نبيل شرف الدين يكتب : أصدقائي الخونة

0 views
Skip to first unread message

kareem elbehirey

unread,
Aug 12, 2010, 11:48:07 AM8/12/10
to abd...@googlegroups.com, ala...@googlegroups.com, Egypt_citize...@yahoogroups.com, egyptiansag...@googlegroups.com, egyp...@yahoogroups.com, egywo...@googlegroups.com, trauma...@googlegroups.com, ua...@amnesty.org, Nabil Sharaf Eddine, samy_...@yahoo.com, salam...@aol.com, shahe...@yahoo.com

بالطبع لا أعني بالخونة تلك الكائنات المحسوبة زورًا على الجنس البشري، فهؤلاء يمكن أن تتعثر فيهم قدماك في شقوق الأرض، إنما قصدت كبار الخونة ممن يسكنون قلوبنا، ويستقرون في ضمائرنا، ونتورط في محبتهم، ليصبحوا "أصدقاء"، نتقبلهم كما هم، ويبادلوننا السلوك ذاته بلا قيد ولا شرط، لكن بعضهم يفعلها فجأة ويرحل دون إذن ولا مقدمات، حتى أنهم لا يكلفون خاطرهم عبء لحظة وداع أخيرة.
سامحهم الله جميعًا هؤلاء الأصدقاء الخونة الذين فعلوها.. ومضوا، ليترك كل منهم ندبة في القلب تستعصي على النسيان، حتى "تكسرت النصال على النصال"، ومع الغياب المباغت لكل واحد من هؤلاء "الأصدقاء الخونة"، كانت قطعة في القلب تموت.. لحد أنك لو غرست فيه السكين الآن، فربما لن تجد قطرة دم واحدة تسيل.
كانوا من مشارب شتى، ودروب لا سبيل لالتقائها، فلا صلة تجمع بينهم سوى صاحبكم المنكوب بحبهم جميعًا.. بعضهم عرفته منذ أن تفتحت عيوني على الحياة، وآخرون صادفتهم في مسالك العمر ومحطاته المتعددة.. وما حدث أن أنبلهم فعلوها فجأة وماتوا بعد حياة مبتسرة ونهايات فاجعة.
كل مرة كنت أتلقى نبأ وفاة أحدهم، كانت تدهمني لحظة انكسار، أعجز معها عن البكاء، أو حتى الكلام، لتهيمن على الروح حالة من الكآبة والتسليم بحكمة الله تعالى وقدره.
حازم شحاتة.. الذي كانت علاقاته مع جميع من عرفهم تشبه الأمومة، فهو مستعد دائمًا لتقبلهم مهما كانوا، والتسامح مع هفواتهم وتفهم حماقاتهم، حتى قضى نحبه محترقًا في الحادث المأساوي الشهير الذي شهده قبل أعوام خلت مسرح قصر الثقافة بمدينة بني سويف.

وأحمد سعيد.. رفيق الطفولة الذي تربطني به صلات القربى والجيرة والنشأة المشتركة، فقد التهم الفيروس الخبيث كبده، وراح يذوي قطعة.. قطعة، لينتهي به المطاف في غرفة قذرة داخل مستشفى حكومي حقير، وشملته رحمة ربه فلم يضطر للبقاء في تلك الظروف الوضيعة سوى بضعة أيام قليلة، ارتاح بعدها من المرض والخيبات والفقر والأشرار الذين امتلأ بهم الكون.
أما أحمد جودة الذي جمعتني به محطة الوعي والاستنارة في بدايات العمر، والانبهار بالأفكار التقدمية، وخيار الانحياز للبسطاء، والانشغال بحفلات الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، حتى أن أحمد جودة كان يرى أن غير اليساريين مشكوك في إنسانيتهم، أو في قواهم العقلية.
كان من أنبل اليساريين المصريين الذين التقيتهم، رغم أنه اضطر إلى الهجرة إلى لندن للعمل في صحيفة "الشرق الأوسط"، ليصبح خلال سنوات أحد أبرز محرريها العاملين في مطبخها المهني في عزّ تألقها، حين كانت ترفع شعار "صحيفة لا تتثاءب"، وفجأة.. وكعهدي به قرر أن يضحي بهذا النجاح، وحتى بابنته الوحيدة، ليعود إلى نداهته القاهرية، والتي سبق أن اختطفته من مسقط رأسه في الفيوم، وأخيرًا لقي مصرعه في حادث سير عبثي وهو عائد إليها.

أخيرًا وصلني نبأ مصرع نبيل فتحي، الذي لا أحسب أن أحدًا خارج دائرته الاجتماعية يعرفه، فقد كان رجلاً منسحبًا من كل المعارك.. رقيق الحاشية، يفضل أبسط الخيارات لحياته دون أن يلتفت لتقريع أسرته بأنه ليس طموحًا كبقية رفاقه وأنه خامل الهمّة، ولم يكن يلتفت إلى كل هذه التهم، بل كان يؤثر الصمت مكتفيًا بابتسامة ساخرة، كانت تقول ما تعجز عنه قريحة كبار المبدعين.
أبلغني صديق مشترك بنبأ وفاته في حادث سير عبثي أيضًا، قاتل الله السيارات وفوضى المرور في مصر، التي يتدنى فيها سعر الإنسان ليكون أرخص من ثمن السيارة التي قتلته، وأرجوكم لا تحتقروني إذا اعترفت بأنني لم أتمكن حتى من السير في جنازته، فقد كانت صدمتي بالنبأ أبلغ من الامتثال للتقاليد، لقد جلست وحيدًا في غرفتي، ولأول مرة منذ أن تجاوزت مرحلة المراهقة بكل ما يعتريها من تقلبات نفسجسمية هائلة. رحت أبكي بكل ما أوتيت من قدرة على النشيج، وليلتها لم تسعفني قدماي حتى على النهوض من الأرض إلى السرير، فنمت مكاني طويلاً، وللأسف لم أحلم به ليلتها، لكن صورته لم تزل ماثلة أمام عيني أكاد أتحسس ملامحه الوديعة، وأسمع صوته المميز الذي يمكن أن أتعرف عليه وسط طوفان من أصوات البشر والطيور، وحتى البقر.

كل هؤلاء الأصدقاء على قدر محبتي الهائلة لهم في كفة، وخالد زمزم في كفة أخرى، فقد مات الفتى بين ذراعي برصاص أشرار من عصابات الإرهاب التي ترتدي مسوح التأسلم، وكانت واقعة شهيرة في حي إمبابة الشهير، وحينها كنت ضابط شرطة في مستهل حياتي، وكان خالد يصغرني بنحو ثلاثة أعوام، وكان أنبلنا وأشجعنا وأكثرنا إنسانية ورقة.. كان كما تصفه القريحة الشعبية "ابن موت"، فلم تحتمله الحياة لهذا كان ينبغي أن يمضي كالشهاب.
خاله الفنان الكبير شكري سرحان، وكان يشبهه إلى حد كبير، وفي مهمة عمل لملاحقة إحدى الجماعات الإرهابية أفرغ أحدهم رصاص بندقيته في صدره، فتحملها نيابة عنا جميعًا أنا وبقية الزملاء، وغرقنا في دمه حتى تصور القتلة أنهم أتوا علينا جميعًا، وبالمناسبة ما زلت أحتفظ ببقية ملابسه الملوثة بدمه في خزينتي الخاصة، ولم أكن أملك له فضلاً عن الدعاء بالرحمة والمغفرة، سوى أن أطلق على ابني البكر اسمه، لأذكره ما حييت.
بعد كل هؤلاء دعوني أعترف لكم بأنني لم أعد قادرًا على محبة أحد ولا كراهيته، لهذا رحت أقنع نفسي بأن "كل شيء على ما يرام.. الوطن والأهل.. المال والبنون.. العمل والزملاء.. الصحة والمستقبل، ومع أنه لا شيء يوحي بذلك أبدًا، إلا أنني دخلت هذه الحالة أو الأكذوبة وأغلقت على نفسي بإحكام شديد".
في أبعد نقطة بالذاكرة، هناك "قناعة ما" تسكنني بأن الوطن أصبح مثل راقصة الباليه العرجاء، وأن الأهل والأحبة موزعون بين الموت والغربة، وأن "المال والبنون" نعمتان لا ناقة لصاحبكم فيهما ولا جمل، وأن العمل شاق ويستنزف أعصابي، وأن الزملاء خبثاء رغم حرصهم على إخفاء ذلك، وأن الصحة معتلة للغاية، وأن المستقبل كالح بأفضل الحالات، وأنني شخصيًا منخور من الداخل حتى النخاع، ومع كل ذلك أدير ظهري للكون كله، وألتف حول نفسي قائلاً إن كل شيء على ما يرام.. نعم كل شيء على ما يرام.
أعوام طويلة مضت، وأصدقاء نبلاء رحلوا، ومع ذلك فلا زال كل شيء على ما يرام، ومن فرط "المايورامات" التي رددها صاحبكم، قرر أن يبحث عن امرأة تضع "مايوراماتها" على "مايوراماته"، حتى يتعاطيا مع ما تبقى من الحياة بأقل قدر ممكن من الخسائر، وذات صباح عادي استيقظ صاحبكم مبكرًا على غير العادة، فاستحمَّ مرتين متتاليتين، ثم شرب قهوته الباردة على أنغام أغنيات قديمة لا يذكرها، وقرأ بضعة أبيات من ديوان المتنبي، ومضى مزهوًا دون سبب أو مبرر، لكنه كان مع ذلك في أفضل حالاته.
وكل عام وأنتم بخير
Na...@alazma.com هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته
* رئيس تحرير الأزمة.
للمزيد
نرجو زيارة موقع
الازمة
Reply all
Reply to author
Forward
0 new messages