الجامعة التي رأيت
بدرية البشر
بالأمس زرت جامعة في أورلاندو (الولايات المتحدة)، قاعاتها الدراسية المتطورة تعادل فندقاً في فخامتها، لا تعاني هذه الجامعة مشكلة انقطاع في الكهرباء، ولا يجلس المراقبون في الأركان والزوايا لضبط السلوك واللباس، بل يجلسون لتقديم المساعدة. الأجهزة الإلكترونية في كل مكان تضع فوق رأسها علامة استفهام لتدلك على الجواب الشافي، ولا أحد يضيع قاعته، فقط يضع اسمه في الجهاز ليعرف في أية قاعة هو. الطلاب في القاعة الدراسية لا يزيدون على عشرة، يفتحون أجهزة الكومبيوتر الشخصية، ويندمجون في متابعة علمية يحدوها الشغف والدهشة، صور المميزين من الأساتذة والطلاب والخريجين على الجدران مثل نجوم هوليوود، الطلاب يتسلمون مناهجهم الدراسية في كومبيوتر محمول لا في كتب، لم أرَ قلماً ولا ورقة في حقائبهم ولا في أيديهم، بعض الطلاب يدرس على قروض مسهلة ومخففة توصله للمستقبل بأمان، لا إلى السجن.
هذا فقط الشكل الظاهري للجامعة، أما مناهجها فتجعلك تظن أن الطلاب جاؤوا ليتسلوا في عالم المعرفة والدهشة، لفت نظري تعليق طالب سعودي عن أستاذة لمادته لمس بأسها وقوتها وسعة علمها فقال إنها تصلح أن تكون رئيسة جمهورية لا معلمة، الأساتذة لا يقرأون المعرفة من كتاب، لأنهم يعرفون أن قراءة الطالب للكتاب مسبقاً تجعله مفلساً، لذا يفتش عن الطريقة التي تعيده من جديد ساحر معرفة، يقود القصة من أولها فلا يعرف الطالب أن نهايتها حانت إلا حين يتوقف عند الثانية الأخيرة من المحاضرة. واجبات الطلاب كلها طريق للتعلم، كيف تنجز مشروعاً؟ وكيف تخطط له؟ وكيف تصل لنتائجه؟ الطالب شريك المعلم لا متلقٍ سلبي، لا وجود للحفظ والصم، وليس الطالب المتفوق بمرتبة الشرف هو الطالب الأقوى ذاكرة والحافظ للنصوص، بل المبدع والمرن والمفكر، وكلهم مبدعون في تعددية تكشف كم هو العقل الإنساني يمتلك قدرات هائلة أمام الحوافز.
كنت أظن أن التعلم باللعب هو فقط في طريقة مونتيسوري التي تدرس في حضانات التعليم المبكر للأطفال، والتي لا تزال طرقها متعثرة في حضاناتنا، وتقتضي أن تدفع مبالغ طائلة ليلتحق ابنك بها، وبعضها يمتلك المنهج لكن تطبيقه يفشل بسبب ضعف المعلم والمعلمة، هنا المعرفة قابلة لأن تكون شغفاً ولهواً وقصصاً وتركيب مكعبات، التراث في تاريخ المعرفة يكشف عن عباقرته المؤسسين الذين تجاوزوا زمانهم، لا يهدف التراث أبداً إلى أن يخاصمك أو يؤخرك أو يؤنبك على تجاوزه، التراث المعرفي لديهم يحمل ضوءاً لا نفقاً مسدوداً.
هل تظنون أن مئة ألف من الطلاب المبتعثين هم في حضارة هكذا، هم فقط من سيتغيرون إذا ما امتلكوا هذه المعارف؟ أظن أن عائلاتهم أيضاً ستتغير، فما عاد طالب اليوم هو نفسه ذلك الطالب الذي كان يرسل لوالده ووالدته الأميّين شريط كاسيت يروي فيه شوقه للكبسة والمرقوق، طالب اليوم المغترب يكلم والديه كل يوم بالسكايبي والآي فون وعبر مكالمات الإنترنت المجانية، عدا عن أن أميركا اليوم أصبحت مزاراً لكل العائلات التي يدرس فيها أبناؤها. كيف يمكن أن نخطط لغدٍ انفتح حاضره بكل هذه المعارف، المعرفة التي لا يختزلها كتاب ولا تدل عليها نصوص محفوظة، بل يقفز هنا وهناك عبر منجز تقني وحضاري يحسن الصياغة والاختصار والمقارنة، نحن أمام تحدٍ كبير عرفناه منذ زمن لكننا لا نفهمه جيداً، يقول: «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»؟