خطبة الجمعة من المسجد النبوي :التوكُّل على الله تعالى - لفضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي

264 views
Skip to first unread message

الخدمة المجتمعية

unread,
Feb 23, 2019, 1:54:34 PM2/23/19
to frid...@googlegroups.com

open-friday-2.png

 التوكُّل على الله تعالى

الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي

المسجد النبوي - 17 - 6 - 1440 هـ -

 

ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التوكُّل على الله تعالى"، والتي تحدَّث فيها عن أعمالِ القلوبِ التي ينبغي للعبدِ أن يعتني بها أشدَّ العناية، ومنها: التوكُّل على الله تعالى، مُبيِّنًا معناه وفضلَه وأهميتَه، وبعضَ الأدلة عليه من الكتاب والسنَّة، ثم بيَّن أنَّه منهجُ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ودأبُ السلَف الصالِح - رضي الله عنهم -.

 

الخطبة الأولى

الحمدُ لله، الحمدُ لله العزيز الغفور، الحليم الشكور، لربِّنا - جلَّ وعلا - الفضلُ والثناءُ الحسن، والنعمُ الظاهرة والباطنة، لا نُحصِي ثناءً عليه هو كما أثنَى على نفسِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليمُ بذات الصدور، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الذي أرسلَه الله رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك مُحمدٍ، وعلى آله وصحبِه صلاةً وسلامًا دائمَين إلى يوم البعث والنُّشُور.

أما بعد:

فاتَّقُوا اللهَ باكتِسابِ الحسنات، وهَجر السيئات؛ فتلك الوسيلةُ إلى رِضوانِ الله - سبحانه -، والفوز بالدرجات في الجنَّات، وصلاحِ الأحوالِ في هذه الحياة وبعد الممات.

أيها المُسلمون:

اذكُروا دائمًا رحمةَ الله بكم إذ أسبَغَ عليكم نعمَه الظاهرة والباطنة، وعظِّمُوا نعمةَ القرآن الكريم ونعمةَ السنَّة النبويَّة المُبيِّنة والمُفسِّرة لهذا الكتاب العزيز؛ فقد رفعَ الله بهما الإنسانَ إلى أعلى منزِلة، قال الله تعالى:

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]، وقال - سبحانه -: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ [المطففين: 18]، وقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].

فرِفعةُ الإنسان وقيمتُه وخيريَّتُه وشرَفُه بعقيدتِه الإسلاميَّة، وأعمالِه الصالِحة التي يكونُ بها صالِحًا ومُصلِحًا للحياة، والقرآنُ العظيمُ والسنَّةُ المُحمديَّة أحيَا الله بهما القلوبَ مِن الموت، وشفَا الله بهما الصدورَ مِن الأمراض، وبصَّر بهما مِن العمَى، وأزالَ بهما أنواعَ الشرك والضلال، والكُفر والإلحاد، وطهَّر بهما العقولَ والقلوبَ مِن الشهوات والشبُهات التي تُغيِّر الفِطَر المُستقيمة، والعقولَ السليمة، رحمةً من الله - عزَّ وجل - بالناسِ.

وبعد أن أخرجَ الله - سبحانه - مِن القلوبِ الخُبثَ والخبائِثَ، ورديء الأخلاق، وصفات الذم بالكتاب والسنَّة، أحلَّ في القلوبِ الإيمانَ وشُعَبه؛ إذ لا يتمكَّن الإيمانُ وشُعَبُه في الإنسان إلا إذا خلا القلبُ مما يُضادُّ الإيمان، فالإناءُ لا يكونُ طاهرًا إلا إذ أُزِيلَت منه النجاسات، ثم تُوضَعُ فيه الأشياءُ الطاهرة، والقلبُ مثلُ الإناء.

وقد علَّمَنا الله ذلك في أول سورةٍ أرسلَ الله بها نبيَّه مُحمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد نُبّئ بـ ﴿اقْرَأْ﴾، وأُرسِلَ بالمُدِّثر، فقال - سبحانه -: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 1- 5].

فأمرَه أولًا بالتحذير من الشرك، وإنذار المُصِرِّين عليه، وبيان قُبحه وعظيم عُقوباته، ثم أمرَه بتعظيم الربِّ تعالى بالتوحيد والثناء، ثم أمرَه بالطهارة إجمالًا، وفُصِّلَت أحكامُها بعد ذلك، وأمرَه بهَجر الأصنام وتركها، والبراءة من عابِديها.

وهذه الآيات كقولِه تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: 256]، فبدأَ بالأمر بالكُفر بالطاغوت ليتمكَّن الإيمانُ في القلبِ، وأعظمُ منَّةٍ على العبدِ من ربِّه أن يهَبَ له قلبًا سليمًا يهدِيه الله به إلى العلم النافع والعمل الصالح، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88، 89].

وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إنِّي أسألُك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرُّشد، وأسألُك شُكرَ نعمتِك، وحُسنَ عبادتِك، وأسألُك لسانًا صادقًا، وقلبًا سليمًا»؛ رواه الترمذي وابن حبَّان من حديث شدَّاد بن أوس - رضي الله عنه -.

وعزُّ المسلم في الإيمان وشُعَبه، قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8].

وذلُّ الإنسان في المعاصِي والآثام، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ﴾ [المجادلة: 20].

وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مُناجاتِه لربِّه تعالى: «إنَّك تقضِي ولا يُقضَى عليك، إنَّه لا يذِلُّ مَن والَيت، ولا يعِزُّ مَن عادَيت، تبارَكتَ ربَّنا وتعالَيت»؛ رواه أصحابُ "السنن".

وصحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قولُه: «الإيمانُ بِضعٌ وسبعون شُعبة، فأعلاها: قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطةُ الأذَى عن الطريق، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمان»؛ رواه البخاري ومسلم.

وربُّنا - تبارك وتعالى - شرعَ لنا ما ينفعنا في حياتِنا وبعد مماتنا، ونهانا عما يضُرُّنا في حياتنا وبعد مماتنا، والخالِقُ - جلَّ وعلا - لا تنفَعُه طاعة، ولا تضُرُّه معصِية، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: 6].

ومِن دلائل قُدرة الله - سبحانه - وعلمِه وحكمتِه ورحمتِه، وفضله وإحسانِه، وجُوده وكرمِه أن شرَعَ للمسلم من العبادات ما يصعَدُ به في درجات الكمال، وما يصعَدُ به في درجات الزكاة والطهارة وكرم الأخلاق، حتى يصِلَ إلى ما قُدِّر له؛ ليسعَدَ في حياتِه وبعد مماتِه، قال الله تعالى في صفاتِ المؤمنين: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 3، 4].

فبيَّن الربُّ الرحيمُ أعمالَ القلوب بالقرآن والسنَّة؛ كالإخلاص، واليقين، وأركان الإيمان، والخوف، والرجاء، وغيرها، وبيَّن في الكتاب والسنَّة أعمالَ الجوارِح؛ مثل: أركان الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكَر، وغيرها.

وفضَّل بعضَ الأعمال على بعضٍ؛ فأعظمُ ما تقرَّبَ به المسلمُ إلى ربِّه أعمالُ القلوب التي أمرَ الله بها في الكتاب والسنَّة، وهي أساسُ أعمال الجوارِح، ويتفاضَلُ المسلمون بأعمال القلوب، ومعرفة معانِيها، والاتِّصاف بها؛ ولذلك فالصحابةُ - رضي الله عنهم - سبَقُوا الناسَ في أعمال القلوب، وفضَلُوهم فيها، ثم التابِعون؛ لمعرفتِهم بتمامِ معانِيها، والعمل بحقائِقها، ولكمال فقهِهم باللغة، وكمال توحيدِهم.

قال الحسنُ البصريُّ: "ما فضَلَهم أبو بكرٍ بكثرةِ صيامٍ ولا صلاةٍ، ولكن بشيءٍ وقَرَ في قلبِه".

ومِن أعظم أعمالِ القلوبِ وأجَلِّها وأعلاها: التوكُّل على الله - عزَّ وجل -، قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23].

فالتوكُّل على الله تعالى عبادةٌ بأمرِ الله - تبارك وتعالى - به في هذه الآية وغيرِها، أي: فوِّضُوا إليه أمورَكم كلَّها.

وقولُه - سبحانه -: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ دلَّ على أنَّ التوكُّل شرطٌ في الإيمان، ينتَفِي الإيمانُ عند انتِفاء التوكُّل، وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: 123]، فجعَلَ التوكُّل قسيمَ العبادة.

فما معنى التوكُّل على الله تعالى؟

معناه: الاعتِمادُ على الله - سبحانه - في الأمور كلِّها في الدنيا والآخرة، بصدقٍ تامٍّ، وإخلاصٍ مُبرَّأٍ من الشكِّ، وتفويضِ شُؤون العبد كلِّها إلى الخالِقِ الرحيم القادر على كل شيء، ووثوقٌ بالله العظيم، مع شُعور القلب بالبراءة من الحَول والقوة، والرضا بما يقضِيه الله له من الأمور.

فمَن نالَ هذه المنزِلة من التوكُّل، نالَ أعظمَ المطالِب، وجمَع الله له كلَّ المكاسِب، وتولَّى الله تعالى أمورَه، وصارَ من عبادِ الله الصالِحين، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196]، وقال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62، 63].

وقال الله تعالى في الحديث القُدسيِّ: «أنا عند ظنِّ عبدِي بي، وأنا معه إذا ذكَرَني»؛ رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

والتوكُّلُ حِصنُ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، الذي يُحرِزُهم من مكر أعدائِهم، والتوكُّلُ هو القوةُ التي لا تُقهَرُ من أعداءِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وهو الذي يُواجِهُون به شدائِد الحياة وكُرُبات النوازِل، فيتغلَّبُون به على كل شدَّة وكرب، قال الله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [يونس: 71].

وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنه -: "﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173] قالَها إبراهيم - عليه السلام - حين أُلقِيَ في النار، وقالَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -"؛ رواه البخاري.

وقال تعالى لنبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129]، وقال تعالى عن هودٍ - عليه السلام -: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: 56]، وقال - سبحانه -: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ [يونس: 84، 85].

وقال - سبحانه - عن الرسُل عمومًا: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12].

فمَن حقَّق التوكُّل على الله فهو المُفلِح المنصُور على نفسِه، والمنصُور على أعدائِه من الجنِّ والإنس، ومَن ضيَّع التوكُّل خُذِل وضلَّ، ولم ينفَعه شيء.

والتوكُّل مِن صفات المؤمنين المُوحِّدين، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2].

ومن التوكُّل: العملُ بالأسبابِ التي شرَعَها الله ومُباشَرتها، وكذلك الأسبابُ التي عُلِمَت بالتجارب، والأخذُ بها، مع عدم الركُون وعدم الاعتِماد عليها، بل يكونُ الاعتِمادُ على الله - تبارك وتعالى -؛ فتركُ الأسباب ليس من التوكُّل، والأسبابُ مخلُوقةٌ إذا شاءَ الله أبطَلَها فلا تنفَع، وإذا شاء ربُّنا نفَعَ بها، فالأمرُ كلُّه لله تعالى.

والشركُ الأكبرُ في التوكُّل هو أن يُفوِّضَ أحدٌ أمرَه إلى مخلوقٍ حيٍّ أو ميتٍ، ويعتمِدَ عليه فيما لا يقدِرُ عليه إلا الله - عزَّ وجل -؛ كاعتِمادِه على شيخٍ أنَّه يغفِرُ ذنبَه، أو ينصُره على العدو، أو يستجيب له الدعاء، أو يتوكَّل عليه أن يشفَع له؛ فالشفاعةُ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - يوم القِيامة - بإذن الله - لكلِّ مسلم، ولكل صالِح - بإذن الله -، أو أن يعتمِدَ أحدٌ على مخلُوقٍ أن يشفِيَه، أو يهَبَ له الولد، ونحو ذلك.

والقسمُ الثاني من الشرك في التوكُّل: شِركٌ دون الشرك الأكبر، وهو أن يعتمِدَ على أحدٍ في أمرٍ من الأمور؛ كأن يعتمِدَ عليه أن يُوظِّفَه وهو يقدِرُ، فينسَى الربَّ - جلَّ وعلا - ويرجُو المخلُوق، فهذا القسمُ دون الشرك الأكبر، وهو مُحرَّم، والواجِبُ أن يجعَلَ هذا المخلُوقَ أحدَ الأسباب التي عمِلَها، ويعتمِدَ على الله وحدَه.

قال بعضُ السلَف: "ما رجَا أحدٌ أحدًا لشيءٍ إلا تخلَّفَ رجاؤُه أحوَجَ ما يكون إليه".

وأما الوكالةُ في أمورٍ تصِحُّ فيها النيابة؛ مثل: البيع والشراء، فهذه جائِزة، مع وجوبِ اعتِقاده أنَّ الوكيل لا يُحقِّقُ المُرادَ إلا بمعُونة الله وقُدرتِه.

وقد وعَدَ الله تعالى على التوكُّل عليه أعظمَ الثواب، فقال - عزَّ وجل -: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]، فمَن أحبَّه الله آتاه من الخيرات، وحفِظَه من الشرور والمكرُوهات.

وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3] أي: ربُّه كافِيه ما أهمَّه وأغمَّه، وأصلَحَ له أمورَه في الحياة وبعد الممات، وهذا أعظمُ الأجر والثواب، ولم يذكُر اللهُ هذا الثوابَ لغير التوكُّل، وكفَى به فضلًا.

وروَى أحمدُ وابنُ ماجه والنسائيُّ عن أبي ذرٍّ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأَ هذه الآية عليه، وقال له: «لو أنَّ الناسَ كلَّهم أخذُوا بها لكَفَتْهم».

وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن سرَّه أن يكون أقوَى الناسِ فليتوكَّل على الله»؛ رواه عبدُ بن حُمَيد.

قال الله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: 58].

باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَنا وإياكم بما فيه مِن الآياتِ والذكرِ الحكيم، ونفَعَنا بهَديِ سيِّد المُرسَلين وقولِه القَويم، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم وللمُسلمين، فاستغفِروه إنَّه هو الغورُ الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمدُ ربِّي وأشكُرُه على نعمِه كلِّها ما علِمنا منها وما لم نعلَم، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له العليُّ العظيم، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا وسيِّدَنا مُحمدًا عبدُه ورسولُه النبيُّ الكريم، اللهم صَلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك مُحمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه الهُداة إلى الصراط المُستقيم.

أما بعد:

فاتَّقُوا الله حقَّ تقواه، وتوكَّلُوا عليه؛ فمَن توكًّل عليه كفَاه.

عباد الله:

خُذُوا بأسبابِ التوكِّل، وكمِّلُوا مقاماته، واحذَرُوا ما يُضادُّه أو يُضادُّ كمالَه؛ فهو عُدَّتُكم في هذه الحياة، وأمانُكم بعد الموت من كل عذابٍ وهَولٍ وكربٍ، قال الله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [يوسف: 67]، وقال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122].

واطلُبُوا الرزقَ الحلالَ؛ لتُقبَل عبادتُكم ودعاؤُكم، اطلُبُوه بالتوكُّل على الله - عزَّ وجل -.

ففي الحديث: عن عُمر - رضي الله تعالى عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أنَّكم توكَّلُون على الله حقَّ توكُّله؛ لرزَقَكم كما يرزُقُ الطيرَ تغدُو خِماصًا، وترُوحُ بِطانًا»؛ رواه الإمامُ أحمد والترمذيُّ، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".

عباد الله:

﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».

فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين، وسيِّد المُرسَلين نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، اللهم وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

اللهم وارضَ عن الصحابةِ أجمعين، وارضَ اللهم عن الخُلفاء الراشدين، الأئمة المهديِّين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، اللهم وارضَ عن التابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم انصُر دينَك وكتابَك، وأظهِر دينَك الذي ارتضَيتَه لنفسِك، اللهم أظهِر دينَك الإسلام الذي ارتَضَيتَه لنفسِك على الدين كلِّه ولو كرِه المُشرِكون يا ربَّ العالمين، إنَّك على كل شيء قدير، اللهم أبلِغه ما بلَغَ الليل والنهار، وأظهِره على كل دينٍ يا رب العالمين، إنَّك على كل شيء قدير، وإنَّ وعدَك الحقُّ وأنت أحكمُ الحاكمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافرين، والشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

اللهم اقضِ الدَّين عن المدينين من المسلمين، اللهم اقضِ الدَّين عن المدينين من المسلمين، اللهم واشفِ مرضانا ومرضَى المسلمين يا رب العالمين.

اللهم أعِذنا وأعِذ ذريَّاتنا مِن إبليس وجنودِه وشياطينه وأوليائِهِ يا ربَّ العالمين، إنَّك على كل شيءٍ قدير، اللهم أعِذ المسلمين وذريَّاتهم من الشيطان الرجيم إنك على كل شيء قدير.

اللهم إنا نسألُك أن تغفِرَ لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّم والمُؤخِّر، لا إله إلا أنت.

نسألُك فواتِحَ الخير وخواتِمه، وظواهِره وبواطِنه، والدرجات العُلى الجنة.

اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

اللهم اغفِر لموتانا وموتَى المُسلمين برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم تولَّ أمرَ كل مؤمنٍ ومؤمنة، وأمرَ كل مسلمٍ ومسلمةٍ يا ربَّ العالمين، اللهم هيِّئ للمسلمين من أمرِهم رشَدًا، اللهم اجمَع كلمتَهم على الحقِّ يا ربَّ العالمين، اللهم إنا نسألُك يا ذا الجلال والإكرام أن تُيسِّر أمورَهم، وأن تشرَحَ صُدورَهم.

اللهم احفَظ الإسلامَ والمُسلمين في كل مكان، اللهم احفَظ الإسلامَ والمُسلمين في كل مكان.  اللهم نفِّس كربَ المكروبين من المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين يا أرحم الراحمين. اللهم احفَظ بلادَنا مِن كلِّ شرٍّ ومكرُوهٍ، اللهم احفَظ بلادَنا مِن كلِّ شرٍّ ومكرُوهٍ يا ربَّ العالمين، واحفَظ جُنودَنا إنَّك على كلِّ شيءٍ قدير.

اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تُحبُّ وترضَى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك يا رب العالمين، اللهم وفِّق وليَّ عهده لِما تُحبُّ وترضَى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك يا رب العالمين.

اللهم إنَّا نسألُك الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عمل، ونعوذُ بك مِن النار وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عمل.

﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].

عباد الله:

﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].

فاذكُرُوا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُرُوه على نِعَمِه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبرُ، والله يعلَمُ ما تصنَعُون.

التوكُّل على الله تعالى.pdf

الخدمة المجتمعية

unread,
Mar 1, 2019, 3:21:16 PM3/1/19
to frid...@googlegroups.com

open-friday-2.png

الدَّين و خطر المماطلة فيه

 

فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ

المسجد النبوي - 24 - 6 - 1440 هـ

 

ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: " الدَّين و خطر المماطلة فيه "، والتي تحدَّث فيها عن مُعاملةٍ مِن المُعاملات المالية، وهي الاقتِراض، مُبيِّنًا خُطورةَ هذه الديُون، وأنَّ مَن اقترضَ فيجبُ عليه أن يُسدِّدَ دَينَه لمَن اقترضَ مِنه، ولا يجوزُ المُماطلَة أو التسويف مع القُدرة؛ لما في ذلك مِن الخطر العظيم، والجُرم الجَسِيم.

 

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ الذي جعلَ لمَن اتَّقاه فرَجًا ومخرَجًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، له الأسماءُ الحُسنى والصفاتُ العُلَى، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمدًا عبدُه ورسولُه النبيُّ المُصطفى، والرسولُ المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابهِ البرَرة الأتقِياء.

أما بعد.. فيا أيها المُسلمون:

أُوصِيكم ونفسي بتقوَى الله - جلَّ وعلا -؛ فمَن اتَّقاه أسعَدَه ولا أشقاه.

أيها المُسلمون:

مِن الأصول القطعيَّة في الإسلام: التأكيدُ على حقوقِ العباد مُحافظةً وصِيانةً، ومما يتساهَلُ به بعضُ الناس عدمُ أداء الحُقوق لأهلِها لا سيَّما الدَّين الذي يكون على الإنسان مِن ثمَن مبيعٍ اشتراه، أو قرضٍ استقرَضَه، أو أُجرةِ أجيرٍ استأجَرَه، ونحو ذلك.

فالواجِبُ على المُسلم أن يحرِصَ على سلامةِ ذمَّته، وأداءِ ما عليه مِن حقوقٍ لإخوانِه، يقولُ الله - جلَّ وعلا -: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188].

إنَّ الفرضَ المُتحتِّم على كل مُسلمٍ أن يُؤدِّي حُقوقَ الخلق كاملةً غير مبخُوسة، تامَّةً غير منقُوصة، ومِن الإثم المُبين والجُرم العظيم: التملُّص مِن أداء الدَّين، أو التهرُّب مِن أهلها ومُماطلتُهم، والتسويفُ بأداءِ حُقوقِهم.

يقولُ - صلى الله عليه وسلم -: «مَطْلُ الغنيِّ ظُلمٌ»؛ متفق عليه.

والمَطْلُ هو تأخيرُ ما استُحِقَّ أداؤُه مِن غير عُذرٍ؛ فمَن كان غنيًّا قادرًا على سدادِ أقساط الديُون، مُتمكِّنًا مِن الوفاءِ ثم لم يَفِ، فقد ارتكَبَ حرامًا، ووقعَ في ظُلم الخلقِ مِن أصحابِ الديُون، والظلمُ عاقبتُه وبالٌ وعارٌ دُنيا وأُخرى.

إخوة الإسلام:

الدَّينُ أمرُه عظيمٌ، وشأنُه كبيرٌ في الإسلام.

ولهذا جاء عن أبي هُريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يُؤتَى بالرجُل المُتوفَّى وعليه الدَّين، فيسألُ - عليه الصلاة والسلام -: «هل ترَكَ لدَينه مِن قضاءٍ؟»، فإن حُدِّثَ أنَّه ترَكَ وفاءً صلَّى عليه، وإلا قال: «صلُّوا على صاحِبِكم»؛ متفق عليه.

فيا مَن لا تُلقِي لأداءِ الديُون اهتِمامًا، ولا ترعَى لأصحابِها حقًّا! اتَّق اللهَ ربَّك، والتَزِم بأداءِ حقوقِ غيرِك.

روى مُسلمٌ في "صحيحه" عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «يُغفَرُ للشَّهيد كلُّ ذنبٍ إلا الدَّين».

فيا أيها المُسلم! أدِّ ما في ذمَّتك، واحذَر مِن أن تُماطِلَ في أداءِ أموالِ الناسِ وأنت قادِرٌ على أدائِها، بل بادِر قبل الفوَات، وقبل أن لا يبقَى إلا المُقاصَّة بالحسنات والسيئات.

قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن كان عنده لأخِيه مَظلَمة مِن عِرضٍ أو مِن شيءٍ فليتحلَّله مِنه اليوم قبل ألا يكون دِينارٌ ولا دِرهَمٌ، إن كان له عملٌ صالِحٌ أُخِذَ مِنه بقَدر مظلَمَته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذَ مِن سيئات صاحِبِه فحُمِلَت عليه»؛ رواه البخاري.

فاجتَهِد يا مَن تحمَّلتَ دَينًا، اجتَهِد بالسداد والوفاء، وإلا فأنت ما دُمتَ قادرًا على السداد، وقُمتَ بالمُماطَلَة والعِناد فأنت مُعرِّضٌ نفسَك للخطر يوم التَّناد.

روى النسائيُّ بإسنادٍ حسنٍ عن مُحمدِ بن جَحشٍ - رضي الله عنه - قال: كنَّا جُلوسًا عند رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفعَ رأسَه إلى السماء، ثم وضعَ راحتَه على جبهَته، ثم قال: «سُبحان الله! ماذا نُزِّل مِن التشديدِ؟!»، فسكَت الصحابةُ وفزِعُوا مِن ذلك، فلما كان مِن الغدِ سألتُه: يا رسولَ الله! ما هذا التشديدُ الذي نُزِّل؟ فقال: «والذي نفسِي بيَدِه؛ لو أنَّ رجُلًا قُتِلَ في سبيلِ الله ثم أُحيِي، ثم قُتِل ثم أُحيِي، ثم قُتِل وعليه دَينٌ ما دخَلَ الجنة حتى يُقضَى عنه دَينُه».

أهي المُسلم! كُن على عزيمةٍ صادقةٍ في أداءِ حقوقِ الخلقِ، واستحضِر نيَّةً طيبةً في السدادِ والوفاءِ، يجعل اللهُ لك مخرَجًا، ويفتَح لك أبوابًا مُؤصَدة.

قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أخذَ أموالَ الناس يُريدُ أداءَها أدَّى الله عنه، ومَن أخذَها يُريدُ إتلافَها أتلفَه الله»؛ رواه البخاري.

وأنت يا صاحِب الدَّين! كُن سَمحًا سَهلًا سخيًّا؛ فمَن كان مُعسِرًا عن أداء الدَّين، فالواجِبُ إمهالُه إلى ميسَرة؛ لقولِه - جلَّ وعلا -: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: 280].

ومِن فضائل الأعمال: التجاوُز عن المُعسِرين، والعفو عن المُعوِزين، قال - صلى الله عليه وسلم -: «كان تاجِرٌ يُدايِنُ الناسَ، فإذا رأى مُعسِرًا قال لفِتيانِه: تجاوَزُوا عنه لعلَّ اللهَ أن يتجاوَزَ عنَّا، فتجاوَزَ الله عنه»؛ متفق عليه.

وفي روايةٍ لمُسلم: «قال الله - عزَّ وجل -: نحن أحقُّ بذلك مِنه، تجاوَزُوا عنه».

وفي الحديثِ المُتَّفق عليه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «ومَن يسَّرَ على مُعسِرٍ يسَّر الله عنه في الدنيا والآخرة».

فاظفَر - أخي المُسلم - بالرحمة بمَن أعسَرَ تأخيرًا للأجَل، أو بالمُسامَحَة والإبراء؛ فذلك أعظمُ أجرًا، وأجزَلُ ثوابًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن سرَّه أن يُنجِّيَه الله مِن كُرَب يوم القِيامة فليُنفِّس عن مُعسِرٍ أو يضَع عنه»؛ رواه مسلم.

اللهم اغنِنا بحلالِك عن حرامِك، وبفضلِك عمَّن سِواك، اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا ورسولِنا مُحمدٍ.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله وليِّ الصالِحين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله الحقُّ المُبين، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه سيِّدُ الخلق أجمَعين، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابِه أجمعين.

أما بعد .. فيا أيها المسلمون:

مما أوجبَه الإسلام: الوفاءُ بأُجرة الأجير؛ فيحرُمُ بَخسُ حقِّه أو التسويفُ في ذلك.

قال - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثةٌ أنا خَصمُهم يوم القِيامة»، وفي روايةٍ في غير البخاري: «ومَن كنتُ خَصِيمَهُ خصَمتُه»، وذكرَ رجُلًا مِنهم، قال: «استَأجَرَ أجيرًا فاستَوفَى مِنه ثم لم يُعطِه أجرَه»؛ رواه البخاري.

ثم إنَّ الله - جلَّ وعلا - أمرَنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهو الصلاةُ والسلامُ على النبيِّ الكريم.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا ورسولِنا مُحمدٍ، وارضَ اللهم عن الخُلفاء الراشِدين، وعن الآل أجمعين، وعن الصحابة ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم اغفِر لنا وللمُسلمين، اللهم اغفِر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا.

اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النَّار.

اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين، اللهم فرِّج هُمومَهم، اللهم نفِّس كُرُباتِهم، اللهم اشفِ مرضانا ومرضَاهم، اللهم يسِّر للمَدينين ما تقومُ به حاجتُهم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا ونائِبَه لِما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لما فيه خِدمةُ رعاياهم.

اللهم نسألُك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أنت الغنيُّ الحميد، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا يا حيُّ يا قيُّوم، يا ذا الجلال والإكرام.

وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.

الدَّين و خطر المماطلة فيه.pdf
Reply all
Reply to author
Forward
0 new messages