كانت الدراسات النقدية في مجال المسرح حتى سبعينات القرن الماضي تركّز على الأعمال المسرحية (نصوصا وعروضا) إلى جانب منتجيها ومكانتها في تاريخ الدراما. ولم يُلتفت إلى الطرف الثالث في عملية الإبداع الفني وهو المستقبل أو المستهلك أو الجمهور الذي يتلقاه إلاّ بعد ظهور نظرية التلقي أواخر الستينات التي اقترحها عدد من المنظرين في جامعة كونستانس الألمانية وعلى رأسهم وولفغانغ آيزر وهانس روبرت ياوس لفهم الأدب وتفسيره بوصفه عملية جدل بين الإنتاج والتلقي.
كان النقاد والباحثون سابقا يجدون صعوبة في إخضاع الجمهور للدراسة التحليلية كما يُدرس النص الدرامي أو العرض المسرحي إحساسا منهم ربما بأنه لا يزال عبارة عن فكرة عامة وتجريدية نسبيا كما يرى المنظّر الجمالي التشيكي جان موكاروفسكي.
وقد انتقلت بؤرة الاهتمام على نحو لافت بتأثير تلك النظرية إلى المتلقي في المسرح انطلاقا من أن وجوده حيوي يشكّل عنصرا نوعيا في سيرورة إنتاج العرض المسرحي وتأويله من خلال علاقة حوارية بينهما كما هو حيوي وجود المؤلف المسرحي والممثل والمخرج كي يوجد المسرح.
وتمثّل هذا التوجه بظهور مجموعة من الكتب والدراسات والأبحاث الأكاديمة التي اهتمت بعملية التلقي وجمالياته وعلاقة المتلقي بالعرض وآلية عمله في المسرح وتواصله مع المؤدّين والأدوار التي يقوم بها وأنواع اللذّة التي يحصل عليها من ممارسته لتلك الأدوار وقراءة النصوص الدرامية والعروض المسرحية بهدف تلمّس استراتيجيات التلقي الضمنية.
ولا شك في أن اقتفاء البحث المسرحي أثر البحث الأدبي في مقاربة المسرح من منظور نظرية التلقي ممارسة لا تقلّل من شأنه أو تجعل منه خطابا نقديا تابعا للنقد الأدبي فقد كان هذا البحث في جميع المراحل ولا يزال حتى الآن يستخدم المقاربات المنهجية (الخارجية والمحايثة) نفسها التي يستخدمها النقد الأدبي في إضاءة النصوص والعروض والظواهر المسرحية.
ولم يحل ذلك دون احتفاظ المسرح بخصوصيته طبقا لخصوصية عمليتي الإرسال والتلقي فيه واللتين تتّسمان بكونهما أكثر تعقيدا من نظيرتيهما في حقل الأدب ناهيك عن أن التفاعل والتثاقف والتداخل بين مناهج العلوم الإنسانية ومقولاتها قضية حتمية ومسوّغة على الدوام.
نظرية بريخت في المسرح الملحمي هدفت إلى جعل التلقي عملية واعية في سعي إلى تغيير الأنماط التقليدية للإنتاج والتلقي
أما القراءة العرضية فهي من وجهة نظر بعض الباحثين تقترب في طابعها العام من مفهوم القراءة العالمة أو الناقدة إذ لا يتورط المتلقي من خلالها داخل الحكاية بل يتحوّل إلى ملاحظ يثير الأسئلة حول كل العناصر الدالة التي تظهر في العرض حول ماهيتها ومعناها ومصدر هذا المعنى محقّقا بذلك قراءة غير متصلة.
وباستناد دو مارسي على السيميائية في مقاربته للتلقي المسرحي فإنه يرى أن هذه القراءة العرضية بوصفها شكلا للتلقي لا بد أن تنطلق أساسا من تحديد الموضوع الذي تقرأه أولا والذي هو المسرح وعليه يتحدّد هذا الفن بوصفه عالما من العلامات وفضاء مشفرا. وفي ضوء هذا التحديد تتحوّل القراءة العرضية إلى تفكيك للعلامات البصرية والسمعية للعرض المسرحي. وهذا الاشتغال على العلامة هو الذي يجعل من هذه القراءة الثانية قراءة منتجة للتغريب على عكس القراءة الأولى التي هي قراءة اندماجية.
لا يُخفى على المعنيين بالمسرح تأثّر دو مارسي في تنظيره لهذا النمط من القراءة بنظرية بريخت في المسرح الملحمي التي هدفت إلى جعل التلقي عملية واعية وليس انفعالا مجردا وسعت إلى تغيير الأنماط التقليدية للإنتاج والتلقي وجاءت بإضافات تقنية لدفع المتلقي إلى التأمّل والنقد من دون أن يفقد المتعة المسرحية.
إن القراءتين اللتين يميزهما دو مارسي لتلقي العرض المسرحي تحيلان على مفاهيم عديدة في الألسنية وتيارات النقد المتأسّسة عليها ونظريات القراءة كالمحور الأفقي والمحور الاستبدالي اللذين يشيران إلى صعيدي العلاقات السياقية والإيحائية بين الألفاظ اللغوية: صعيد المركبات الذي يشكل العلاقة بين الكلمة في الخطاب والكلمات التي تسبقها أو تليها حيث تظهر الألفاظ في هذه السلسلة متحدة بالفعل حضوريا يدعمها التعاقب الخطّي للغة وصعيد تداعي الألفاظ الذي يُقيم العلاقة بين الكلمة الحاضرة في الخطاب والكلمات المرادفة أو النقيضة المقابلة لها خارج الخطاب مشكّلا علاقات إيحائية مختلفة بينهما.
تعددت المناهج النقدية وتنوّعت وفقا للزاوية التي تنظر من خلالها للنص الأدبي , فإذا كان المنهج النفسي يركّز على القضايا الشعورية واللاشعورية التي مرّ بها المبدع فإنّ المنهج الاجتماعي له زاوية خاصّة فهو ينظر للنص الأدبي على أنّه مرآة تعكس الواقع بطريقة مباشرة قائمة على المحاكاة حرفيّة كانت أو جدليّة وإذا كان المنهج البنيوي اللساني يرى في النص الأدبي بنية منعزلة عن السياقات التي أفرزته وما هذه البنية في النهاية إلاّ نسق من العناصر اللغوية القائمة على علاقات إمّا اختلافيّة أو ائتلافيّة فإن منهج القراءة يعيد منح الثقة للقارئ موليا إياه قيمة عليا وسلطة تداني سلطة مبدعه ذاته أثناء تفاعله مع النص بغية تأويله وخلق صورة أخرى جديدة لمعناه لم تكن موجودة من ذي قبل وفي السطور القادمة سنوجز باختصار شديد أهم الأسس والمرتكزات التي يستند إليها منهج التلقي عند أهم روّاده ومدارسه لربط ذلك في الدور الذي سيأخذه القارئ في هذه النظرية .
لقد كان ظهور البوادر الأولى لنظريّة التلقي بألمانيا الشرقيّة أواسط الستينيات في أحضان مدرسة (كونستانس) وبرلين الشرقيّة وقد استندت هذه النظريّة في أصولها المعرفيّة الأولى على الفلسفة الظاهراتيّة التي تؤمن بالذات وبقدرتها على الحضور في الأشياء وبكون الوعي حادثا ومكتملا بها لأنّ (إدراك معنى الظاهرة قائم على الفهم ونابع من الطاقة الذاتيّة الخالصة الحاوية له) , وهذا يعني إعادة القيمة للبعد الذاتي في محاولته لتحديد قيمة البعد الموضوعي وجوهره, إذ إنّ نظرية ظاهراتية الفن ترى أنّ العمل الأدبي هو ليس النص الأدبي بحدّ ذاته وإنّما هو أيضا تلك الأفعال المتعلّقة به من جراء عملية الاستجابة له وبذلك حاولت هذه النظريّة أن تنأى بنفسها عن النظريات الأخرى التي أهملت القارئ بوصفه ذاتا فاعلة في مقاربة النص فراحت تتقصى المعنى من النص بوسائل تعسفيّة كالتركيز على إحالات المرجع الواقعي أو اعتماد الوسائل البيبلوغرافيّة للوصول إلى ما يحيط بالمبدع من ظروف حياتيّة وشخصيّة أو في عزل النص عن سياقات إبداعه وتلقيه ومعاملته على أنّه بنية لغويّة منغلقة على نفسها.
إنّ أهم ما يمكن أن يميّز المدرسة الألمانيّة هو وجود اتجاهين كبيرين متباينين هما: اتجاه جماعة برلين وجماعة كونستانس حيث قامت الأولى على مهاد نظري فلسفي يستمد تراثه من النظرية الماركسيّة معتقدة أنّ التواصل الفني يقوم على أربعة عناصر هي: المؤلف والنص والمتلقي والمجتمع ولذلك أخذت هذه الجماعة مآخذ عديدة على جماليات التلقي التي دعت لها مدرسة (كونستانس) , ولعلّ أهمّها هي الطريقة التي تفصل فيها بين العلاقة الجدليّة القائمة بين الإنتاج والاستهلاك حيث سيؤدي الفصل بين الإنتاج والتلقي إلى فقدان كلّ قيمة وكل طموح من أجل بناء نمط استبدالي جديد.
03c5feb9e7