خطبة الجمعة - مكة : ما كان لله يبقى الشيخ فيصل بن جميل غزاوي - 1 - 7 - 1440 هـ -

345 views
Skip to first unread message

الخدمة المجتمعية

unread,
Mar 9, 2019, 6:03:37 AM3/9/19
to frid...@googlegroups.com
open-friday.png

ما كان لله يبقى

الشيخ فيصل بن جميل غزاوي

خطبة الجمعة - مكة - 1 - 7 - 1440 هـ -

 

ألقى فضيلة الشيخ فيصل بن جميل غزاوي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "ما كان لله يبقى"، والتي تحدَّث فيها عن وجوبِ إخلاصِ الأعمال لله تعالى، والحذَر من الشركِ الخفِيِّ ومُراءاةِ الناسِ في الأقوال والأعمال؛ فما كان لله سبحانه يبقَى، وما كان لغيرِه يذهَبُ ويفنَى.

 

الخطبة الأولى

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله مِن شُرور أنفسِنا ومِن سيئات أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وآله وصحبِه وسلَّم تسليمًا.

أما بعد:

فمِن القواعد الأصيلة التي ينبغي فهمُها ومُراعاتها، والمبادئ الأساسية التي يحتاج العبدُ أن يكون على ذُكرٍ منها: أنَّ ما كان لله يبقَى، وما كان لغيره يفنَى، فكلُّ شيءٍ كان لله فحقيقٌ بالقَبول، وله النَّماء والبقاء، وما عدا ذلك فهو ذاهِبٌ وزائِلٌ لا محالَة.

قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ [التوبة: 109].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "في هذه الآية دليلٌ على أن كل شيء ابتُدِئَ بنيَّة تقوَى الله تعالى والقَصد لوجهِهِ الكريم فهو الذي يبقَى ويسعَدُ به صاحِبُه، ويصعَدُ إلى الله ويُرفَعُ إليه".

ولنا في قصة ابنَيْ آدم عِبرةٌ وعِظة، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27].

فلما كان هابيل مُتَّقيًا لله، مُقرِّبا قُربانَه لله ومُخلِصًا له فيه، تقبَّلَه الله منه، ولم يتقبَّل من قابِيل الذي لم يكن تقِيًّا.

ولما دعَا المؤمنون ذوو الألباب رَبَّهُم بما وصَفَ مِن أدعيتهم التي دعَوه بها، عقَّب اللهُ على ذلك بقوله: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران: 195].

فلا يضِيعُ عملُ عاملٍ لدَيه، بل يُوفِّي كلَّ عاملٍ عملَه، وسيُجازِي المؤمنين خيرَ الجزاء على ما عمِلُوا وأبْلَوا في الله وفي سبيله.

وعلى الضِّدِّ من ذلك؛ فمَن لم تكن له نيَّةٌ صالِحةٌ، وكان عملُه لغير الله، بل كان يُريد بعمله وسَعيِه ونيَّتِه الدنيا لم ينفَعه ذلك، قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23].

وهكذا كلُّ ما لم يكن لله لا ينفَعُ ولا يدُومُ، وفي التنزيل: ﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].

جاء في "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قُلتُ: يا رسول الله! ابنُ جُدعان كان في الجاهليَّةِ يَصِلُ الرَّحِم، ويُطعِمُ المِسكِين، فهل ذلك نافِعُه؟ قال: «لا ينفَعُه؛ إنَّه لم يقُل يومًا: ربِّ اغفِر لي خطِيئَتِي يوم الدين».

فكونُه كان على الكفر فلا تنفَعُه صدَقَتُه وكفالَتُه اليتامى، وإطعامُه المساكين، وإكرامُه الضيف؛ فهو لم يُرِد بذلك الدَّارَ الآخرة، ما أرادَ إلا الفخرَ والمباهاةَ والشهرةَ في الدنيا، لم يطلُب الآخرةَ، ولم يعمَل لها، ولم يكن من الذين يُؤمِنون بالبعث ولا بالجنَّة والنار، فعَملُه قد جُوزِيَ به في الدنيا، وهو الثناءُ من الناس وذِكرُهم له، وهذا هو حظُّه، وليس له في الآخرة من نصِيبٍ، كما قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15، 16].

وعمومُ هذه الآية يُوجِبُ الحذرَ من ابتِغاء الإنسان بعمَلِه الدنيا، ولو كان ذلك في بعض الأمور، وهكذا قوله - جلَّ وعلا -: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ [الشورى: 20]، وقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: 18، 19].

عن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ أولَ الناس يُقضَى يوم القيامة عليه: رجُلٌ استُشهِدَ، فأُتِيَ به فعرَّفه نِعمَهُ فعرَفَها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قَاتَلتُ فيك حتى استُشهِدتُ، قال: كذَبتَ، ولكنَّك قاتَلتَ لأن يُقال: جَرِيءٌ، فقد قِيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقِيَ في النار، ورجُلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمَه، وقرَأَ القرآن، فأُتِيَ به فعرَّفَه نِعمَهُ فعرَفَها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآنَ، قال: كذَبتَ، ولكنَّك تعلَّمتَ العلمَ ليُقال: عالِمٌ، وقرأتَ القرآنَ ليُقال: هو قارِئٌ، فقد قِيلَ، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقِيَ في النار، ورجُلٌ وسَّعَ الله عليه وأعطَاه من أصنافِ المال كلِّه، فأُتِيَ به فعرَّفَه نِعمَهُ فعرَفَها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: ما تَرَكتُ مِن سبيلٍ تُحبُّ أن يُنفَقَ فيها إلا أنفَقتُ فيها لك، قال: كذَبتَ، ولكنَّك فعَلتَ ليُقالَ: هو جَوادٌ، فقد قِيلَ، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه ثم أُلقِيَ في النار»؛ أخرجه مسلم.

إنهم عَمِلُوا في الظاهر أعمالًا صالحةً، لكن لما فقَدُوا الإخلاصَ، ولم يقصِدُوا بها وجهَ الله، وطلَبُوا محمَدةَ الناس عليها، ضلَّ سعيُهم، وخابَ رجاؤهم.

معاشِرَ المسلمين:

وهذا المبدأُ العظيم: "ما كان لله يبقَى، وما كان لغيره يفنَى" ينتظمُ صورًا متعددةً، فمن ذلك: العبادات؛ إذ يجبُ أن يكون العملُ لله ويُبتغَى به وجهه.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنَى الشركاء عن الشِّرك، مَن عمِلَ عملًا أشرَكَ فيه معي غيري ترَكتُه وشِركَه»؛ رواه مسلم.

وفي رواية ابن ماجه: «فأنا منه بريءٌ، وهو للذي أشرَكَ».

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا يقبَلُ مِن العمل إلا ما كان له خالِصُا وابتُغِيَ به وجهُه»؛ رواه النسائي.

قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "ومتى نَظَرَ العامِلُ إلى التِفات القلوبِ إليه فقد زاحَمَ الشركُ نيَّتَه؛ لأنَّه ينبغي أن يقنَعَ بنظر مَن يعمَلُ له، ومِن ضرورة الإخلاص ألا يقصِدَ التِفاتَ القلوب إليه، فذلك يحصُلُ لا بقصده، بل بكراهَتِه لذلك، فأما مَن يقصِدُ رؤيةَ الخلق بعمله فقد مضَى العملُ ضائِعًا؛ لأنَّه غيرُ مقبولٍ عند الخالق، ولا عند الخلق؛ لأنَّ قلوبَهم قد أُلفِتَت عنه، فقد ضاعَ العمل، وذهَبَ العمر".

أيُّها المسلمون:

لقد ضرَبَ الله مثلًا للمُرائي بأعماله الذي يُنفِقُ النفقةَ رِئاءَ الناس لا ابتِغاء مرضاة الله، فكانت النتيجةُ أن حبِطَت أعمالُه، وذهَبَ ثوابُ نفقته، وورَدَ على الله يوم القيامة بغير حسنات، قال تبارك في عُلاه: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 266].

ويا سعدَ مَن أخلص لله؛ فالإخلاصُ شرطٌ لقبول الأعمال، وأيضًا مَن أخلص طاعاته لوجه الله، طالبًا منه الأجر والثواب لا لطلب سُمْعَة ورِياء، فإنه يكمُلُ إيمانه.

فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَن أعطَى لله، ومنَعَ لله، وأحَبَّ لله، وأبغَضَ لله، وأنكَحَ لله، فقد استكمَلَ إيمانَه».

«مَن أعطَى لله» أي: أنفَقَ مِن زكاةٍ ونفقةٍ، وكفارةٍ وصدقةٍ وهديَّةٍ لا يُريدُ بها إلا وجهَ الله - عزَّ وجل -.

«ومنَعَ لله» أي: وأمسَكَ وامتَنَعَ عن إنفاق مالِهِ في غير ما أمَرَ به الله - عزَّ وجل -، وكان إمساكُهُ طلبًا لرضا الله وليس مَنعًا لهوًى في نفسه مع الشحِّ والبُخل.

«وأحَبَّ لله، وأبغَضَ لله» أي: أحَبَّ وأبغَضَ بما يُقرِّبُ مِن طاعة الله، فيُخرِج حظَّ النفس من الحُبَّ والكُره للغير إلا بما يُرضِي الله - عزَّ وجل -.

«وأنكَحَ لله» أي: كان زواجُهُ وتزويجُهُ لأبنائه وبناته أو مَن يَلِي أمرَهُم وَفقَ ما أوصَى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، مُتقرِّبًا بذلك إلى الله تعالى.

«فقد استكمَلَ إيمانَه» أي: مَن جعل حياتَه كلَّها لله، كان جزاؤه أنَّه كَمُلَ إيمانُه.

إخوةَ الإيمانِ:

والمؤمنُ مع إخلاصه عمَلَه لله، فإنَّه يسعَى جاهِدًا لأَن يُخلِّفَ أثرًا حسنًا يبقَى نفعُه بعد موته، وألا يترُكَ أثرًا سيئًا يلحَقُه إثمُه بعد مُفارقَتِه الحياة، قال عَزَّ مِن قائل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ [يس: 12].

 قال السّعدي رحمه الله: "وآثارَهم وهي آثارُ الخير وآثارُ الشر التي كانوا هم السبَب في إيجادها في حال حياتهم، وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشَأَت مِن أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم؛ فكلُّ خيرٍ عَمِلَ به أحدٌ مِن الناس بسبَبِ علمِ العبد وتعليمه ونصحه، أو أمرِهِ بالمعروف أو نهيِه عن المنكر، أو عِلمٍ أودَعَه عند المُتعلِّمين، أو في كُتبٍ يُنتفَعُ بها في حياته وبعد موته، أو عَمِلَ خيرًا مِن صلاةٍ، أو زكاةٍ، أو صدقةٍ، أو إحسانٍ، فاقتَدَى به غيرُه، أو عمِلَ مسجدًا أو محلًّا مِن المحالِّ التي يرتَفِقُ بها الناس وما أشبَهَ ذلك، فإنها مِن آثاره التي تُكتَبُ له، وكذلك عَمل الشَّر".

سبحان الله! كم مِن أُناسٍ كتَبَ الله لهم القَبُول، وخلَّدَ ذِكرَهم، وبقِيَت آثارُهم، وكم مِن أُناسٍ بادُوا وهلَكُوا، وصاروا أحاديثَ وعِبرةً للمُعتبِرِين.

عِبادَ الله:

والمُلاحَظ أنَّ الذين رَفَعَ الله ذكرَهم، وبقِيَ ثناءُ الناس عليهم بعد مماتهم هُم أهلُ الإخلاص والزُّهد في الشهرة والذِّكر.

عَن الفُضيل بن عياضٍ رحمه الله: "مَن أحبَّ أن يُذكَر لم يُذكَر، ومَن كَرِهَ أن يُذكر ذُكِرَ".

وقيل لأبي بكر بن عياشٍ رحمه الله: إنَّ أُناسًا يجلِسُون في المسجد ويُجلَسُ إليهم، فقال: "مَن جلَسَ للناس جلَسَ الناسُ إليه، ولكنَّ أهلَ السنة يموتُون ويبقى ذِكرُهم، وأهلُ البدع يموتُون ويموتُ ذِكرُهم".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لأنَّ أهلَ السنة أحَبُّوا ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم، فكان لهم نصِيبٌ مِن قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4]، وأهلُ البِدَع شنَأُوا ما جاء به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فكان لهم نصِيبٌ مِن قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 3]".

فأهلُ الإخلاصِ والصدقِ مِن هذه الأُمة مِن أهل السنة والجماعة هم مَن أعلَى الله شأنَهُم، وأبقَى ذِكرَهم بين الناس - نحسَبُهم والله حسِيبُهم -؛ كالأئمَّة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وابن المُبارك، والبخاري، ومسلم، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم كثيرٌ، رحمة الله عليهم جميعًا.

أيها الإخوةُ في اللهِ:

ومِن بركة العمل لله أن يبقَى نفعُ ما يعمله المرءُ، ويظهرُ أثرُ ذلك في واقع الناس، ولكم أن تتأمَّلُوا في تلك الآثار المُباركة لدعوة الأنبياء التي قُصِدَ بها وجهُ الله، وأثمَرَت ثمارًا يانعةً، وكذلك دعوةُ الأئمة المُصلِحين والهُداة المُهتَدين مِن بعدهم، وكم تَفَيَّأَ الناسُ ظلالهَا وارتَووا مِن معينها العذب.

ومن سُنن الله الماضية: مُكافأةُ صانع المعروف وفاعِلِ الخير إلى الخلق بأفضل مما صنَعُوا، ومِن إكرامِ الله لهم أن يبقَى نفعُ أعمال البرِّ التي عمِلُوها في حياتهم وأثرُها الحميدُ بعد مماتهم.

فالخليفةُ الرَّاشِدُ عثمانُ رضي الله عنه اشتَرَى بِئرَ رُومةَ، فجعلها وقفًا عامًّا للناس كافَّة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده مِن العصور، ومِن بركة هذا الوَقف أنه ما زالَت عينُ البِئر قائِمةً حتى اليوم، وهو مِن أشهَر المعالم الوقفيَّة التي بقِيَت عبر العصور الإسلامية.

وزُبَيدةُ زوجةُ هارون الرشيد رحمهما الله لما أدرَكَت أثناء حجِّها ما يُعانِيه الحجَّاجُ جَرَّاء حصولهم على الماء من تعبٍ وإرهاقٍ ومشقَّة، أمَرَت بإجراء عينٍ سُمِّيَت باسمها (عين زبيدة)، وهي عينٌ عَذبةُ الماء غزيرةٌ، وهي إحدى روائع أوقاف المسلمين، وكانت إلى عهدٍ قريبٍ تصِلُ سُقياها إلى بيوتِ أهلِ مكة.

ولما ألَّفَ الإمام مالك رحمه الله "موطَّأَه" قيل له: ما الفائدةُ مِن تصنيفك؟ فقال: "ما كان لله بَقِي".

ما أعظمها مِن كلمةٍ! حُقَّ لها أن تُكتَبَ بماء الذهَبِ؛ فقد ذاعَت وشاعَت وصارَت مثلًا يتناقَلُه الناس، وكذلك بقِيَ كتابُه العظيم "الموطأ"، وتلقَّتْه الأمةُ بالقبول في مشارق الأمة ومغاربها، ونفَعَ الله بما فيه من العلم نفعًا عظيمًا.

وكم بارَكَ الله في مُصنَّفات العلماء السابقين، فنفَعَ بها في عصرهم وحتى العصر الحاضر، فنجِدُ كتُبَهم قد لقِيَت رواجًا وقبولا، وانتِشارًا عجيبًا، وأكَبَّ عليها طلابُ العلم قراءةً وفهمًا، وشرحًا واختِصارًا.

ومِن صور تلك القاعدة الجليلة "العلاقات والصلات" يقول الله تعالى: ﴿الأخلاءُ يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.

قال ابنُ كثير رحمه الله: "أي: كلُّ صداقةٍ وصحابةٍ لغير الله فإنَّها تنقَلِبُ يوم القيامة عداوةٌ، إلا ما كان لله - عزَّ وجل - فإنَّه دائِمٌ بدوامه".

وقال ابنُ القيِّم رحمه الله: "وهذا أمرٌ معلومٌ بالاعتِبار والاستِقراء أنَّ كلَّ مَن أحبَّ شيئًا دون الله لغير الله، فإنَّ مَضَرَّتَهُ أكثرُ مِن منفَعَته، وعذابَه أعظمُ مِن نعيمه".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَن سرَّهُ أن يجِدَ طعمَ الإيمان فليُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلا لله عزَّ وجل»؛ رواه أحمد.

ومِن صور تلك القاعدة أيضًا: البذلُ والإنفاقُ؛ فالمؤمنون يُنفِقُون أموالَهم ابتِغاءَ وجهِ الله، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 272].

ويبذُلُونَها في سبيل الله ونُصرةً لدينه، وهذه الأموال تنمُو وتربُو، ويُبارِكُ الله تعالى فيها، ويُضاعِفُ لمَن أدَّى حقَّ اللهِ في مالِهِ بأضعافٍ مُضاعفةٍ، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن تصدَّقَ بعِدل تمرةٍ مِن كَسبٍ طيِّبٍ ولا يصعَدُ إلى الله إلا الطيِّبُ، فإنَّ الله يتقبَّلُها بيَمِينِه ثم يُربِّيها لصاحِبِها كما يُربِّي أحدُكُم فلُوَّه حتى تكون مِثلَ الجَبَل».

وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّ بذلَ الصدقات وإخراجَها خالصةً لوجه الله تعالى تُؤدِّي بالإنسان إلى الخير الذي لا خيرَ بعده، ألا وهو القُربُ مِن الله سبحانه، وأمَّا الكفار فيُنفِقُون أموالَهم للصدِّ عن اتِّباع طريق الحقِّ، وحربِ المؤمنين، وتدبير المكائِدِ للمسلمين، وهذه الأموالُ تذهَبُ وتضِيعُ هباءًا، ولا تأتي بثمرةٍ، وسيَخِيبُ رجاءُ المُبطِلِين، ويَجنُون الحسرةَ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 36].

فانظُرُوا - رعاكم الله - بين مَن يُنفِقُ مالَه لله وابتِغاءَ مرضاته، ومَن مُلِئَت حياتُهم بمواقف التضحِيَة والفداء، والبذل والعطاء مِن أجل نُصرةِ دينِ الله، ونذَرُوا أنفُسَهم لله، ومَن يُنفِقُ مالَه طاعةً للشيطان ليصُدَّ عن سبيل الله، ويسعَى في إطفاءِ نورِ الله.

أقولُ هذا القولَ، وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفِرُوه مِن كُلِّ ذنب وخطيئةٍ، وتوبُوا إليه، إنَّ ربِّي غفورٌ رحيمٌ.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله وكفَى، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّه المُصطفى سيِّدنا وإمامِنا محمدٍ وعلى آله ومَن سارَ على هَديِهم واقتَفَى.

أما بعد .. فيا عبادَ الله:

إنَّ الله جلَّ جلالُهُ هو الحيُّ القيومُ الدائِمُ الباقِي، والخلقُ جميعًا ميتُون فَانُون، وما عند الله مِن الأجر والثَّواب يبقَى، والآخرةُ هي الحياةُ الدائمةُ الكاملةُ التي لا تفنَى، وأهلُها لا يموتُون؛ فمَن عمِلَ لها وسعَى لها سعيَها كان مِن الفائزين المُفلِحِين، والدنيا زائِلةٌ وأهلُها زائِلُون، فكلُّ ما كان للدنيا يزُولُ ويفنَى، هذا مِن الحقائِقِ التي ينبَغِي ألا تغِيبَ عنَّا وأن ترسَخَ في القلوب.

نعم، ما كان لله يبقَى؛ فالإنسانُ الذي يعمَلُ لله سيبقَى عملُه، وسيبقَى أثَرُه، وسيبقَى ذِكرُه، قال الله جَلَّ ذِكرُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: 30]، وقال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ [مريم: 50].

أي: ورزَقنَاهم الثناءَ الحسَنَ والذِّكرَ الجميلَ مِن الناس.

إنَّ أحقَّ مَن ينبَغِي له أن يتأمَّلَ هذه القاعدةَ الربانيةَ هُم العلماءُ والدعاةُ إلى الله، فعلَيهم أن يكونوا على يَقينٍ أنَّ ما كان لله يبقَى، وما كان لله دَامَ واتَّصَلَ، وما كان لغير الله انقطَعَ وانفَصَل.

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما لا يكونُ بالله لا يكون، وما لا يكونُ لله لا ينفَعُ ولا يدُوم".

وقال رحمه الله أيضًا: "وكلُّ عملٍ لا يُرادُ به وجهُه فهو باطِلٌ لا منفَعَة فيه، فما لا يكونُ به لا يكون؛ فإنَّه لا حولَ ولا قوةَ إلا به، وما لا يكونُ به لا يصلُحُ، ولا ينفَعُ ولا يدُومُ".

فإذا كان ذلك كذلك، فعلينا - عبادَ الله - أنْ نُجاهِدَ أنفسَنا على الإخلاص والعمل لوجهِهِ سبحانه؛ فإنَّه سبيلُ بقاء العمل والنجاةِ والفوزِ يوم القيامة.

عن عليٍّ رضي الله عنه قال: "ألا وإنَّكم في أيامِ مَهَلٍ مِن ورائِها أجَل، فمَن أخلَصَ لله عمَلَه في أيام مَهَلِهِ قبل حُضُور أجَلِه، فقد أحسَنَ عمَلَه، ونالَ أمَلَه، ومَن قصَّرَ عن ذلك، فقد خسِرَ عمَلَه، وضرَّه أمَلُه".

وقال ابنُ حزمٍ رحمه الله: "إنَّما ينبغي أن يرغَبَ الإنسانُ العاقلُ في الاستِكثار مِن الفضائل وأعمال البِرِّ التي يستحِقُّ مَن هي فيه الذكرَ الجميلَ، والثناءَ الحسَنَ، والمدحَ وحميدَ الصفة، فهي التي تُقرِّبُه مِن بارئه تعالى، وتجعلُه مذكورًا عنده - عزَّ وجل - الذِّكرَ الذي ينفَعُه ويحصُلُ على بقاء فائدته، ولا يَبِيدُ أبدَ الأبدِ.

ألا وصلُّوا وسلِّمُوا - رحِمَكم الله - على النبيِّ المُصطفى، والرسولِ المُجتبَى، كما أمَرَكم بذلك ربُّكُم - جلَّ وعلا -، فقال تعالى قولًا كريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ على مُحمدٍ وعلى أزواجِه وذريَّته، كما صلَّيتَ على آل إبراهيم، وبارِك على مُحمدٍ وأزواجِه وذريَّته، كما بارَكتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيد.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافِرين، وانصُر عبادَك المُوحِّدين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءًا وسعةً وسائرَ بلادِ المُسلمين يا رب العالمين.

اللهم آمِنَّا في الأوطانِ والدُّور، وأصلِح الأئمةَ ووُلاةَ الأمور، واجعَل ولايتَنا فيمَن خافَك واتَّقاك، واتَّبعَ رِضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا لِما تُحبُّهُ وترضَاه مِن الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوَى.

اللهم كُن لإخوانِنا المُستضعَفين والمُجاهِدين في سبيلِك، والمُرابِطين على الثُّغور، وحُماة الحُدود، اللهم كُن لهم مُعينًا ونصيرًا، ومُؤيِّدًا وظَهيرًا.

اللهم ارزُقنا الإخلاصَ في القول والعمل، واجعَل أعمالَنا كلها صالحةً، ولوجهك خالصةً.

اللهُمَّ إنا نسألُك خشيتَكَ في الغيبِ والشَّهادةِ، ونسألُك كلمةَ الحقِّ في الرِّضا والغضَب، ونسألُكَ القصدَ في الغنَى والفقر.

سبحانَ ربك ربِّ العزّة عمَّا يصفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 
ماكان لله يبقى.pdf
Reply all
Reply to author
Forward
0 new messages