سيدي لقد قرأت مقالك عن الشهيد سيد قطب وإنه لثورة قبل أن يكون مقالا نعم .. إنه ثورة ! إنه يكشف اللثام ويمزق الأقنعة ويشرق بالحقيقة ! إنه يقتل الجبناء ويفضح العملاء ! إنه نور الرحمن يتنزل بإشراقاته على كلماتك الصادقة المؤمنة الواعية ..
لقد أبدعت كلاما عن الشهيد .. لقد وفيته حقه إني لأحفظ من مقالك كلمات وجمل من أول قراءة له لقد كنت أعيد الجملة بعد الجملة ! كنت أرى فيها نور الإيمان والتقى وسبيل الصالحين الأولين ..
شيخي الجليل لا أجد ما أعبر به من كلمات ولا ما أصوغه من أحرف لكي أوفيك حقك ولكني أعاهد الله أن أنشر كلامك قدر ما أستطيع وأن أوصله لمن أستطيع .. وأدعو لك الله بأن يسكن فؤادك في الجنة ويطفي غليل قلبك بشربة من يد حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم
أسأل الله أن يجمعك أول ما يجمعك بمحمد وأصحابه وحمزة والحسين والشهداء من بعده .. ولعلك تلقى سيد يوما ما فيشكرك على صنيعك ..
شيخي الجليل من أرض اليمن - من صنعاء .. إليك أعظم تحية عرفها أستاذ من تلميذ ومعلم من طالب إليك أعطر وأجمل وأرق وأطهر تحية عرفتها البشرية يا نسل العظماء ويا حفيد الشرفاء .. يا أيها الشهيد الحي ..
انتظرت حتى انتهى صخب الاحتفال كي أقول كلمتى رغم أن الاحتفال هذا العام قد حفل بظاهرة من أغرب الظواهر وهو احتفاء الدولة واحتفالها بالثورة في مشهد كريه ومقزز كزنا المحارم فالسلطة التى صدر عنها كل هذا الضجيج والصخب احتفالا بالثورة أكثر فسادا و أنكى ظلما من ذلك الذي قامت الثورة للقضاء عليه.
نعم.. كان الاحتفال الرسمى بثورة 23 يوليو أشبه بقرصان أو مملوك قتل أستاذه.. وصنع من جمجمته قدحا يشرب فيه الخمر في مخازيه كل مساء.. فلما انقلب عليه غلمانه وعاداه سادته وتنكر له أقرانه وفقد سطوته وسلطته لم يجد إلا أستاذه القديم يتمسح فيه ويحتفل به.
إذ نتناول ثورة 23 يوليو علينا أن نحذر من ذئب التفاصيل وغواية الحكايات وطوفان الأحداث فكل ذلك كفيل بإغراقنا وبحصارنا فى أنفاق مسدودة متناقضة متضادة حيث يتشبث كل منا بأن نفقه هو الذى يشكل المجرى الرئيسي لثورة 23 يوليو.
الغرق فى التفاصيل قد يكون مغريا لكنه فى نفس الوقت يمنعنا من تكوين نظرة شاملة للأمر لأى أمر إذ يمكن أن ينقضى العمر كله ونحن نناقش التفاصيل دون أن نصل إلى أى نتيجة أو تصور كلّى.
لكن هذا لا يعنى أن نندفع إلى الاختزال المخل الذى قد ييسر لنا الوصول إلى تصور شامل كلى و إلى إصدار أحكام قاطعة تكون فى أغلب الأحيان خاطئة.
بين هذا وذاك إذن يجب أن يكون أمرنا ومن هذا المنطلق فإننا نستطيع القول بأن ثورة 23 يوليو هى جمال عبد الناصر و أن جمال عبد الناصر هو ثورة 23 يوليو. لن ندخل فى التفاصيل لن نهتم على سبيل المثال بما بعد جمال عبد الناصر لأنه يشكل شيئا آخر لا يهمنا الآن إن كان مناقضا أو إن كان أسوأ ذلك أنه فى كافة أحواله شيء آخر غير ثورة 23 يوليو.
لن نهتم أيضا بإيجابيات الثورة ولا بسلبياتها ولا بهزائمها وانتصاراتها فقد قتل كل ذلك بحثا وما من صواب قيل إلا وفيه باطل وما من باطل قيل إلا وفيه بعض صواب.
لا يدخل فى بحثنا هذا إذن قضايا جوهرية كدور الثورة فى التحرير من الإنجليز أو مسئوليتها عن الاحتلال الإسرائيلى. لن نتحدث عما أحدثته من انقلاب اجتماعى ولا نحن سنتورط فى الغرق فى تفاصيل إذا ما كان هذا التحول خيرا أم شرا.
لن نتحدث حتى عن التعذيب الجريمة التى لا تفوقها جريمة ولا يمكن غفرانها أو الدفاع عنها. ولا نحن سنتحدث عن برامج التصنيع والتحديث وتفجير وعى العرب بهويتهم.
لن نحاسب ثورة 23 يوليو إذن من خلال كل ما نسب إليها من انتصارات وانكسارات ولا من مظالم وجرائم أو إنصاف وعدل. ولا نحن سنحاسبها عن تحقيق أهدافها فقد تقصر الأعمار فلا تتسع لأمر جليل.
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن زعيما بقامته وتأثيره قد فهم جوهر الصراع بين الحضارات وأدرك أبعاد الصراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية فاتخذ الإسلام سبيلا ومنهجا وحاديا وهاديا..
كيف لم يدرك أن الصراع هو ما أنبأنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم و أن الغرب سيحاربنا كافة و أن علينا أن نتجمع كافة لكى نستطيع مواجهته والانتصار عليه.. كافة.. ليس تحت راية وطنية ولا قومية و إنما تحت راية الإسلام.
والحقيقة أننى لم أقتنع رغم أنى أحب الرجل و أحترمه كثيرا وهو شديد التدين وقد جاوز الثمانين ولم يعد لبهرج الدنيا ومغانمه عنده غاية.
سمعت أيضا من السيد أحمد طعيمة وزير الأوقاف السابق- وهو من الضباط الأحرار- والذى يقرر أن تصرفات الأحزاب السياسية مع عبد الناصر هى التى حولته من شخص يترسم خطى عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى طاغية.. لكنه امتدح إسلامه و إخلاصه كثيرا
- ألا تظن أن أحاديث التعذيب فى عهده مبالغ فيها.. و أن الخلاف لم يكن بينه وبين الإسلام و إنما بينه وبين بعض المسلمين..
ووضعت.. وليتنى ما وضعت.. لم تخف ملابسه من على ظهره كله تلك التضاريس المرعبة للندبة الهائلة المتصلة فكأنما افترسه وحش مسعور..
اقشعر شعر رأسى هولا.. منعت صرخة وكبحت دمعة ودوى فى أذنى طنين كأنه أنين المعذبين وآهات المكروبين.. ومن خلف الدمعة والصرخة والطنين كان يأتينى صوته:
- قد بكيت طويلا لأننى شاركت فى الثورة التى وصلت بالوطن والأمة والنظام إلى ما صاروا إليه ليتنى ما شاركت فيها ليتنا ما قمنا بها.
أحد الأصدقاء وهو كاتب كبير ومفكر بالغ العمق ووطنى من الطراز الأول ومثقف حقيقى واسع الاطلاع راح يتساءل أثناء حوارنا حول ثورة 23 يوليو:
- كيف تسأل إن كانت الثورة ممكنة أم غير ممكنة بينما هي قد قامت فعلا ووجدت على الساحة وكان لها تأثيراتها الكبرى.
- دعنى كي أوضح نفسي أبدأ بطرفة إذ يحكى أن شابا ذهب إلى شيخ المسجد ليسأله: يا مولانا: هل تنفع الصلاة بغير وضوء وأجابه الشيخ على الفور: لا يا بنى.. لا تنفع أبدا وهنا فاجأه الشاب: يا مولانا لقد جربت بنفسى: عملتها ونفعت!!..
لقد قام هذا الشاب بكل حركات الصلاة وربما يكون من حق كل من شاهده أن يقسم أنه صلى إلا أنه في الواقع لم يصل!!.. كذلك ثورة 23 يوليو مارست كل طقوس الثورة لكنها في الواقع لم تقم.
دعنا من الرمز المكثف الآن من أن الصلاة لا تصلح دون وضوء وكذلك الثورة ما كانت لتصلح دون وضوء ودون مرجعية إسلامية كاملة ومهيمنة فالأمة لن تحررها إلا الأيدى المتوضئة.
قلت للصديق أن ثورة يوليو 52 قد قامت على خلفية قصور شامل في إدراك التاريخ من ناحية وواجبات العقيدة من ناحية أخرى.
لم تفطن الثورة إلى قاعدتين أساسيتين لم يكن لقيامها أن يصح بدونهما: أننا كما يقول القرآن أمة واحدة و أن أعداءنا يقاتلوننا كافة و أنه يجب علينا أن نقاتلهم كافة. تبنت الثورة فكرة القومية وهى فكرة غربية يقول جارودى ( الإسلام الحى- دار البيرونى-بيروت) أنه ليس هناك فكرة مناقضة لعقلية الأمة الإسلامية أكثر منها وهى فكرة تتناقض مع وحدة الإنسانية التى تعتبر المفتاح الرئيسي للنظرة الإسلامية للعالم. كانت القومية تمزيقا للأمة وكانت مؤامرة غربية صليبية وكانت شَركا وقعت فيه الثورة وطعما ابتلعته فما نجحت في إرساء الدولة القومية ولا هي سعت إلى وحدة الدولة الإسلامية. بل لقد استبعدت الدين أصلا كمحرك للصراع. وتجاهلت تاريخا طويلا مضمخا بالدم والمعارك.
03c5feb9e7