فضفضات شروﮜية تحت خيمة السيرك السياسي
(الحلقة 17)
بسالة أبناء الجنوب
ووطنيتهم
كاظم فنجان الحمامي
ربما كان عنترة العبسي أكثر فصاحة عندما
عبَّر عن ازدواجية المعايير الاجتماعية، بقوله:- (يُنادُونني في
السِّلم يا بْنَ زَبيبة ٍ
- وعندَ صدامِ الخيلِ
يا ابنَ الأطايبِ).
لا يختلف اثنان في شرق الأرض أو في غربها
على شجاعة أبناء الجنوب وبسالتهم، ووطنيتهم في الذود بالدفاع عن سيادة العراق، فهم
الحصن العراقي الحصين، والدرع الواقي في التصدي لكل الغزوات والهجمات على مدى
السنوات والقرون الماضية، لكنهم كانوا وظلوا في منظور السلطات الحاكمة عبارة عن مجاميع
بشرية مُهمشة ومُستبعدة. ولا فرق هنا بين أقطاب السلطات القديمة وأقطابها الحديثة
في توارث هذه النظرة الاستعلائية، التي لا علاقة لها بالتوجهات الطائفية.
ظلت (المناطقية) هي القاسم المشترك الأعظم في
مناهج معظم الحكام والمسؤولين، بسنتهم وشيعتهم، وربما كان المسيحيون والأكراد أكثر
تعاطفاً وتضامناً من غيرهم مع عرب الجنوب. من نافلة القول نذكر أن جيوش
الإمبراطورية العثمانية لم تصمد في الحرب العالمية الأولى دقيقة واحدة أمام شراسة
القوات البريطانية الغازية ، فجاءت معركة الشعيبة (شمال غرب البصرة) لتشهد على
صلابة أبناء الجنوب، وقوة عزيمتهم في الثبات أمام زحف الفيالق المدججة بأحدث
الأسلحة وأكثرها فتكاً وتدميراً، فصمدوا بصدورهم العارية، واستشهدوا كلهم في
مواضعهم المشرفة، التي حفروها بأيديهم في الوقت الذي لاذت فيه القوات النظامية
بالفرار. وفي هذا يقول
المفكر العالمي (نعوم تشومسكي): أن (ونستون تشرشل) دافع في خطبة له أمام مجلس
العموم البريطاني عن اضطراره لاستعمال السلاح الكيماوي ضد أبناء جنوب العراق،
الذين وقفوا بوجه قواته الغازية.
ثم تفجرت المعارك المتوالية التي امتدت من
عام 1980 وحتى عام 2003. لتؤكد من جديد على بسالة أبناء الجنوب وصمودهم في
المواجهات الحاسمة. لقد زحفت علينا جيوش التحالف الدولي في حفر الباطن حتى تغلغلت
شيئاً فشيئاً في خطوات متلاحقة داخل المدن العراقية، لكنها لم تستطع إخضاع مدينة
(أم قصر)، التي ظلت عصية على فيالق الزحف الأمريكي حتى بعد سقوط الموصل الواقعة في
أقصى الشمال. الأمر الذي اضطر الغزاة للبحث عن ثغرات حدودية بعيدة عن تلك المدينة
البصراوية البطلة.
هكذا نحن دائماً في أيام الحرب وفي أيام
السلم. أشداء مع أعداء العراق. أوفياء مع أبناء شعبنا العظيم، لكننا ابتلينا منذ
زمن بعيد بهذه العدوانية المناطقية، التي ظلت تطاردنا بسخريتها القاتلة حتى يومنا
هذا. تارة يسموننا (لملوم)، وتارة يقولون أننا جئنا من الهند ومن زنجبار، وأننا من
المجوس والصفويين، وتارة يتهجمون علينا بعبارات نابية يطلقها علينا من لا نعرف
أصله ولا فصله. لكنهم يغيرون لهجتهم معنا في مواسم الانتخابات، فيتحدثون عن
استحقاقاتنا الضائعة وحقوقنا المهدورة، ثم يعودون إلى ما كانوا عليه قبيل
الانتخابات، فيتجاهلوننا مرة أخرى، ويحرموننا من استحقاقاتنا ويضيفوا إلينا نعوتاً
جديدة أكثر قبحاً من سابقاتها. تماماً مثلما وصفهم عنترة العبسي بقصيدته التي يقول
في مطلعها:-
أُعاتِبُ
دَهراً لاَ يلِينُ لعاتبِ
وأطْلُبُ
أَمْناً من صُرُوفِ النَّوائِبِ
وللحديث بقية.