التعسفية الارتجالية.
تجمع المتظاهرون الكادحون أمام مبني المحافظة. كانوا يهتفون بحناجرهم المبحوحة: (حي ميت هندال إنريده). خرج المحافظ مذعوراً حائراً. لا يدري كيف زحفت تلك الجماهير الغاضبة نحو عرينه الحصين. سأل حاشيته عن (هندال). من هو ؟. أين يعمل ؟. ما الذي جرى ؟. ولماذا جرى الذي جرى ؟. لم تكن الحاشية تدرك قيمة هذا الهندال ومكانته في قلوب الناس. طلب المحافظ استدعاء قائد الشرطة لتفريق المظاهرة، فأطلق بضعة عيارات ناريه طائشة بغية إرهاب الناس وتفريقهم، لكنهم توحدوا وتكاتفوا، ثم تقدموا بثبات نحو شرفة المحافظة، وهم يرددون أهزوجتهم الموحدة (حي ميت هندال أنريده).
قال المحافظ لحاشيته: أطلقوا سراح الرجل، واجلبوه الآن من خلف القضبان. مرت لحظات قلقة كادت فيها الجموع البشرية تقتلع مبنى المحافظة، فخرج عليهم (هندال) بجبينه الناصح، ليرسم بذراعه المفتول علامة النصر المؤزر.
عاد (هندال) إلى بيته مرفوعاً فوق رؤوس الجماهير الثائرة. لكنه خرج من بيته في يوم من أيام عام 1979 ولم يعد حتى يومنا هذا، فالسلطات الجائرة لن تتوقف أبداً عن ممارسة هواياتها الموروثة في إشاعة الظلم والقهر والاستبداد مهما تغير الزمان، ومهما تبدل المكان. وهكذا كان الجنوبيون من الزبائن الدائميين لتلك السلطات على مر الدهور والعصور.
وللحديث بقية. .
26.docx
Reply all
Reply to author
Forward
0 new messages