أما قول القائل أحبك بالله فلم نطلع على أحد من السلف قالها في هذا السياق ولا ندري مراد قائلها لأن الباء تأتي لمعان كثيرة منها السببية والظرفية والاستعانة والتعدية والتعويض وتأتي بمعنى مع وبمعنى من وبمعنى عن. قال ابن مالك:
حبّ الله -تعالى- من أعظم النِّعم التي ينالها العبد ويُشرّف بها فبذلك ينال خيري الدُّنيا والآخرة وبه يُوفّق إلى مزيدٍ من العمل ويُعصم عن كثيرٍ من الزَّلل فمحبّة الله هي الغاية التي يتنافس لأجلها الصالحون والمُحسنون لينالوا القرب من ربّهم والفوز بمرضاته ويتحقّق ذلك بالعلم التامّ بالله -سُبحانه- كما قال ابن رجب -رحمه الله-: "فالعلمُ النافعُ ما عرَّفَ العبدِ بربِّه ودلَّه عليه حتى عَرَفَ ووحَّدَهُ وأَنِسَ به واستَحَى من قُربهِ وعَبَدَهُ كأنهُ يَراهُ".[١]
والتزام هَدْيه وشَرْعه في أمور الحياة كما قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[٤] فمَن أحبّه الله وفّقه لاتباع هَدْي النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الذي يعدّ من أسباب تحقيق ونَيْل الخير.
كما أخرج الإمام البخاريّ عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)[٥] فمَن أحبّه الله يسّر له سلوك طريق العلم الشرعيّ والتفقّه في دِين الله.
في قَوْله -عزّ وجلّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)[٦] ومن تلك الصفات: الرّحمة بالمؤمنين والتواضع لهم واللين في التعامل معهم.
كما أخرج الإمام البخاريّ في الحديث القُدسيّ أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال فيما يرويه ع ربّه -عزّ وجلّ-: ( إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ...).[٧]
كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (إِذَا أحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحْبِبْهُ فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فيُنَادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ).[٨]
وإن خالف ذلك ما تحبّه النَّفس ويحقّق الهوى والرّغبة وبَغْض ما يبغضه الله ولو وافق ذلك ما تهواه النَّفْس كما أخرج الإمام البخاريّ في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: مَن كانَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا ومَن أحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ ومَن يَكْرَهُ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْقَذَهُ اللَّهُ منه كما يَكْرَهُ أنْ يُلْقَى في النَّارِ).[١٠]
وما أمر به والانتهاء عمّا نهى عنه قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).[٤]
فذلك من أهمّ الأسباب وهو الأساس في نَيْل محبّة الله -تعالى- والسبب الأعظم فيما يُتقرّب به إلى الله سبحانه كما ثبت في الحديث القُدسيّ: (وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه).[٧]
في كلّ وقتٍ وفي كلّ مكانٍ فذِكْر الله من أسباب طَرْد الشيطان والنفاق فذلك وصيّة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- كما ثبت في حديث عبدالله بن بسر -رضي الله عنه-: (أنَّ رجلًا قال يا رسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به قال: لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذكرِ اللهِ).[١٣]
قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).[٤]
والشَّوق له وذلك حين تُبشّر الملائكة المؤمن حين احتضاره بما أعدّه الله -سُبحانه- له كما أخرج الإمام البخاريّ في صحيحه عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ قالَتْ عائِشَةُ أوْ بَعْضُ أزْواجِهِ: إنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ قالَ: ليسَ ذاكِ ولَكِنَّ المُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ برِضْوانِ اللَّهِ وكَرامَتِهِ فليسَ شيءٌ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ فأحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ وأَحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ وإنَّ الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّرَ بعَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ فليسَ شيءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ وكَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ).[١٨]
فيحبّ العباد بعضهم بعضاً لله ليس لتحقيق غايةٍ وهدفٍ متعلّقٍ بالحياة الدُّنيا قال -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنَّ اللَّهَ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: أيْنَ المُتَحابُّونَ بجَلالِي اليومَ أُظِلُّهُمْ في ظِلِّي يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي).[١٩]
فمَن أحبّ الله رَضِيَ بكلّ ما يقضيه عليه لِعلمه بأنّ الله لا يقدر له إلّا بِما يعود عليه بالخير وأنّه خلقه مُكرّماً مُفضّلاً على جميع المخلوقات وجعل الجنّة منزله في الآخرة إن التزم بما أمره الله به إذ إنّ كُلّ ما يُعرض له من الابتلاءات إنّما هي رسائل تنبيهٍ وتذكيرٍ للعودة واللجوء إليه ولمعرفة حقيقة الحياة الدُّنيا ونَقْصها قال -تعالى-: (وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[٢٥] فالابتلاء في حقيقته أداةٌ للتطهير والتهذيب من الذّنوب والمعاصي كما ثبت في صحيح البخاريّ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (ما يُصِيبُ المُسْلِمَ مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ).[٢٦]
فمَن أَحبّ الله أسرع في أداء ما يحقّق رضاه كما قال الله -تعالى- على لسان نبيّه موسى -عليه السلام-: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[٢٧] فمَن أحبّ الله أُنِسَ في عبادته.
03c5feb9e7