كتابللأديب الساخر محمود السعدني. في هذا الكتاب ستقرأ أسماء وهمية وأحداثًا واقعية. لا يتناول هذا الكتاب قصة الصحافة وإنما قصة اشتغال الأديب محمود السعدني بالصحافة التي مر خلالها بالعديد من الخرائب والمتاهات وصناديق القمامة ولام في ذلك الظروف والمرحلة التاريخية التي عاصرها. ورغم اللوحة المظلمة التي (رسمها) الكاتب في هذا الكتاب فقد كانت هناك نقط بيضاء ومضيئة وباهرة. وأشار الكاتب إلى دخول صحفيين بالمئات السجون دفاعًا عن رأى والتزامًا بمبدأ وكتاب يطاردهم البوليس كما يطارد السبع الجائع غزالًا شاردًا في غابة. ورغم كل شيء ستظل الصحافة تذخر بكتاب أكفاء هؤلاء الذين تحولت الأقلام في أيديهم إلى مدافع وتحولت الجرائد على أيديهم إلى ساحات قتال. من عبد الله النديم إلى مصطفى كامل إلى الشيخ على المؤيد إلى أحمد لطفي السيد إلى طه حسين إلى عباس العقاد إلى كوكبة الصحافيين الشبان الذين يمثلون مكان الصدارة في صحافة جيل القرن العشرين. وعلى ذلك فإن هذا الكتاب ليس تاريخًا وليس تسجيلًا ولكنه مجرد خواطر وانطباعات وذكريات حزينة ومريرة عن فترة من أعنف فترات مصر وأكثرها قلقا وازدهارًا وطموحًا ورغبة في تجميل الحياة.[1]
كافح محمود السعدنى جاهدًا وسعى راغبًا في أن يصبح صحفيًا. ذات صباح مبكر مِن عام 1946 خرج الكاتب من الجيزة يسعى وراء طوغان صديقه الذي كان قد سبقه وجرب حظه في صحف ومجلات كثيرة أغلقت كلها أبوابها. خرج يسعى خلفه وكانت كل عدته قلم حبر رخيص وكشكول فيه بعض الأزجال. كانت هناك فكرة في ذهنه لم تستطع التجارب والأيام أن تمحوها. فكرة أن الصحافة صاحبة جلالة وأن لها بلاطها وأنها حفلات ورحلات ونجم صحفى مشهور وزعماء يستيقظون في الليل على هدير صوته ووزارات تسقط تحت هول كلماته وعدل يقوم وظلم يندك بفضل توجيهاته وتعليماته. ولكن منظر الصحف التي طرقوا أبوابها لم تكن تطابق صورة الحلم الذي في أذهانهم. وقد استطاع طوغان أن يشق طريقه بسرعة لأنه كان يقدم رسومًا وهي بضاعة تختلف عن مهنة الكتابة التي يقوم بها الكاتب وهي عملية لا يستطيع كل إنسان أن يصنع مثلها. ولكنه في النهاية ورغم ذلك وصل.
كانت رحلته من البيت إلى شارع الخليج المصري وفي دكان في بيت كان يوما ما اسطبلًا لحمير أحد المماليك البحرية ومن هذا الإسطبل بدأ أول عمل صحفى. كانت المجلة اسمها الضباب وكان صاحبها كامل خليفة عامل طباعة استطاع استخراج رخصة صحفية باسمه وكانت الصحيفة معروضة دائمًا للإيجار. وقد استأجروا مجلة الضباب من كامل خليفة وأصدروا منها عدة أعداد رافعين عليها شعار: مجلة الشباب والطلبة والجيل الجديد. وقد كان كامل خليفة نموذجًا لمئات وألوف الناس يزخر بهم العصر إنه شديد الجهل شديد الزكاء وكثير المشاكل مع عائلته. ومدمن حشيش ويدخن باستمرار ويحتسى فناجيل القهوة بلا حساب ويبدو وكأنه يرغب في أن يغيب عن الوعى إلى ما شاء الله}}. وكان فهمه السياسى ينحصر في التعديل الوزارى القادم ليحصل على إعلانات حكومية للصحيفة بخمسين جنيه كل شهر.
وقد عرف الكاتب عم كامل عن كثب وسرعان ما اكتشف أن صحيفته هي مأوى لعشرات من النصابين والمحتالين في غاية البراعة وذو إرادة وأصحاب مواهب. وقد التقى فيها بالرجل الذي باع الترام ونصاب آخر اسمه عسال وهو فنان نصاب. ولم تكن هذه الفئة كلها تتجه في نصبها على الفلاحين والفقراء ولكنها كانت تنصب على فئة الخواجات والحكام وأصحاب النفوذ. وكان هؤلاء النصابين مطاردين من البوليس الجنائي وفي الوقت نفسه على صلات طيبة بالبوليس السياسى. وذات مساء قُدّرَ للكاتب محمود السعدنى أن يهجر صحيفة الضباب إلى غير عودة. وقد أُلقى القبض على كامل نفسه في عملية نصب ولكن أخباره لم تنقطع أبدًا عن الكاتب. ومنذ عشرة أعوام التقى به كامل ليطلب منه أن يبحث له عن عمل في دار صحفية كبرى ولم يحضر بعد ذلك ولم يبحث له هو عن عمل. ثم عرف بعد ذلك أنه مات. وظلت علاقته بعم عسال قائمة. فذات مرة أصدر صحيفة أسبوعية كبرى اشتغل فيها عدد من الصحفيين اللامعين اليوم. وقد افتتح عيادة في إحدى قرى الريف وأجرى عمليات لعشرات انتهت كلها بالوفاة. ولقد خرج الكاتب من تجربته الأولى في الصحافة بحسرة. وفقد تلك الصورة الزاهية الألوان عن صاحبة ال وبلاطها. ولم يمر وقت طويل حتى صدرت صحيفة نداء الوطن. أصدرها نائب مدرسته القديمة وكان قد أصبح نائبًا على مبادىء الهيئة السعدية. وكان رئيس التحرير يُدعى مختار وهو رجلُُ شديد المهابة شديد الاحترام. ولقد رأى مختار أن السعدنى صغير السن لدرجة أنه لا يصلح للكتابة. وعندما اصطدم به فصله صاحب الجريدة. وبعد أعوام قليلة عرض عليه رئيس تحرير مجلة مسامرات الجيب بعض مقالات مختار ليبدى الرأى النهائي فيها.[2]
أصاب محمود السعدنى يأس قاتل جعله يفكر في الانتحار. خرج الكاتب من نداء الوطن وعاد يسرح خلف طوغان من جديد. وكان المشوار هذه المرة إلى مجلة الكشكول. والتقى في هذه المجلة برجل عظيم اسمه محمد حمدى وهو رجل طيب وفي رأسه أحلام كثيرة. كان ساحر الحديث يستطيع أن يقنع حتى الصخور وحتى الحمير. ولكنه كان يسقط دائمًا عند التجربة. لذلك اكتفى خلال رحلة حياته بإصدار الأعداد الأولى من الصحف الجديدة ثم الاستقالة لإصدار مشاريع جديدة. وكان على رأس الجريدة سعيد إسماعيل الذي كان على علاقة بالإخوان المسلمين. واستمر الكاتب في الكشكول ثلاثة شهور نشر خلالها أزجالًا ومقالات ثم أغلقت أبوابها. وشعر بالحزن الرهيب. ثم عاد من جديد يسعى وراء طوغان وفي هذه المرة إلى مجلة الوادى.
وكان صديقهم القديم زكريا الحجاوى قد سبقهم إلى مجلة الوادى. وأدرك وهو شديد الحسرة أن زكريا الحجاوى لا يصلح لهذه المهنة ولا يصلح لمنصب المدير. وفي الوادى التقى بكثيرين خليل الرحيمى وأحمد عباس وعمر رشدى وعبد الفتاح غبن. ولم يلبث أن أصابه يأس قاتل. وترك كل شئ فجأة وعاد من جديد إلى حوارى الجيزة وشوارعها. وها هو يقف وحده الآن في الحياة وكل شئ يمضى من حوله. وأصدقاء طفولته تبددوا جميعًا استطاع بعضهم أن يتلائم مع ظروفه وبعضهم استطاع أن يتلائم عليها. واعتراه تلك الأيام لحظات يأس عنيفة وفكر أحيانا في الانتحار وشرع ذات مرة في تنفيذ ما عزم عليه. ذهب إلى شاطئ النهر وكان يحمل في يده كراسة قديمة كتب على الجلدة مسافر بلا وداع. مجموعة قصص مصرية تأليف الكاتب المشهور محمود السعدنى. حقوق الطبع محفوظة للمؤلف. وقد بكى وهو واقف عند الشاطئ وقال في نفسه ياللعار هذه المدينة المترفة الجبارة التي يبعثر أهلها ألوف الجنيهات كل ليلة على موائد القمار لا تستطيع أن توفر له عشرة جنيهات كل شهر هي كل ما كان يتمناه من الحياة ولكن في اللحظة الأخيرة خانته شجاعته وكان الظلام قد حل على الكون وأصبح الشاطئ أكثر وحشة وأكثر كآبة. فأطبق بشدة على الكراسة وعاد من جديد إلى قهوة السروجى ليلعب الكومى كما اعتاد كل مساء.[3]
3a8082e126