الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
1 ـ معرفة إقرار وهي التي اشترك فيها الناس و هي معرفة لا تقدم ولا تؤخر :
أيها الأخوة الكرام ، مع فائدة جديدة من فوائد كتاب الفوائد القيم لابن القيم رحمه الله تعالى . هذه الفائدة تقول : معرفة الله تعالى نوعان ، النوع الأول معرفة إقرار وهي التي اشترك فيها الناس , البر والفاجر , والمطيع والعاصي ، كل أهل الأرض إلا قلة قليلة ممن عطلت عقلها تؤمن بالله :
( سورة الزمر الآية : 38 )
إبليس آمن بالله رباً ، قال ربي :
( سورة ص )
( سورة الأعراف )
إبليس آمن بالله خالقاً ، قال :
( سورة الأعراف )
هذه المعرفة التي هي مشتركة بين كل الخلائق معرفة لا تقدم ولا تؤخر ، وكأن هذه المعرفة لا تحمل على طاعة الله .
الإيمان بالله من دون أن تلتزم ، من دون أن تقف عند الحلال والحرام ، من دون أن يراك حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك ، لا قيمة لها إطلاقاً وقد أُكد هذا كثيراً حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ ، قَالَ : الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ )) .
[ مسلم عن أبي هريرة ]
النقطة الدقيقة جداً أنك إن لم تستجب ، إن لم تستقم ، إن لم تلتزم ، إن لم يراك الله حيث أمرك ، ويراك حيث نهاك ، فهذا الإيمان لا جدوى منه إطلاقاً والدليل :
(سورة الكهف)
لا بد من عمل صالح وفي هذا العمل الصالح استقامة على أمر الله .2 ـ معرفة توجب محبة الله و تعلق القلب به و خشيته و الإنابة إليه :
معرفة الله نوعان ؛ نوع تسمى معرفة إقرار ، وهي التي اشترك فيها جميع الناس البر والفاجر , والمطيع والعاصي ، لكن المعرفة التي أرادها الله التي دفعنا إليها ، التي طلبها منا ، معرفة توجب الحياء من الله ، توجب المحبة له ، توجب تعلق القلب به ، توجب الشوق إلى لقائه ، توجب خشيته ، توجب الإنابة إليه ، توجب الأنس به ، توجب الفرار من الخلق إليه ، هذه المعرفة الخاصة الجارية على لسان القوم هي المطلوبة ، معرفة تثمر طاعة ، معرفة تثمر محبة ، معرفة تثمر شوقاً ، معرفة تثمر حياءً ، فما لم يكن هناك نتائج إيجابية لهذه المعرفة ، هذه المعرفة لا تقدم ولا تؤخر .
أيها الأخوة ، هذه المعرفة لها بابان واسعان ، والحقيقة التي أقولها كثيراً ، هناك آيات كونية ، وآيات تكوينية ، وآيات قرآنية ، والآية الدالة على عظمة الله هذا الكون ، فهو مظهر لأسماء الله الحسنى ، وأفعال الله عز وجل فيها حكمة بالغة ، لأن كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق .
وآياته القرآنية كرمه ، آياته بشكل مطلق أنواع ثلاثة ، خلقه نوع ، وأفعاله نوع ، وقرآنه نوع ، آيات الكون ينبغي أن تتفكر بها ، الدليل الأول :
( سورة آل عمران )
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : "الويل لمن لم يتفكر بهذه الآية" .
أي طريق معرفة الله أن ترى صنعته ، أن ترى حكمته ، أن ترى علمه ، أن ترى قدرته ، أن ترى غناه ، أنت حينما تتعرف على أسماء الله الحسنى تقبل عليه ، تماماً كما لو أن طالب علم يتحرق على مسكن يؤوي إليه ، بلغه أن محسناً كبيراً عنده بيت هيأه لطالب علم ، هذه المعلومة تجعله ينطلق إلى هذا المحسن ، هو طالب علم ، وما عنده بيت ، أحياناً المعلومة الدقيقة عن الله عز وجل تدفعك إليه ، تدفعك إليه بكل ما تملك .
1 ـ حينما تعرف أسماء الله الحسنى تقبل عليه وتعرفه و ترضى بأفعاله :
لذلك :
( سورة الأعراف الآية : 180 )
أنت حينما تعرف أسماء الله الحسنى ، تعرف صفاته الفضلى ، تعرف كمالاته ، تسعى إليه ، تقبل عليه ، تسأله وحده ، تتوكل عليه وحده ، تعلق الأمل عليه وحده ، لا بدّ من أن تعرفه حتى تقبل عليه ، لا بدّ من أن تعرفه حتى تستسلم لقضائه وقدره ، لا بدّ من أن تعرفه حتى ترضى بقضائه وقدره ، حتى ترضى بأفعاله ، المعرفة هنا من أجل أن تنطلق إليه، الإنسان ينطلق إلى القوي ، إلى الغني ، إلى القدير ، إلى الحكيم :
( سورة الأعراف الآية : 180 )
هذا المعنى الأول .
المعنى الثاني كيف تتقرب إلى الله ؟ تتقرب إلى الله بكمال مشتق من كماله ، هو رحيم فأنت إذا رحمت من حولك يحبك الله :
(( إن كنتم تحبون رحمتي فارحموا خلقي )).
[الديلمى عن أبى بكر]
هو عدل ، فإذا كنت عادلاً بين أولادك ، بين أصهارك ، إذا كنت عادلاً حينما تحكم في موضوع إذا كنت منصفاً إنصافك هو قربة إلى الله .
2 ـ حينما تعرف أسماء الله الحسنى تقبل عليه بكمالات مشتقة من كمالاته :
المعنى الثاني :
( سورة الأعراف الآية : 180 )
أي أقبلوا عليه بكمالات مشتقة من كمالاته .
أيها الأخوة ، الباب الأول أن تتفكر في خلق السماوات والأرض ، الباب الثاني أن تنظر في أفعاله ، قال تعالى :
( سورة الأنعام )
صناديد قريش ، أقوياء قريش ، زعماء قريش ، سادة قريش ، الأغنياء الأقوياء حينما وقفوا في وجه الحق أين مصيرهم ؟ إلى مزبلة التاريخ ، الضعاف الشباب المؤمنون الذين آمنوا بالله عز وجل والتفوا حول رسول الله أين هم اليوم ؟ في السجل الذهبي للبشرية ، نقول : سيدنا أبو بكر ، سيدنا عمر ، سيدنا عثمان ، سيدنا علي ، سيدنا طلحة ، سيدنا ابن الزبير ، فلذلك : ﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ ، هؤلاء الذين طغوا وبغوا ما مآلهم ؟ وفي التاريخ المعاصر هذا الذي هدم بيوتاً لا يعلمها إلا الله ، وقتل أناساً بريئين ، وهذه السنة السادسة لم يمت بعد : ﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾. فأفعال الله ينبغي أن تنظر إليها ، الباخرة العملاقة التي قيل عنها إنَّ القدر لا يستطيع إغراقها، غرقت في أول رحلة من رحلاتها ، وتحمل على متنها نخبة أغنياء أوربا ، قدروا ثمن الحلي بالمليارات ، مدينة صنعت بشكل لا تحتاج إلى قوارب نجاة ، لأنه بحدِّ زعمهم إن القدر لا يستطيع إغراقها ، فارتطمت بجبل ثلجي ، وانشقت شطرين ، وغرقت ، وسمعت خبراً قبل أيام أن آخر إنسان نجا من ركابها مات قبل يومين ، إغراق هذه الباخرة فيها حكمة بالغة ، فأنت مع خلق الله تتفكر ، ومع أفعاله تنظر ، ومع آياته تتدبر .
قال تعالى :
( سورة الفجر )
جاء الرد الإلهي بكلمة ردع ونفي ، قال :
( سورة الفجر)
أن يا عبادي ليس عطائي إكراماً ، ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء ، وحرماني
دواء :
( سورة الحاقة )
مصير المؤمن ، ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) ﴾ صليت الفجر في وقته ، صليت الفجر في مسجد ، كنت مستقيماً ، كنت صادقاً ، كنت أميناً ، كنت مخلصاً ، كنت متقناً لعملك .
أيها الأخوة ، هذه الأعمال تثمر العطاء الإلهي ، إذاً معرفة الله عن طريق التفكر بآياته الكونية ، والنظر بأفعاله ، وتدبر آياته القرآنية ، إذاً ولهذه المعرفة بابان واسعان باب التفكر والتأمل في آيات الله بأنواعها ، والباب الثاني باب التفكر والتأمل في آياته المشهودة و تدبرها ، أي لك أن تقرأ القرآن قراءة تعبد هذا شيء طيب ، لكن لا بدّ من أن تقرأه قراءة متأنية ، قراءة تدبر ، أن تقف عند آية آية أين أنا منها ؟ الله عز وجل يصف المؤمنين :
( سورة الأنفال)
يا ترى أنت حينما تقرأ القرآن هل يضطرب قلبك ؟ هل تدمع عينك ؟ هل تتشوق إلى الله ؟ هل تعيش حالة راقية مع الله عز وجل ؟ فإذا قرأت هذه الآية ينبغي أن تعرض نفسك عليها أين أنت منها ؟ أنت مطبق لها ، التدبر يعني أن تعرض نفسك على الآيات آية آية.
1 ـ اشتغال الناس بالنعمة عن شكرها :
أيها الأخوة ، أما الإنسان حينما لا يستقيم على أمر الله ، لا يطيعه ، لا يقبل عليه، لا يتوكل عليه ، هناك أسباب ذكرها ابن القيم في كتابه الفوائد ـ رحمه الله تعالى ـ قال : أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء : اشتغالهم بالنعمة عن شكرها . الله عز وجل قال في الفاتحة :
( سورة الفاتحة )
الحمد موجود يرى هذه النعم ، والكافر يرى هذه النعم ، بل إن الكافر يستمتع بهذه النعم أضعافاً مضاعفة لكنه لا يعزوها إلى الله ، لا يعبرها إلى المنعم ، المؤمن يعبر النعمة إلى المنعم ، استيقظ صباحاً ، له جاهزية عالية ، سمعه ، بصره ، قوته ، يمشي ، يتكلم، يأكل ، يشرب ، النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ يقول :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ )) .
[ الترمذي عن أبي هريرة ]
سمح لي أن أعيش يوماً جديداً : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي )) . سمعه، بصره ، نطقه ، حركته ، أجهزته ، قلبه ، رئتيه ، معدة ، أمعاؤه : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ )) .
سمح لك أن تستيقظ كي تصلي ، فالمؤمن ينتقل من النعمة إلى المنعم ، ببيته زوجة الحمد لله ، عنده أولاد الحمد لله ، يحمل اختصاصاً معيناً يرتزق منه جيداً ، يتقن صنعة، سمعته طيبة ، ينتقل من النعمة إلى المنعم ، فالمؤمن دائماً مع الله شاكراً ، يا رب لك الحمد ، الذي أغلق على الناس باب التوفيق اشتغالهم بالنعمة عن المنعم ، ما رأوا المنعم رأوا النعمة ، إنسان في الصحراء على وشك أن يموت جوعاً ، وجد مائدة عامرة بما لذّ وطاب ، أكل ، ألا يقتضي أن يسأل من جاء بهذه المائدة ؟ من هيأها ؟ من قدمها لي ؟
2 ـ رغبتهم في العلم وتركهم العمل :
الآن رغبتهم في العلم , وتركهم العمل . العلم يعمل وجاهة ، من تعلم العلم ليماري به السفهاء ، أو ليجادل به العلماء ، أو ليصرف وجوه الناس إليه ، فليتجهز إلى النار، اشتغل بالعلم ولم يعمل به ، اشتغل بالعلم ليحصل مكانة ، الآن هناك ألقاب ؛ فلان دكتور ، فلان رئيس قسم ، فلان أستاذ ذو كرسي ، لكن انشغل بالعلم ، ومكانته ، وعباراته ، وألقابه ، ولم يعبأ بتطبيقه ، فلذلك السبب الثاني أنهم رغبوا بالعلم وتركوا العمل .
3 ـ المسارعة إلى الذنب و تأخير التوبة :
الآن : وسارعوا إلى الذنب وأخروا التوبة ، مع أن الله عز وجل يصف المؤمنين بأنهم:
( سورة النساء الآية : 17 )
يحدث عند كل خطأ توبة .
4 ـ الاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بهم :
اغتروا بصحبة الصالحين ، وتركوا الاقتداء بهم ، شيء مألوف أن الناس يحبون العلماء ، وضع جيد وطيب ، لكن يدعوه ، يمدحه ، يثني على أخوانه ، لكن لا يطبق منهجه ، حياته الخاصة تختلف عن حياة العالم في بيته ، في علاقاته ، في ولائمه ، في احتفالاته ، في سفره ، في إقامته ، لكن يهمه إذا عمل عقد قران أن يكون فلان أحد المتكلمين ، وإصراره عجيب على حضور العلماء فلان حضر ، فلان حضر ، يعتز بهم ، شيء جيد ، لكن أنت في واد وهم في واد ، أي اغتروا بصحبة الصالحين وتركوا الاقتدار بهم .
5 ـ الحرص على الدنيا حرصاً لا حدود له :
الدنيا تدبر عنهم ، الإنسان في سن الخمسين أو الستين يوجد خمسين علة بجسمه، وهو حريص على الدنيا حرصاً لا حدود له ، الدنيا تدبر عنهم وهم يتعلقون بها ، والآخرة تقبل عليهم ، وهم معرضون عنها ، والله بلغني عن إنسان بالثمانين أسس كازينو ، ماذا بقي لك للقبر ؟ هذا وقت توبة ، وقت صلة بالله ، وقت أعمال صالحة ، وقت إنفاق مال ، فالذي يصر على الدنيا ، فهذه الأشياء الست منعت عنهم التوفيق .
6 ـ ترك الرغبة فيما عند الله والرهبة منه :
لذلك هذا الوضع المتردي في الإنسان أصله ترك الرغبة فيما عند الله ، والرهبة منه ، لا هو راغب فيما عنده ، ولا هو خائف منه ، وأصل هذا ضعف اليقين ، وأصل ضعف اليقين ضعف البصيرة ، وأصل ضعف البصيرة مهانة النفس ، أنت لا تعلم أنك المخلوق الأول ، لأنك من بني البشر ، إنك المخلوق الأول :
( سورة الأحزاب الآية : 73 )
أيها الأخوة ، أي الذي يتوهم أنه يعرف الله ولا يطيعه يعلم علم اليقين أنه لا يعرفه ، فمن أعجب العجب أن تعرفه ثم لا تحبه ، وأن تحبه ثم لا تطيعه .