تذكر مقدمة الكتاب أن الحكيم الهندي بَيْدَبا قد ألّفه لملك الهند دَبْشليم وقد استخدم المؤلف الحيوانات والطيور شخصيات رئيسة فيه وهي ترمز في الأساس إلى شخصيات بشرية وتتضمن القصص عدة مواضيع من أبرزها العلاقة بين الحاكم والمحكوم بالإضافة إلى عدد من الحِكم والمواعظ.حينما علم كسرى فارس أنوشيروان بأمر الكتاب وما يحتويه من المواعظ أمر الطبيب بَرْزَوَيه بالذهاب إلى بلاد الهند ونسخ ما جاء في ذلك الكتاب ونقله إلى الفهلوية الفارسية.[6]
يتألف الكتاب من خمسة عشر باباً رئيسياً تضم العديد من القصص التي أبطالها من الحيوانات[7] ومن أبرز شخصيات الحيوانات التي يتضمّنها الكتاب الأسد الذي يلعب دور الملك وخادمه الثور الذي يُدعى شَتْرَبه (أو شَنْزَبَه في بعض النسخ) بالإضافة إلى اثنين من بنات آوى وهما كليلة ودمنة. ويتضمن أربعة أبواب أخرى جاءت في أولى صفحات الكتاب وهي: باب مقدمة الكتاب وباب بعثة برزويه إلى بلاد الهند وباب عرض الكتاب (ترجمة عبد الله بن المقفع) وباب بروزيه (ترجمة بُزُرجِمِهر بن البُخْتَكان). وقد لعبت النسخة العربية من الكتاب دوراً رئيسياً مهماً في انتشاره ونقله إلى لغات العالم إما عن طريق النص العربي مباشرة أو عن طريق لغات وسيطة أخذت عن النص العربي.[8] يصنف النقاد العرب القدامى كتاب كليلة ودمنة في الطبقة الأولى من کتب العرب ويجعلونه أحد الكتب الأربعة الممتازة إلى جانب الكامل للمُبَرّد والبيان والتبيين للجاحظ والعمدة لابن رشيق.[9]
اختلف البعض في أصل الكتاب ولكن العديد من الباحثين أجمعوا على أنه يعود لأصول هندية وتمت كتابته باللغة السنسكريتية في القرن الرابع الميلادي. ويتناول الكتاب في مقدمته قصة بيدبا الفيلسوف مع ملكه الهندي دبشليم والتي تقول بأن الإسكندر ذا القرنين الرومي اجتاح في غزواته بلاد الشرق وكانت من ضمنها البلاد الهندية التي انتصر فيها على ملكها وإثر ذلك قرّر أن يُعيّن على بلاد الهند أحد أتباعه ليواصل بعد ذلك اجتياحه للبلدان الأخرى إلا أن أهل الهند لم يرضوا بذلك الحاكم الأجنبي الأمر الذي دفعهم لخلعه واختيار شخص من بينهم وهو دبشليم وجعلوه ملكاً عليهم. ولكنه ما لبث حتى تبدّل من ملك عادل رحيم إلى طاغية وهو ما دفع بالفيلسوف الحكيم بيدبا للذهاب إليه وتقديم النصح له وبعد أن استمع الملك إلى كلامه غضب الملك دبشليم وأمر بقتل بيدبا وصلبه في بادئ الأمر قبل أن يُحجِم عن ذلك والاكتفاء بحبسه. لاحقاً قام دبشليم الملك بإخراج بيدبا من السجن وطلب منه إعادة كلامه عليه. وقام بيدبا بذلك وكان دبشليم يستمع متأثراً ووعده بأنه سيعمل بكلامه ثم أمر بفك قيوده وقد ولّاه الملك وزيراً عنده. هذا الأمر كان بداية وضع الكتاب حيث طلب بيدبا من الملك دبشليم أن يُدوّن الكتاب ويُحفظ.[10][11]
إلا أن البعض شكّك في ذلك ورأى بأن أصل الكتاب عربي كون النسخة العربية هي النسخة القديمة الوحيدة الباقية من الكتاب مع ضياع النسخة الهندية والفارسية إن وجدت ويرون بأن قصة مقدمة الكتاب وانتقاله من الهند إلى فارس والقصص التي رويت على ألسنة الحيوانات ما هي إلا من وحي خيال الكاتب عبد الله بن المقفع نفسه ليبعد التهمة عنه كونه خاف على نفسه من الهلاك.[12] قال ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: إنّ ابن المقفَّع هو الذي وضع كتاب "كليلة ودمنة" وقيل: إنه لم يضعه وإنما كان باللغة الفارسية فعرّبه.[13]
كانت أولى ترجمات الكتاب هي الفهلوية الفارسية في القرن السادس الميلادي حينما طلب كسرى الأول أنوشيروان من وزيره بزرجمهر بن البختكان أن يبحث له عن شخص أديب حكيم يكون متقناً للفارسية والهندية فوقع الاختيار على الطبيب برزويه فأمره أن يتوجّه إلى الهند لنسخ الكتاب ونسخ ما يجد من كتب وقد وفّر له الملك ما يحتاج إليه من مال. فتوجّه برزويه إلى الهند وهناك خالط عدداً من خواص الملك والعلماء والفلاسفة وجعل يخبرهم بأنه قد أتى إلى بلادهم لطلب العلم والأدب وأنه محتاج إليهم في تحقيق ذلك وقد استطاع الحصول على ما جاء من أجله بحسن خلقه وحكمته ودهائه. بعد أن أتم نسخ الكتاب وغيره من الكتب وأعلم أنوشيروان بذلك طلب منه القدوم. حينما رأى الملك ما أصابه من تعب وضعف أمره بأن يطلب ما أراد فكان طلبه بأن يقوم أنوشيروان بأمر وزيره بزرجمهر في تأليف باب يحتوي على كلام متقن يصف فيه حال برزويه وخبره وأن يجعله أول أبواب الكتاب وتحديداً قبل باب الأسد والثور وتم له ما أراد.[11][14]
بينما يذكر كتاب الشاهنامه بأن برزويه كان مولعاً بالعلم والحكمة وقد قرأ ذات يوم في أحد الكتب بأن الهنود لديهم نباتاً يُنثر على الميت فيتكلم في الحال وكان برزويه مقرباً لدى كسرى الأول أنوشيروان فاستأذنه برزويه للتوجّه إلى الهند للحصول على تلك النبتة وحين بلوغه إليها واجهته العديد من المصاعب حتى تبيّن له بأن النبات المقصود ما هو إلا رمز لكتاب موجود لدى ملك الهند[15] وأنه كان متوارثاً عنده ولا يسمح لأحد بنسخه إلا أن برزويه بحسن خلقه وحكمته استطاع الاطلاع على تلك النسخة وكان يرسل ما يحفظه منها إلى أنوشيروان إرسالًا مستمرًا وقد تولى بزرجمهر الكتابة.[8] ويُعتقد بأن برزويه قام بإضافة حكايات هندية أخرى إلى كليلة ودمنة من كتاب مهابهاراتا بالإضافة إلى المقدمة التي تتضمن السيرة الخاصة به ورحلته إلى بلاد الهند.[16]
نُقلت ترجمة الكتاب إلى العربية في القرن الثاني الهجري الموافق للقرن الثامن الميلادي على يد عبد الله بن المقفع بعد أن اطلع على النسخة الفارسية منه[20] حيث كان للكتاب أثر بالغ في نفسه وأن الحياة السياسية والاجتماعية للحكيم الهندي بيدبا مع الملك دبشليم مشابهة لما كان هو عليه مع الخليفة المنصور الذي كان يُعرف بقوة بأسه وشدته على من يخالفه. فكان بحاجة إلى النصح نصحًا غير مباشر فتميزت ترجمته بخصوصية الظرف الزماني والمكاني وأضاف بعض القصص من تأليفه وعدّل في أخرى وأضاف إليها أسلوبه.[8][21] وقام باستحداث باب وأسماه الفحص عن أمر دمنة وقام بإلحاق أربعة فصول به لم ترد في النسخة الفارسية.[16]
اعتُبِر عمل ابن المقفع من أفضل أعمال النثر في الأدب العربي وبحسب البعض فإنه يعتبر أول تحفة أدبية عربية نثرية[22][23] وقد تميّزت النسخة العربية بأهمية كبيرة كونها الوحيدة التي بقيت محفوظة بخلاف النسختين الهندية والفارسية اللتين فقدتا ومنها انتشرت إلى الأدب العالمي.[22]
سعى البيروني خلال تواجده بالهند لإيجاد النسخة الأصلية للكتاب من أجل ترجمتها لأنه أعتقد أن نسخة ابن المقفع مشكوك في مصداقيتها.
اعتمدت جميع اللغات تقريباً على النسخة العربية من كتاب كليلة ودمنة إما عن طريق النص العربي مباشرة أو عن طريق لغات وسيطة أُخِذت عن النص العربي.[8] حيث تُرجم إلى السريانية للمرة الثانية في القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي وترجمها إلى اليونانية سيمون سث سنة 1080م وقد أعيدت ترجمته إلى الفارسية الحديثة نظماً من قِبل الشاعر الرودكي ومن ثم نثراً بواسطة أبو المعالي نصر الله منشي في القرن السادس الهجري سنة 1121م[25] وإلى الإسبانية سنة 1252م. وتُرجم الكتاب من العربية إلى العبرية من قِبل الحاخام يوئيل في القرن الثاني عشر الميلادي ومن ثمّ ترجم يوحنا الكابوني النسخة العبرية إلى اللاتينية تحت عنوان دليل الحياة البشرية (Directorium Humanae Vitae) وطُبعت سنة 1480م والتي أصحبت مصدراً لمعظم الإصدارات الأوروبية. طُبعت النسخة الألمانية من الكتاب التي تحمل عنوان كتاب الأمثال (Das Buch der Beispiele) سنة 1483م وهو ما جعل الكتاب واحداً من أوائل الكتب التي تمت طباعتها بواسطة مطبعة غوتنبرغ بعد الكتاب المقدس.[26]وتُرجمت النسخة اللاتينية إلى الإيطالية بواسطة أنطون فرانشيسكو دوني سنة 1552م وأصبحت هذه النسخة الأساس لأول ترجمة إنجليزية ففي سنة 1570م قام توماس نورث بترجمتها من الإيطالية إلى الإنجليزية الإليزابيثية تحت عنوان خرافات بيدبا وقد أعاد جوزيف جاكوبس سنة 1888م طباعة النسخة.[27] في عام 1644م ظهرت بعض حكايات الكتاب بالفرنسية في كتاب حمل عنوان كتاب الأنوار في سلوك الأقيال ([28]Le livre Des Lumires Sur La Conduite Des Royes) وقد ظلت غير وقد ظلت هذه الترجمة الفرنسية غير معروفة حتى قدوم أنطوان غالان الذي بدأ بترجمة كتاب كليلة ودمنة عن أصل تركي من ترجمة علي شلبي إلا أنه لم يكمل منه سوى أول أربعة أبواب وقد أتم الترجمة كاردن سنة 1788م تحت عنوان الأمثال والقصص الحيوانية الهندية المنقولة عن بيدبا ولقمان مترجمة عن كتاب علي شلبي بن صالح الكاتب التركي (Conte et Fables Indiennes de Bidpai et de Lokman, Trduites de Ali Tchabbi ben Saleh Auteur Turc). ويقال بأن ترجمة فرنسية أخرى ظهرت قبل ذلك ونشرت سنة 1709م والتي أخذت عنها ترجمة إنجليزية بعنوان قصص حيوانية مثقفة مسلية منقولة عن بيلياي من قدماء فلاسفة الهند (Instrucetive and Entetuining Fables of Pilpay, an ancient Indian Philosopher) وقام لافونتين في سنة 1679م بالترجمة استناداً على نسخة بعنوان الحكيم الهندي بيلباي.[26]كان الأصل التركي الذي اعتمد عليه المترجمون الفرنسيون من ترجمة علي شلبي أحد أساتذة كلية أدرنة في عهد السلطان سليمان الأول الذي يحمل عنوان سفر الملوك (همايون نامه).[17]
03c5feb9e7