أ.د رفيق يونس المصري
وإثمهما أكبر من نفعهما
سورة البقرة 219
(يسألونكَ
عن الخمرِ والميسرِ قُلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للنّاسِ وإثمُهما أكبرُ مِن
نفعِهما) سورة البقرة 219.
يسألونكَ:
يا محمد.
السائلون هم المسلمون،
جماعة منهم.
يسألونكَ عنِ
الخمرِ والميسرِ:
أي عن حكم الخمر والميسر،
لا عن ذات كل منهما.
الإثم:
-
ضد الثواب. الإثم قد يراد به العقاب، أو ما يستحق
العقاب.
-
ضد القربة.
-
ضد الحَسنة. إثم كبير
ومنافع للناس: سيئات كثيرة وحسنات قليلة.
إثمٌ كبيرٌ
ومنافعُ للناس:
-
التقدير: إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ قليلةٌ. يؤكده قوله تعالى: (وإثمُهما أكبرُ مِن نفعِهما). أو: ضررٌ كبيرٌ
ومنافعُ قليلةٌ.
-
قال بعض العلماء: التقدير:
فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ كبيرةٌ، أو: إثمٌ كثيرٌ ومنافعُ كثيرةٌ (حسب القراءة)،
أو: مضارّ كثيرةٌ ومنافعُ كثيرةٌ، أو: آثامٌ كثيرةٌ ومنافعُ كثيرةٌ.
نتيجة التقديرين واحدة، لأن
التقدير الأول: المضار كثيرةٌ والمنافعُ قليلةٌ، والتقدير الثاني: المضارّ كثيرةٌ
والمنافع كثيرةٌ، لكن المضارّ أكثرُ من المنافع.
-
يفهم من الآية ارتباط الإثم بالضرر. فالمحرّمات إنما
حرمت لضررها. والمباحات لنفعها. (ويُحلّ لهمُ الطيّباتِ
ويُحرّمُ عليهمُ الخبائثَ) الأعراف 157.
-
قد يُفهم من إفراد الإثم وجمع المنافع أن المضرّة، ولو
كانت واحدة غير متعددة، قد تكون أعظم في الحجم من المنفعة ولو تعددت.
قراءات أخرى:
-
إثمٌ كثيرٌ.
-
وإثمُهما أكثرُ مِن نفعِهما.
-
وإثمُهما أقربُ مِن نفعِهما.
الخمر:
سُميت كذلك لأنها تخمُر
العقل، أي تستره. ومنه خِمار المرأة لأنه يستر رأسها.
كل مُسْكر خمر.
وما أسكر
كثيره فقليله حرام (سنن أبي
داود).
الميسر:
من اليُسر، وهو الحصول على
المال بيسر وسهولة، من غير كدّ ولا تعب.
أو من اليَسار، وهو الغنى.
وقيل: غير ذلك.
قال ابن عباس: كان الرجلُ في الجاهلية يخاطر الرجلَ على أهله
وماله، فأيهما قمَر صاحبه ذهب بماله وأهله! قمَره: غلبه في القمار. يخاطر على
ماله: كبيرة من الكبائر. يخاطر على أهله: على عرضه، هذه أخطر وأعظم! هل يعني هذا:
خسارة زوجته، أو ...؟
الميسر (القمار): كل لعبٍ
على مال يأخذه الغالب من المغلوب.
قال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار. فمن
ميسر اللهو النرد (الطاولة) والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار ما يتخاطر الناس
عليه. التخاطر والمخاطرة هما من الخَطر، وهو هنا: مبلغ الخطر، مبلغ القمار.
كأن المراد: ميسر اللهو ما
لم يكن فيه مال، بخلاف ميسر القمار.
القرعة والخَرْص:
ليسا من القمار المحرم
(راجع كتابي عن الخطر والتأمين ص 74).
الخمر
والميسر:
لماذا جمع الله
بينهما؟
-
كلاهما من المحرمات.
-
كلاهما من الكبائر.
-
القليل منهما يدعو إلى الكثير.
-
كلاهما يقودان صاحبهما إلى الإدمان.
-
كلاهما كان من أكبر لذائذ العرب في الجاهلية.
-
كلاهما رجس من عمل الشيطان.
-
كلاهما يوقع في العداوة والبغضاء.
-
كلاهما يصدّ عن ذكر الله.
-
كلاهما يصدّ عن الصلاة.
-
مضارّهما متشابهة ومنافعُهما متشابهة.
(يا أيّها الذينّ آمنُوا
إنّما الخمرُ والميسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجْسٌ مِن عملِ الشيطانِ فاجتنبوهُ
لعلّكم تُفلحونَ. إنّما يريدُ الشيطانُ أن يُوقعَ بينكمُ العداوةَ والبغضاءَ في
الخمرِ والميسِرِ ويصدّكم عن ذكرِ اللهِ وعن الصلاةِ فهل أنتُم مُنتهونَ)
سورة المائدة 90-91. الأنصاب: الأوثان.
الأزلام: القداح، والمراد: الاستقسام بالأزلام: طلب القسْم بالحظوظ. لعلّكم تُفلحون: قال: (لعلّكم)
ربما لأن الفلاح يتوقف على أشياء أخرى من محرمات وواجبات. مُنتهون: أي منتهون عنهما. في هذه الآية قرن الخمر والميسر بعبادة
الأوثان (ومنه قيل: شارب الخمر كعابد الوثن)، وكرر الخمر والميسر، ولم يكرر
الأنصاب والأزلام. لعل ذلك لأن الخمر والميسر فيهما علاقة مع الناس، بخلاف الأصنام
والأزلام هما علاقة بين الشخص ونفسه، والله أعلم (قارن الرازي وأبا حيان وابن
عاشور وتفسير المنار). قال عمر رضي الله عنه:
اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت آية المائدة، فدُعي عمر، فقُرئت
عليه، فقال: انتهينا .. انتهينا!
منافعُ:
لم تنوّن لأنها ممنوعة من
الصرف، فهي على صيغة منتهى الجموع، وهي كل جمع تكسير بعد ألفه حرفان أو ثلاثة
أوسطها ساكن: مفاتح، مفاتيح.
لم يقل:
ضررٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس.
لم يقل:
-
فيهما إثم كبير و ...
للناس. (حاولتُ أن أجد كلمة مضادّة للإثم فلم أستطع لا من عندي ولا من عند
المفسرين. وما ذكرته أعلاه من أنه ضد الثواب أو ضد القربة هو تقريب لا يصلح هنا في
هذا الموضع).
-
فيهما مضارّ كثيرة ومنافعُ للناس.
لم يقل:
-
وضررهما أكبر من نفعهما.
الضرر إثم، والنفع بخلافه.
يحرم الشيء لا لأنه ضرر
مطلق فحسب، بل يحرم أيضًا إذا كان ضرره أكثر من نفعه. وقلّما تجد ضررًا مطلقًا، ونفعًا
مطلقًا، بل غالبًا ما تجد ضررًا مقترنًا بالنفع، ونفعًا مشوبًا بالضرر!
لم يقل:
-
وإثمُهما أكبرُ مِن منافعهما.
-
إثمٌ كبيرٌ ونفعٌ للناس.
تحريم الخمر
بالتدريج على أربع مراحل:
1-
(ومِن ثمراتِ النّخيلِ
والأعنابِ تتخذونَ منه سَكرًا ورزقًا حَسنًا) النحل 67. لم يقل: تتخذون منها.
2-
(يسألونكَ
عنِ الخمرِ والميسرِ قُلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للنّاسِ وإثمُهما أكبرُ مِن
نفعِهما) البقرة 219.
3-
(يا
أيّها الذينَ آمنُوا لا تَقربُوا الصلاةَ وأنتم سُكارى حتى تَعلموا ما تقولونَ)
النساء 43.
4-
(إنّما
يُريدُ الشيطانُ أن يُوقعَ بينكمُ العداوةَ والبغضاءَ في الخمرِ والميسرِ ويصدّكم
عن ذكرِ اللهِ وعنِ الصلاةِ فهل أنتم مُنتهونَ) المائدة 91.
قال القفال: وإنما سلك مسلك التدرّج في الخمر، لأن العرب
كانوا قد ألِفُوا شربها والانتفاع بها كثيرًا.
تغيير العادات المستحكمة
ليس بالأمر السهل.
من مضارّ
الخمر:
-
الصدّ عن ذكر الله.
-
الصدّ عن الصلاة.
-
الوقوع في الفحشاء والمنكر.
-
العربدة والمخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور.
-
الحلف الكاذب.
-
التباهي والتفاخر.
-
زوال العقل. وكانوا يشترون
الخمر بأثمان غالية ويعدّون المماكسة فيها عيبًا! وهذا ما يزيد في أرباح
بائعيها، ويمكنهم من المزيد من الاستغلال!
-
زوال المال. الخمر مَذهبة للعقل مَسلبة (أو مَتلفة)
للمال.
-
الشارب يصبح ضُحْكة للعقلاء.
-
أضرارها الصحية على القلب والرئتين والكبد، والإصابة
بداء السلّ، وتصلّب الشرايين، وسرعة الشيخوخة والهرم، والأطباء والمختصون أعلم
بهذا.
-
أضرارها على الذُرية والأولاد.
-
هتك الأستار وإفشاء الأسرار، وربما تعلقت هذه الأسرار
بأمن الدولة! ولهذا السبب قد تدار الخمور في الحفلات السياسية والدبلوماسية للتجسس
وانتزاع المعلومات من السكارى!
-
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة:
بائعها، ومبتاعها ... فناسب وصف الإثم بالكثرة بهذا الاعتبار: (إثم كثير) على إحدى القراءتين.
-
الخمر أمّ الخبائث.
مرَ ابن أبي الدنيا على
سكران، وهو يبول في يده، ويمسح به وجهه، يتوضأ! ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام
نورًا، والماء طهورًا!
قال الشاعر:
ألا إنما الدنيا كراحٍ عتيقــةٍ أراد مديــروهــــــا بـــــهـــــــا
جلـــبَ الأنسِ
فلما أداروها أثارت حقودَهم فعادَ الذي راموا مِنَ الأنسِ بالعكسِ
قال أحد الأطباء الألمان:
أغلِقوا لي نصف الحانات أضمنْ لكم إغلاق نصف المستشفيات والملاجئ والسجون!
جاء في تفسير المنار أن أحد
الخواجات فتح في إحدى قرى مصر أو مزارعها خمّارة صغيرة، لا زالت تتسع حتى ابتلعت
ثروة الناس وغلات أراضيهم، ثم ابتلعت القرية كلها، فصارت أموالها وغلاتها وقطنها
وتجارتها في يد الخواجة صاحب الخمارة!
من منافع
الخمر:
-
المنافع دنيوية مادية.
-
المنافع مرجوحة (شخصية، جزئية).
-
ربح التجارة.
-
وقيل في منافعها: تهضم الطعام، وتقوي الضعف، وتنشط
النفس، وتطرد الهموم، وتعين على الباه، وتُسخّي البخيل، وتُشجّع الجبان، وتُصفّي
اللون، إلى غير ذلك من اللذة بها والفرح والنشوة والطرب! والله أعلم بصحة ذلك.
من مضارّ
الميسر:
-
المضار دينية.
-
المضار راجحة.
-
إضاعة الأوقات.
-
أكل المال بالباطل.
-
الكسل.
-
البطالة.
-
السرقة.
-
الانشغال عن الدين والدنيا: عن علوم الدين، والكسب
للعيال.
-
الإدمان. فكلما ربح طمع في الزيادة، وكلما خسر طمع في
التعويض.
-
الطلاق.
-
الاغتصاب.
-
خراب البيوت والأسر.
-
الإفلاس.
-
الرشوة: رشوة السلطات للترخيص بممارسته.
-
الانتحار.
-
قلة رابحة وأكثرهم خاسرون. وتُسلّط الأضواء على الرابح، ويُعتّم على الخاسرين وما
يحل بهم من نكبات وكوارث!
قال بعض علماء الغرب: لو
عرف الناس ما في القمار من خداع، وعرفوا ضآلة فرصهم في الفوز، وعرفوا مقدار
مايجنيه منظموه من أرباح، لأبى أي منهم أن يكون ضحية من ضحاياه!
قال في تفسير المنار: حكي
أن رجلاً عاقلاً رأى من ولده ميلاً إلى المقامرة، لمعاشرته بعضَ أهلها. فلما
اقتربت وفاته، وخاف أن يضيع ولدُه ما يرث من أبيه، وعلم أن النهي لا يكون إلا
إغراءً، قال له: يا بُنيّ أوصيك، إن شئت أن تقامر، بأن تبحث عن أقدم مُقامر في
البلد وتلعب معه! فطفق الولد يبحث ويسأل، حتى انتهى به البحث إلى شيخ رثّ الثياب،
ظاهر الاكتئاب، فعلم من حاله ومقاله أن مآل المقامر إلى أسوأ مآب، وأن والده قد
اجتهد في نصيحته فأصاب، وأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب، ورجع هو إلى رشده وأناب، فلم
يدخل بيتَ مقامرةٍ من طاقٍ ولا باب!
من منافع
الميسر:
-
المنافع دنيوية.
-
المنافع مرجوحة (شخصية، جزئية).
-
اللهو.
-
مصير المال إلى الإنسان بغير كدّ ولا تعب.
-
تنمية المال.
-
لذة الغلبة.
-
التوسعة على المحاويج. فقد كانوا في الجاهلية يتقامرون
على الجَزور (الجمل) ثم يقسمونه ويوزعونه على الفقراء، فيكسبون المدح والثناء.
وكانوا يشترون الجّزور بثمن مؤجل إلى ما بعد المقامرة.
الجمعة 21/12/2012
رفيق يونس المصري