إذا كان هناك تشبيهٌ للاقتصاد فسيكون أنه كالانسان الذي يقف على رجلين، إحداهما هو النظام المصرفي والرِّجل الثانية هي الأسواق المالية والنقود وهي الدماء التي تجري في عروق هذا الاقتصاد، ومن هذا المنطلق فتواجد سوق مالية جيدة داخل الاقتصاد علامة على قوة الاقتصاد وقدرته على تعبئة الموارد لضخها من خلال الأسهم والسندات والمشتقات المالية، كما أن الاقتصاد في حالة وجود سوق مالية متعافية قادر على استقطاب الاستثمار الاجنبي غير المباشر الذي يمكن أن يدخل من خلال هذه الأسواق، وعدم وجودها سيحرم الاقتصاد من هذه الخاصية المهمة لتمويله.
تعبئة الادّخار أساس في تطوير البورصة
سعدت جدا بالمشاركة في المؤتمر السنوي الثاني للسوق المالي الجزائري من خلال الجلسة الرابعة التي تمحورت حول الادخار والذي حاولت فيه التأكيد على الفرق الكبير بين الادخار والاكتناز، وأن ما يميز الاقتصاد الجزائري هو الحالة الثانية نظرا لحجم السوق السوداء فيه والتي ناهزت الـ90 مليار دولار وفق التقديرات الرسمية، وفي المقابل يشكل الادخار الرسمي 12.5 مليون حساب منشئ على مستوى البنوك الجزائرية جمعت ما يعادل 3700 مليار دينار، ويرتفع هذا الرقم إذا اضفنا إليه الودائع لأجل إلى مبلغ يعادل 7600 مليار دينار.
هذه الأرقام تعكس الواقع الذي نعيشه في الاقتصاد الجزائر والذي بعد أن أطلقت مجموعة من المبادرات على غرار نظام البنوك الرقمية في النصف الأول من شهر نوفمبر 2024 وفتح المجال أمام الصكوك الاسلامية في مشروع قانون المالية لسنة 2025، تعتبر هي الأخرى واحدة من أهم الخطوات القادرة على تحويل الاكتناز إلى إدخار، يضاف إلى ذلك ظهور بوادر التوجه نحو إنشاء مصارف إسلامية قادرة على استقطاب الاكتناز الموجود في السوق السوداء وتحويله إلى إدخار يمكن إستخدامه في تنشيط الاقتصاد الوطني بصفة عامة والسوق المالية بصفة خاصة.
بورصتنا بحاجة إلى تطوير وتفعيل
إن هدف المتعاملين في السوق المالي يكون لهدفين أساسيين. الهدف الأول هو الاستثمار، ويحتفظ فيه صاحب السهم بما إشتراه عادة في السوق الأولية لمدة طويلة تتجاوز السنة من أجل الحصول على توزيعات الأرباح التي قد تكون عبارة عن أموال إذا قررت المؤسسة توزيع الأرباح أو أسهم جديدة في حالة قررت المؤسسة أن تستخدم الأرباح في تطوير وتوسيع المؤسسة.
أما الهدف الثاني فيتعلق بالمضاربة، إذ يهدف في هذه الحالة مشترو الأسهم إلى الحصول على الفوارق الخاصّة في أسعار الأسهم نتيجة العرض والطلب عليها، وهي أرباح بسيطة لكنها مجزية نظرا لعدد الأسهم الكبيرة المتداولة في السوق.
إن أبرز ما يميز البورصة الجزائرية هو العدد القليل للمؤسسات الموجودة فيها –06 مؤسسات- وهو ما يجعل السوق الثانوي ضعيفا جدا خاصة بالنسبة لمن يشترون الأسهم من أجل المضاربة والاستفادة من الفروق الحاصلة جراء بيع الأسهم وشرائها. والمشكل الأكبر هو الاستراتيجية المتبعة في إدراج مؤسسات جديدة في البورصة، إذ تُدرَج بشكل تدريجي، وهو ما يبطئ تفعيل بورصة الجزائر رغم الاصلاحات المبرمجة فيها على غرار وضع منصة الكترونية لأوامر الشراء والبيع وتنصيب لجنة علمية للجنة تنظيم عمليات البورصة ومراقبتها، والتي تعدّ سلطة ضبط السوق الجزائرية. وإذ حاولنا المقارنة مع بورصات كبرى في الوطن العربي، نجد مثلا البورصة المصرية التي أدرجت فيها نحو 400 مؤسسة بقي منها الآن 220 مؤسسة بقيمة تصل إلى حدود 40 مليار دولار أمريكي.
صعوباتٌ لتطوير بورصة الجزائر
إن النمط الطاغي على الاقتصاد الوطني هو المؤسسات العائلية التي تعدّ البورصة عدوّة لها وتمويل نفسها من خلال المصادر الذاتية أو البنوك، هذا الواقع الذي حاولت القوانين التعامل معه فأعفت الشركات التي تفتح رأس مالها في المادة 133 من قانون المالية لسنة 2021 والتي تعدِّل المادة 66 من قانون القانون 13-08 كما يلي “تستفيد الشركات التي تسعّر أسهمها العادية في البورصة، من تخفيض في الضريبة على أرباح الشركات يـساوي معدل فتح رأسـمالها في البورصة، لمدة ثلاث (3) سنوات، وذلك ابـتداء من أول جانفي سنة 2021”.
هذه الإمتيازات لا تغري كثيرا أصحاب الشركات لأن الدخول إلى البورصة يقابله الشفافية المالية من خلال إصدار نشرات دورية حول الوضعية المالية للمؤسسة، وهو ما يجعل المؤسسات الاقتصادية تتخوف من هذا التوجُّه، يضاف إلى ذلك أن سوق المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الموجود في بورصة الجزائر منذ 2012 ليس واضح المعالم ولا التوجُّه، وطرق الانضمام إليه، رغم أنها مخففة مقارنة بتلك المطلوبة في السوق الرئيسية، إلا أنها تبقى مبهمة وغير مفهومة للمؤسسات لا من ناحية التقنية ولا من ناحية الامتيازات المقدَّمة.
الجدول أدناه يبين أهم شروط الادراج في بورصة الجزائر
المصدر: بورصة الجزائر (شركة تسيير بورصة القيم) دليل سوق المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، الجزائر، من دون سنة إصدار.
“مستشير”.. أول الشركات الناشئة في بورصة الجزائر
هاهي المؤسسة الناشئة “مستشير” تقتحم بورصة الجزائر من خلال الرفع من قيمة رأس مالها بطرح وصل إلى 125000 سهم قيمتها الاسمية بلغت 40 دينارا، أما القيمة السوقية للطرح الأولي فهي 760 دينار بعد عملية تقييم لمختلف أصول المؤسسة المادية والمعنوية وفق بيان لجنة ضبط بورصة الجزائر بتاريخ 25 نوفمبر 2024، ووفق المذكرة الإعلامية لشركة “مستشير”، فقد استعملت في العملية ثلاث طرق ثم قدّمت لكل طريقة وزنا معينا ليجري بعدها تقدير إجماليِّ قيمة المؤسسة وفق إجمالي القيمة المحصلة من الثلاث طرق مع الأخذ بعين الاعتبار وزن كل طريقة، فالطريقة الأولى تتعلق بـ”L’active net comptable” ووزنها 15 بالمئة، أما الطريقة الثانية تتعلق بـ “cash flows actualises” بوزن قدر بـ80 بالمئة، أما الطريقة الثالثة والأخيرة فهي “rente du good will ” وقدر وزنها بـ05 بالمئة، فكان متوسط قيمة شركة مستشير 477457487 دج وبقسمتها على إجمالي عدد أسهم الشركة البالغة 625000 سهم نجد أن القيمة السوقية للسهم بلغت المبلغ الحالي والمقدر بـ760 دينار جزائري للسهم، وما يفسّر هذه القيمة هو ما حققته “مستشير” من عائد على الاستثمار بلغ في 2023 نسبة 23 بالمئة وهي على أبواب 29 بالمئة سنة 2024 وذلك بفضل نموذج العمل المنتوع الذي تنتهجه ما يمكن تسميته “مجمع مستشير” من خلال مجموعة من الفروع التي تمتلكها الشركة الناشئة أوتساهم فيها على غرار ينفاستي، وفضاءات العمل الجماعية، ومنصة الاستشارات أكاديمية “مستشير”، وإدارتي… وغيرها من الفروع.
إن أهم ما ينقصنا اليوم هو سياسية اتصالية قوية مع المؤسسات الكبيرة المتوسطة والصغيرة والناشئة من قبل سلطة ضبط البورصة والبورصة في حد ذاتها، مع ضرورة التوجه نحو إدراج عدد كبير من المؤسسات في كل من السوق الرسمية، وسوق المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وسوق الشركات الناشئة، خاصة أن شباب اليوم يتمتع بثقافة بورصية كبيرة يعكسها عدد المتداولين في سوق العملات والعملات المشفَّرة، وهو ما يجعلنا اليوم أمام تحدي إيجاد منصات لتداول الأسهم المدرَجة في غير السوق الرسمية من دون لجوء إلى وسطاء نظرا لأن ديناميكية هذه الأسواق في حجم التداول، كما وجب علينا إيجاد آليات لمرافقة المؤسسات التي لا تتوفر فيها شروط الادراج من خلال استحداث شركات قادرة على احتواء جزء منها وإدراجها في البورصة وهي المؤسسات المعروفة بالشركات ذات الغرض الواحد، وهي عمليات إنطلقت في الولايات المتحدة الأمريكية منذ 2003، ووجب تطويرها في الجزائر.
---------------------------------------------------------------------
المصادر:
1- قانون المالية 2023 المادة 133.
2- بورصة الجزائر (شركة تسيير بورصة القيم) دليل سوق المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، الجزائر، من دون سنة إصدار.
3- خلية الاعلام والعلاقات العامة للجنة تنظيم عمليات البورصة وتنظيمها، مذكرة اعلامية حول شركة “مستشير”، الجزائر 25 نوفمبر 2024
4- شركة “مستشير”، مذكرة اعلامية حول الشركة، الجزائر، 23 أكتوبر 2024.
المصدر: