بين المهدية والجنجويد: تراجيديا السودان في مآلات الخلط بين الثورة والدولة
أمجد فريد الطيب
٦ سبتمبر ٢٠٢٥
تمر الأمة السودانية بأعنف محنة في تاريخها الحديث، في خضم حرب طاحنة هددت كيان الدولة وشردت الشعب وأذاقته الامرين، واحالت الأرض الطيبة إلى ركام ورماد. منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا الدعم السريع، فقد مئات الالاف حياتهم على مستوى البلاد بسبب القتال والجوع والأمراض، مع نزوح أكثر من 12 مليون شخص داخل البلاد ولجوء اكثر من 4 مليون الي خارجها، مما جعلها أكبر أزمة نزوح في العالم، بينما تسبب حصار التجويع المتعمد الذي يتم استخدامه كسلاح في الحرب في مجاعة كارثية في مناطق مختلفة من البلاد. وتتصاعد فصول المأساة باستمرار القتال في مختلف انحاء البلاد.
هذه الحرب ليست مجرد صراع عسكري بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، بل جاءت في اثر انقلاب فاشل اشعل حربا هدت اركان السودان ودمرت بنيته التحتية المتهالكة اصلا واستثمرت في تفكيك نسيجه الاجتماعي. ونمت دائرة العنف بفعل التخليط المعرفي الذي يمنع التعلم من التاريخ بل يستخدمه كوقود لمزيد من نيران الحرب.
مؤخراً، أثارت تعليقات سياسية على منصات التواصل الاجتماعي وفي المناقشات العامة جدلاً حول طبيعة الحرب الحالية، حيث عمد البعض الي مقارنة جرائم وانتهاكات مليشيا الدعم السريع ومقاربتها بالعنف الذي شهدته عصر الدولة المهدية، خاصة خلال فترة حكم الخليفة عبدالله التعايشي بعد وفاة المهدي التي حدثت بعد اشهر قليلة من تحرير الخرطوم من الاستعمار التركي في 26 يناير 1885.
الثورة المهدية: سيرة الثوار والساسة
بدأ محمد أحمد المهدي (اغسطس -1844 يونيو 1885) مبكراً في التعبير عن امتعاضه من الأوضاع المتردية في السودان، ومعارضته لحكم الاستعمار التركي والضرائب الباهظة التي فرضتها السلطات الاستعمارية واثقلت كاهل الناس. وفي أواخر عام 1880، التقى محمد احمد المهدي بعبد الله ود تورشين، الملقب بالتعايشي، في قرية طيبة القريبة من مدينة الحصاحيصا بوسط السودان. ويُروى على نطاق واسع بين المؤرخين أنّ ود تورشين لعب دوراً حاسماً في إقناع المهدي بإعلان مهدويته، وكان أول من بايعه واعلنه المهدي خليفة له بحسب ما قال بانه جاءه في الحضرة النبوية.
وُلد عبد الله ود تورشين (1846 - 1899) في قرية أم دافوق بدار التعايشة في جنوب دارفور. وتلقّى تعليمه الديني على يد الشيخ محمد شريف نور الدائم في طريقته الصوفية، واشتهر عنه الدعاية بالقول بأنّ المهدي المنتظر قد ظهر، وأنّ من انكره كفر. غير أنّ شيخه محمد شريف نهاه عن ذلك فامتنع. وفي أثناء حرب الزبير باشا في دارفور، وقع عبد الله أسيراً في بعض المعارك في منطقة شكا. وهمّ الزبير بقتله، لولا أن توسّط بعض العلماء فعفا عنه. عندها أراد عبد الله أن يكافئ الزبير على عفوه، فحاول إقناعه بأنه المهدي المنتظر، فأسر له القول: «رأيت في المنام أنك المهدي المنتظر، وأنني أحد أتباعك». فأجابه الزبير: «لست بالمهدي، وإنما رأيت هؤلاء العرب قد قطعوا طرق التجارة، فجئت لفتحها». وبعد انتهاء حملة الزبير باشا على دارفور واستقرار الأمن فيها، هاجر عبد الله التعايشي واسرته نحو الأراضي المقدسة تنفيذا لوصية والدهم عند وفاته بان يهاجروا الي مكة ولا يعودوا الي السودان ابدا. وفي هذه الرحلة، سمع ود تورشين بمحمد احمد المهدي وسعى حتى التقى به، ونجح في إقناعه بإعلان مهدويته.
رفع المهدي، ود تورشين مكانا عليا في دعوته. ففي 27 يناير 1883 أصدر المهدي منشوراَ حدد فيه مكانة الخليفة في الدولة والدعوة والمعتقد، ووضعه في مقام أبي بكر الصديق ونصبه قائدا عاما لكل جيوش المهدية ونسب كل افعاله اليه «إن الخليفة عبد الله جزء مني وإن كل ما يقوم به من أعمال هي إلهام من الله وليست من هواه أو رأيه الشخصي». وجاء في منشور المهدي الاعلان عن عصمة خليفته: «أعلموا أيها الأحباب أن الخليفة عبد الله، خليفة الصديق المقلد بقلائد الصدق والتصديق، فهو خليفة الخلفاء، وأمير جيوش المهدية المشار إليه في الحضرة النبوية! فذلك عبد الله بن محمد، حمد الله عاقبته في الدارين، فحيث علمتم أن الخليفة عبد الله هو مني وأنا منه وقد أشار سيد الوجود، فتأدبوا معه كتأدبكم معي، وسلموا إليه ظاهراً وباطناً، كتسليمكم لي وصدقوه في قوله، ولا تتهموه في فعله فجميع ما يفعله بأمر من النبي، أو بإذن منا فحيث فهمتهم ذلك، فالتكلم في حقه يورث الوبال والخذلان وسلب الإيمان، وأعلموا ان جميع أفعاله وأحكامه محمولة على الصواب لأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب.»
وعلى ذلك، تُشير روايات التاريخ إلى أنّ الخليفة عبد الله كان يتّسم بحدّة الطبع وسرعة الغضب وشدة الانفعال، الأمر الذي انعكس على أسلوبه في اتخاذ القرارات؛ إذ كان يميل إلى الحسم الفوري والتمسّك برأيه ورفض النصح أو المشورة. كما نُسب إليه كثرة الشكوك وسوء الظن بالآخرين، وقناعته بأن الإخلاص والأمانة من الصفات المستحيلة. وقد اشتهر أيضًا بحبه للثناء والإطراء، حيث كان يميل إلى الإصغاء لمن يقدّم حديثه بإبراز محاسنه ونسبة النجاحات إلى حكمته وعدله وشجاعته وكرمه، وهو ما يبدو انه سلوك تعويضي يعزّز عبره ثقته بنفسه واعتزازه بمكانته. ويُروى أنه كان شديد الإيمان بقدراته إلى درجة اعتقاده بأنه قادر على ما يتجاوز حدود طاقة البشر إنما يعود إلى قوة إلهية مؤيدة له.
وقد واصل ود تورشين على هذا المنوال حتى نهاية الدولة المهدية بعودة الغزو الثنائي الانجليزي المصري، والذي واجهه الخليفة بجيش لم تنقصه الشجاعة والبسالة، لكن رفض الاستماع الي النصح والمشاورة والجو العام الذي كان يسوده الغبن والشعور بالظلم فت من عضد الجيش الذي وصف جنده رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل في كتابه (حرب النهر) وكان حينها يعمل كمراسل حربي في صفوف جيش كتشنر الغازي، بانهم (كانوا اشجع من مشى على الأرض) وانهم (لم يهزموا ولكن دمرتهم سطوة الألة) وهي شهادات كررها عدد من المؤرخين الانجليز الاخرين، مثل جورج وارنيغتون استيفينز الذي وصف في كتابه عن غزو السودان (مع كتشنر الي الخرطوم) المشهد العبثي لجند الخليفة وهم يقفون ببسالة منقطعة النظير حاملين اسلحتهم الصدئة وبنادقهم المهترئة في مواجهة ألة الحرب البريطانية المتطورة، متحصنين بنفحة من القوة الذاتية المسيطرة. ووصف ما حدث في الهجوم على امدرمان -عاصمة دولة المهدية حينئذ- بانه (لم يكن معركة عسكرية بل عملية اعدام، بسبب القوة النارية المتفوقة التي تهجم على فوج من الرماح وقليل من البنادق.)
وورد في توثيق، اخر مجلس شورى عقده الخليفة قبل معركة كرري التي انتهت بسقوط امدرمان، نصائح قادة المهدية لخليفتهم، ومن بينهم الأمير الزاكي عثمان (أحد كبار قادة التعايشة)، والتي لم تكن مجرد خطة تكتيكية عسكرية بقدر ما كانت اختباراً حاسماً لقيادة الخليفة عبد الله وروية الدولة في لحظاتها الأكثر حرجاً. فمع تقدم جيش كتشنر الغازي نحو العاصمة أم درمان، رأى هؤلاء القادة أن منطق الحرب يُحتّم الانكفاء الاستراتيجي غرباً نحو معاقلهم في كردفان ودارفور. وكانت حجتهم، كما دوّنها التاريخ على لسان الزاكي (ام درمان يا مولاى ليست بلادنا حتى نقف فيها وندافع عنها فالاولى بنا ان نأخذ رجالنا وأسلحتنا الى كردفان ، فإذا لحقنا جيش الحكومة اليها وهو لا يفعل ذلك الا بعد استعداد كثير وزمن طويل ، هجرناها الى شكا وهى دارنا فإذا جاءنا اليها قاتلناه ودافعنا عن وطننا حتى انتصرنا او متنا)، وهو ما قابله الخليفة بلطمة مذلة طرده بعدها من مجلسه.
وربما يرى البعض في رفض الخليفة لهذا الرأي تمسكا منه بسيادته على كافة اراضي دولة المهدية ورفضه لتجزئتها ويرجح كفتها اخرون في ميزان المرونة والتضحية بالعاصمة من أجل الحفاظ على جوهر الدولة وقدرتها على القتال، ولكن رد فعل الخليفة عليها في كل الاحوال يعكس ضيقه الشديد بالرأي الاخر وبالشورى التي عقد من اجلها مجلسه.
خاض الخليفة حربه الاخيرة وجبهته الداخلية في اسوأ حالاتها من التشتت والانهيار، حتى اصبح اشهر ما عرف عن ذلك اليوم هتاف الشهيد ابراهيم الخليل (وهو قائد شاب في صفوف جيش المهدية كان عمره حينئذ 26 سنة) مخاطبا الخليفة قبل معركة كررى (الخير فيما اختاره الله ،المهدية مهديتكم، ونحن قدنا بنسدو، الا نصرة مافى). لم يقدم ابراهيم الخليل نصحا، بل قدم روحه فداء الوطن، وعلا هتاف دروايش السودان، جند جيشه الوطني يومذاك وهم يواجهون الموت: سدوا الفرقة! كانت صيحة بسالة يائسة أخيرة تُمثل اختياراً واعياً للموت دفاعاً عن حرية الوطن وليس زعامة الخليفة او مهديته، حتى ولو كان هذا الوطن هو آخر شبر يقفون عليه. في ذلك اليوم، اصطدمت رؤيتان: رؤية التكتيك العسكري وحسابات السياسة للانكفاء من أجل البقاء لقادة المعركة وساستها، ورؤية التضحية الوطنية الكبرى دفاعا، ليس عن زعامة الخليفة، بل عن التحرر الوطني للجند الذين اختاروا ان تكون خنادقهم، مقابرهم في مشهد لا تزال تشهد عليه الطابية الترابية في ضفاف النيل والتي لم تكن مجرد خطوط دفاع، بل مقامات بطولة تحصن فيها جند السودان في بسالة اسطورية وهم يواجهون توحش مدفعية الغازي المتطورة. وكان هذا المشهد يوازي صور الملاحم الإغريقية القديمة، لكنه حدث هنا بالفعل، واصبح محفورا في ذاكرة السودانيين: مقاتلون بصدور عارية أمام أعتى ما أنتجته الثورة الصناعية من سلاح. لم يسقط دراويش امدرمان قتلى، بل ارتقوا رموزا لتلاحم الأرض والجسد والدم، ولم تكن كرري مجرد معركة، بل كانت ملحمة وداع لأول دولة تحرر وطني في افريقيا. وكان مصير المعركة، وربما مصير السودان لاحقاً، هو المحصلة التراجيدية لهذا الملحمة.
من الثورة الي الدولة: جذور دراسات ما بعد الاستعمار في السودان
يأخذ الناقمون على الخليفة، انه بعد وفاة المهدي، ظهرت عليه نعمة السلطة في مظهره ومسلكه، وكان قبل وفاة المهدي يلبس الجبة المرقعة كسائر الدراويش، فلما تولى الخلافة جعل جبته من القطن الأبيض الرفيع بلا رقع، وخاط بحواشيها شرائط ملونة، وكان يلبس السراويل من القطن، ويلف عمامة بيضاء حول طاقية من الحرير صنع مكة. وكان في بادئ الأمر يحتذي نعالًا كنعال سائر الدراويش، ثم أبدلها بخفٍ من جلد يميل إلى السمرة، وإذا قام الي المشي حمل بيساره سيفًا جميلًا، وبيمينه رمحًا صغيرًا جميل الشكل من صنع قبيلة الهدندوة يتوكأ عليه كالعصا، وهو لا يمشي إلا محاطًا بحلقة من صغار العبيد الذين يقومون على خدمته وحمايته وأكثرهم من أبناء الأحباش الذين أُسروا في المعارك. واذا مضى بموكبه الي مكان ما، ينفخ في بوق طويل ذو صوت مزعج يصنع من قرن الخرتيت اسمه الأمبايو، ويدق الطبول، فيعلم الناس أن التعايشي خارج من ديوانه ويصطفون لتحيته. واصبح يفرض على من حوله سلوكيات قاسية تذل الكرامة وتكسر النفوس. فما أن يدخل أحد عليه حتى يقف مطرق الرأس، متقاطع اليدين على صدره، في انتظار الإذن بالجلوس. أما هو فكان يجلس متكئًا على وسادة قطنية فوق مقعد منخفض مفروش بجلود الضأن، محاطًا بهيبة صامتة. وحتى من يُسمح لهم بالجلوس من كبار الضيوف، فإنهم يجلسون على الأرض محدقين بها، لا يتحركون إلا إذا طلب منهم الانصراف، فينصرفون في صمت.
ثم انه عمد الي تقريب أهله من القبائل العربية في دارفور واقصاء الاخرين. ودخل في معارك حتى مع اسرة المهدي واقاربه الذين سموا بالأشراف، بل انهم اعتقل وسجن بعضا منهم. وأدى هذا الاستبداد إلى انتهاكات ومجازر واسعة، وكان افظعها هجوم الأمير محمود ود أحمد (ابن أخ الخليفة) على قبائل الجعليين والشايقية في المتمة مطلع يوليو 1897، حيث شن جيشه المكون من نحو 10,000 مقاتل هجوماً شرساً على المتمة، عاثوا فيه قتلاً ونهباً وسبياً واغتصاباً، فيما أُطلق عليه كتلة (مقتلة) المتمة التي قُتل فيها حوالي 5000 من جملة سكان المتمة الذين كانوا يومها 10000. بدأت أسباب هذه المذبحة بتصاعد التوترات بين الخليفة وقبائل الجعليين في شمال السودان، الذين كانوا في البداية مؤيدين للثورة المهدية لكنهم تعرضوا للقمع المتزايد. فرض الخليفة ضرائب باهظة عليهم، وأجبر بعضهم على الهجرة القسرية من مناطق سكناهم لدعم الحروب، كما أثار غضبهم تفضيله الواضح لقبائل البقارة (قبيلته) في التوزيعات والمناصب، مما أدى إلى شعور بالتهميش والظلم. ثم طلب الخليفة عبدالله من الجعليين اخلاء حاضرتهم المتمة من سكانها لتكون حصنا دفاعيا لجيشه، على ان يغادرها الرجال وتبقى فيها النساء، مخاطبا زعيم الجعلية عبدالله ود سعد (نريد منكم الزاد والمرة "المرأة" السمحة) وهو ما اثار حفيظة الجعليين وابناء عمومتهم.
في يونيو 1897، أعلن الجعليون تمردهم تحت قيادة عبدالله ود سعد في المتمة ، والذي كان شديد التعصب للمهدية وكان له دور كبير في واقعتين استراتيجيتين ساهمتا في انتصار الثورة المهدية الاول علي استعمار الترك في 1885، الواقعة الأولي هي أسقاط حامية بربر والتي كانت ضربة موجعة لمعنويات العاصمة الخرطوم والتي تحصن بها الجنرال غردون بينما كان يحاصرها جيش المهدي. والثانية كانت قيادة التصدى لحملة الجنرال ويلسلي التي كانت متوجهة لفك حصار الخرطوم مما تسبب في تأخير حملة الانقاذ لخمسة ايام سقطت فيها الخرطوم، الي جانب المعارك التي دارت مع الكتائب البرية للجيش البريطاني في نواحي أبي طليح ومنها موقعة (أب رماد) علي نواحي المتمة الغربية التي نجحت فيها قوات علي ود حلو في قتل القائد البريطاني وادت الي انهاء حملة الانقاذ البريطانية واعلان الانتصار النهائي لدولة المهدية حينها. في يونيو 1897 طالب الجعليون بإنهاء الاستبداد ورفضوا الضرائب الباهظة ورفضوا مطالبة الخليفة لهم بالرحيل عن مواقع سكناهم. رد الخليفة بإرسال ابن أخه الأمير محمود ود أحمد مع جيش يبلغ 10,000 مقاتل، معظمهم من قبائل البقارة، لقمع التمرد. حاصر الجيش المدينة لأيام، ثم اقتحمها في مطلع يوليو، مرتكباً مذبحة واسعة: قتل آلاف الجعليين والشايقية بما في ذلك النساء والأطفال، مع عمليات نهب واسعة للممتلكات، وسبي واغتصاب، وتدمير المدينة بالكامل. استمرت المذبحة لأشهر، مما أدى إلى مقتل آلاف آخرين في المناطق المجاورة، ونزوح جماعي، وإضعاف الدولة المهدية داخلياً قبل سقوطها بعام واحد.
تسليح التاريخ وتبسيط الحاضر
هذه وقائع تاريخ لا مجال للمغالطة فيها، ولكن هل يصلح اسقاط هذا الواقع التاريخي على ما يحدث اليوم والقفز على كل التطور السياسي والمعرفي والهيكلي في الممارسة السياسية السودانية وهيكل الدولة وتحليل اللحظة الحالية وكأننا في اواخر القرن التاسع عشر؟ ان اي مقاربات للتحليل تتطلب فصلاً دقيقاً بين السياقات لتجنب التخليط المغرض. ففي خضم المشهد الدامي الذي يعيشه السودان اليوم، تطفو على السطح أسئلة وجودية عن الهوية والشرعية والصراع على السلطة، وهي أسئلة لا يمكن فهمها بمعزل عن مجمل التاريخ السوداني الحديث دون التعامل معه بشكل ميكانيكي. فمحاولة الدعم السريع الانقلابية في 15 ابريل 2023 والتي اشعلت الحرب ليست نتاج معارك الدولة المهدية، بل هي نتاج للسيادة الوطنية المتأكلة وخصخصة ادوات العنف الرسمي ونشوء وتطور مليشيات القتال بالوكالة خلال العقود الاربعة الماضية، بالاضافة الي تطبيع مفهوم الانقلابات العسكرية كاداة لتداول السلطة.
وهنا تبرز الإشكالية الجوهرية في توظيف تجربة الثورة المهدية وحكم الخليفة عبد الله التعايشي لتفسير الواقع الراهن؛ فالنظرة التبسيطية للتاريخ لا تقدم قراءة متوازنة، بل تعيد إنتاج خطاب إثني يُستغل في سياق الصراع الدائر. تستخدم المليشيا وحلفاءها هذا الخطاب لتبرير حربها وجرائمها وتغطية دوافعها الحقيقية، ذات الطابع السلطوي والارتباطات الخارجية، كما توظفه كأداة لتوسيع دائرة التعبئة والتجنيد على أسس عرقية. وفي المقابل، يلجأ بعض خصومها إلى استخدام الخطاب ذاته بشكل ايدولوجي لتغذية العداء ضد المليشيا ولكنه بالتوازي يعمل على تعميق الانقسامات المجتمعية وتمزيق النسيج الاجتماعي عبر خطاب عنصري قصير النظر يرفع راية لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
وبذلك، لا يقتصر هذا الطرح على تعميق الانقسامات فحسب، بل يكرس مغالطات تحليلية تشوّه التعامل العلمي مع التاريخ وتعقّد حل الأزمة الراهنة.
يقع هذا النمط من القراءة المشوّهة للتاريخ ضمن إطار "التسييس الإثني للتاريخ" (Ethnicization of History)، الذي تعامل معه باحثون مثل بنديكت أندرسون في مفهوم "الجماعات المتخيّلة" (Imagined Communities)، وكيفية توظيف السرديات التاريخية لخدمة صراعات الهوية. كما يمكن النظر اليه عبر منظور إريك هوبزباوم وتيرنس رينجر حول "اختراع التقاليد" (The Invention of Tradition)، حيث تُستخدم روايات الماضي انتقائيًا لشرعنة وقائع الحاضر. وفي سياق الحروب الأهلية المعاصرة، فإن هذا التوظيف المغرض للتاريخ يتقاطع ايضاً مع أطروحات باول كولير حول "الحروب الجديدة" (New Wars)، التي تُعدّ الهويات الإثنية فيها أداة للتعبئة لا سببا جوهريا للصراع، وهذا يتوافق مع تحليل أمارتيا سن لخطورة الهويات الأحادية المغلقة ودورها في تغذية التعصب والعنف، مقابل إمكانية بناء السلام والتوافق على أساس الهويات المتعددة والمتشابكة.
إن الفهم المتعقل لهذه المرحلة في تاريخ السودان، بعيداً عن التمجيد الأعمى أو التجريم المطلق، ليس ترفاً فكرياً بل هو ضرورة ملحة لفك شفرة الحاضر وتجنب استنساخ مآسيه وتفادي استغلاله فيما يضر الناس ولا ينفع.
لا يمكن قراءة الثورة المهدية (1881-1885) إلا في سياقها التاريخي، وهي انها كانت ذروة المواجهة مع الاستعمار التركي-المصري (التركية السابقة كما تم الاصطلاح عليها) الذي اذل اهل البلاد، وقوض اقتصادها عبر فرص الضرائب الباهظة التي ساهمت في تخلف السوق، وقوض النظم الاجتماعية، وسعى إلى تفكيك هويتها الثقافية. كان السودان تحت الحكم العثماني-المصري منذ 1821، حيث تم استغلال موارده بشكل قاس، مع حملات لقمع الثقافات المحلية وفرض الضرائب التي أدت إلى مجاعات وتمردات محلية. ساعتئذ اندلعت ثورة الإمام المهدي ليس كمجرد تمرد ديني كما حاول المستعمر تصويرها، بل كانت ثورة تحرر وطني شاملة، اجتمعت فيها الإرادة الشعبية السودانية بمختلف أطيافها ضد محتل أجنبي. استلهم المهدي مفاهيم إسلامية لتوحيد القبائل والفئات الاجتماعية، مستخدماً دعوة الجهاد ليس كعنف عقائدي او تكليف ديني بل كركيزة فكرية لمقاومة سياسية منظمة ضد الاستبداد. استخدم الإمام محمد أحمد المهدي الفكرة المهدوية بما تنطوي عليه من وعود عقائدية بالنصر وأساطير وجودية تمنح معتنقيها معنى يتجاوز حدود الواقع المباشر، كركيزة مركزية في الحشد والتجميع ويعيد تشكيل الواقع عبر سردية مقدسة. وقد شكّل هذا في حينها ممارسة سياسية متقدمة، تتجاوز في فاعليتها وعمقها الخطابات الإثنية الضيقة بل هي اكثر تطورا منها حتى بمقاييس واحكام الحاضر، إذ وفرت إطارًا جامعًا يتجاوز توظيف الاثنية والهويات الذاتية والانتماءات القبلية أو العصبيات المحلية ويوفر مظلة رمزية تساوي -في اصلها الفكري- بين جميع المنتمين إليها، بغض النظر عن خلفياتهم الإثنية أو القبلية. وهذا ما جعلها تتفوق حينها من الناحية السياسية والتنظيمية على الأدوات التقليدية للتعبئة.
في المقابل، يبرز في الحاضر خطاب إثني متشظ، تسعى من خلاله قوى مختلفة إلى استدعاء التاريخ -القديم والحديث- بانتقائية، وتوظيفه في سياق صراع سلطوي تحكمه أجندات ضيقة وارتباطات خارجية. هذا النمط من الخطاب، وإن كان قادراً على تأجيج التعبئة اللحظية، فإنه يفتقر إلى الطاقة التوحيدية التي تميزت بها الثورة المهدية، ويؤدي عمليًا إلى إعادة إنتاج الانقسام والتفكيك بدلاً من بناء مشروع المظلة الجامعة.
لقد مثلت الدعوة المهدية بحسب شروط الواقع الافريقي في القرن التاسع عشر التجسيد الأبرز للإرادة الوطنية الجامعة، حيث حشدت القبائل من دارفور إلى سنار، ومن الشمال إلى الجنوب، في مشروع تحرري مجيد نجح في تحقيق ما عجزت عنه قوى أخرى: تحرير الخرطوم في يناير 1885، بعد حصار دام شهوراً، وسقوط الحكومة المصرية-التركية والتي كانت تناصرها اكبر امبراطوريات الارض يومها الامبراطورية البريطانية، وقتل الجنرال البريطاني تشارلز غوردون وانشاء دولة مستقلة في أوج حقبة التدافع على افريقيا Scramble for Africa، والتي اسس لها موتمر برلين 1884، الذي انعقد قبل عام واحد من تحرير الخرطوم. هذا النصر كان أول انتصار أفريقي كبير ضد الاستعمار الأوروبي في تلك الحقبة، وألهم حركات تحرر لاحقة في أفريقيا مثل ثورة الزولو في جنوب أفريقيا أو مقاومة الإمبراطور مينيليك في إثيوبيا.
هذه وقائع تاريخ فخار وطني ومجد تليد لا يمكن ولا يجوز أن يُختزل أو يُشوّه بافتعال علاقة سببية بينه وبين ما حدث لاحقاً تحت حكم الخليفة عبد الله التعايشي. إن محاولات تجريم الثورة المهدية بأكملها، أو وصمها بالإرهاب أو التخلف، بناءً على ممارسات الدولة اللاحقة، هي ضرب من المغالطة الافتراضية التي تحاكم بدايات النضال بنهاياته. إنها تشبه محاكمة ثورة 1924 ضد البريطانيين بنواقص الدولة الوطنية أو ثورة أكتوبر 1964 او ابريل 1985 او ديسمبر 2018 بعجز ما بعدها عن اكمال بناء الديموقراطية، وهذه كلها لحظات مجيدة في تاريخ السودان لم يكتب ولم يقدر لها تحقيق امالها وتطلعاتها بسبب تقاصر بناء ما بعدها.
فصل الثورة عن الدولة: نحو قراءة متوازنة للماضي
الثورة المهدية كانت لحظة تحرر عظيمة، وهي منجز قائم بذاته، يجب أن يظل مصاناً في الذاكرة الجمعية كاحد عناصر الفخار الوطني وتشكيل الدولة السودانية والاستقلال الذي تهدده حرب اليوم. ساهمت الثورة في تشكيل الهوية السودانية الحديثة، حيث أصبحت رمزاً للوحدة ضد الخارج، وتُستخدم حتى اليوم في الخطابات الوطنية، دون فصلها عن الدروس اللاحقة. حكم الخليفة كان يمثل الانقلاب على المشروع وتأسيس الدولة الأمنية. هذه الدولة كانت خيانة غير مشروعة لشروط الثورة التي سبقتها، ولكنها ليست حتمية. وحتى هنا فانن يجب محاكمتها في سياقها التاريخي وليس باسقاط شروط الحاضر عليها. ويبرز التمييز الجوهري بين ثورة التحرر ودولة ما بعد التحرر كاساس لكل دراسات ما بعد الاستعمار والتي تفرق جيدا بين الثورة وانعكاس الدولة. فبعد وفاة المهدي عام 1885 جراء وباء الطاعون الذي انتشر في أعقاب الثورة، لم يكن الخلاف مع خليفته في شخصه ليتم استدعاء اثنيته في محاكمة وقائع اليوم، بل مع المنهج الذي اتبعه في الحكم، والذي شكل انقلابا على الثورة نفسها. ولا يمكن لسبق الخليفة في الجهاد تحت راية المهدي وفي سبيل أهداف الثورة النبيلة أن يُصبح صكًّا على بياض يبرّر انحرافه اللاحق عن تلك المبادئ، أو يغطي على ما شاب تجربة حكمه من ممارسات أضعفت الرسالة الأصلية للمهدية.
فكما قامت الثورة على فكرة العدل والتحرر من الظلم، مستلهمة مبادئ إسلامية للمساواة والعدالة الاجتماعية، فان نظام الخليفة، تحت وطأة التهديدات الخارجية والداخلية وغياب الحكم الراشد، تحول تدريجياً إلى دولة أمنية بوليسية، قائمة على المحسوبية القبلية الضيقة، وقمعت بوحشية أي معارضة، حتى وإن كانت من رموز المهدية أنفسهم مثل خليفتي المهدي الآخرين، علي ود حلو و محمد الشريف، الذين تم قمعهم أو إعدام بعض أتباعهم.
الخليفة عبدالله، كحاكم، ارتكب أخطاءً فادحة في الحكم، كان يمكن له تفاديها بالاستناد الي روح وقيم الثورة المهدية التي كانت لا تزال شابة حينئذ، الا انه عمد فيها الي نفس عناصر فساد الحكم التي ادت الي اندلاع الثورة، البطش العسكري الداخلي الذي ادى الي مذابح في الجنوب والغرب، إهمال الزراعة مما أدى إلى مجاعة سنة ستة في اعوام 1889-1890 الموافق 1306 هجرياً والتي قتلت مئات الآلاف، وتفشي الأمراض مثل الكوليرا، وفرض الضرائب الباهظة والعزلة الدولية التي جعلت البلاد فريسة سهلة للغزو الإنجليزي-المصري عام 1898 في معركة كرري، حيث قتل عشرات الآلاف من السودانيين. كما فرض سياسات اقتصادية قاسية، مثل مصادرة الأراضي وفرض الضرائب الثقيلة لتمويل الحروب، مما أضعف الدولة داخلياً وأثار تمردات قبلية ضده.
هذه الأخطاء هي محض خيارات سياسية وإدارية وممارسات خاطئة، وليست استمراراً حتمياً لفكرة الثورة. بالأصح فهي خيانة لروحها، حيث تحولت الدولة من مشروع تحرري إلى نظام استبدادي يعتمد على القمع للبقاء. وهنا مرة اخرى، يجب محاكمة الخليفة تاريخياً بمعايير عصره: ما هو السياق الذي كان يعمل فيه، مع إمبراطوريات استعمارية تهدد الجميع؟ ما هي التحديات الداخلية بعد ثورة أدت إلى فوضى اقتصادية؟ ما هي البدائل المتاحة في عالم القرن التاسع عشر حيث كانت الديكتاتوريات شائعة في أفريقيا وآسيا؟ كيف حكم معاصروه في إفريقيا والعالم، مثل الإمبراطور تيودوروس في إثيوبيا أو السلطان عبد الحميد في الدولة العثمانية؟ هذه محاكمة موضوعية تختلف كلية عن التجريم المطلق المعاصر الذي يسقط مفاهيم القرن الحادي والعشرين على واقع القرن التاسع عشر، أو الذي يخلط بين فعل التحرير وفعل الحكم، مما يشوه الإرث الثوري، وكذلك بالمقابل فان هذه الموضوعية لا تصلح لتبرير جرائم مطلقة مثل عنفه تجاه شعبه او تكراره للسياسات التي ادت لاندلاع الثورة التي صنعت دولته في المقام الاول.
وهنا ندلف إلى لب الأزمة الفكرية التي تغذي الأزمة السياسية في السودان اليوم. هناك خطاب متداول، إما لتبييض صفحة التاريخ كلياً أو لتجريمه كلياً، وكلاهما ضرب من التخليط المعرفي المغرض. هذا التخليط هو الذي يقود الأمة إلى تكرار مآسيها بدلاً من أن تتعلم منها. في تاريخ السودان الحديث، نرى هذا التكرار بوضوح: بعد الاستقلال في 1956، شهدت البلاد انقلابات متكررة، مثل انقلاب عبود في 1958 الذي شكل او خرق لمبادئ البناء الديموقراطي للدولة ثم جعفر النميري في 1969، الذي بدأ كثورة اشتراكية لكنه انقلب إلى ديكتاتورية إسلاموية قمعية وكذلك، تحت عمر البشير (1989-2019)، الذي جاء بانقلاب من الإخوان المسلمين ثم مضى لتأسيس حكم فساد واستبداد عضود ، انطفأت نيران الحرب الاهلية في جنوب السودان، لتشتعل اخرى في دارفور، وكما تمثل لجنة تفكيك التمكين بعد ثورة ديسمبر 2018 نفس المنوال من عدم التعلم من الاخطاء بمحاولة استبدال تمكين فئة سياسية بتمكين مضا.
المصالحة مع ذاكرة الوطن
وبينما يقارن البعض بطش الجنجويد اليوم بحكم التعايشي الا ان هولاء الناقمين يغفلون عدة عوامل منهجية تفسد هذه المقاربة:
1. استدعاء التاريخ كسلاح إيديولوجي لا كمرجعية للتعلم: يتم لدراسات شخصيات مثل الخليفة التعايشي ليس لفهم سياقات الحكم وأخطائه، بل لتسقيط الخصم السياسي الحالي. إنه نفس المنطق الأمني الاستبعادي الذي يحول السياسة إلى حرب وجودية.
2. الخلط بين الشرعية الثورية وشرعية الحكم: كثير من الفصائل اليوم تتصور أن شرعيتها المستمدة من نضال سابق (أو ادعائه) تمنحها الحق في احتكار السلطة وإقصاء الآخرين إلى الأبد، متناسية أن شرعية الحكم تستمد من الإدارة الرشيدة، والعدل، والخدمات وتلبية حاجات الناس، وليس من مجرد انتماء إلى تاريخ ثوري”معين. هذه هي نفس ورطة الخليفة الذي اعتقد أن شرعية المهدي في الثورة تورث بشكل آلي، فغفل عن بناء شرعية حكم جديدة قائمة على الرضا الشعبي والإنجاز.
3. تطبيع التعامل مع السياسة الاثنية والتحالفات القبلية والجهوية الضيقة: كما اعتمد الخليفة على تحالفات قبلية ضيقة، نرى اليوم في السودان تحالفات قائمة على الولاءات الأولية (قبلية، جهوية، طائفية) أكثر من كونها قائمة على مشروع سياسي او توجه وطني جامع. هذا يكرس الانقسام ويجعل الصراع على السلطة صراعاً وجودياً لا سياسياً يمكن تسويته.
4. ترسيخ ثقافة الإقصاء والبطش: النموذج الذي رسخه الخليفة في التعامل مع المعارضة – وهو القمع والبطش – لا يزال يسكن العقل السياسي السوداني. فبدلاً من اعتبار الاختلاف جزءاً طبيعياً من العملية السياسية، يتم التعامل معه كاداة للوصم والاقصاء، مما يدفع الخلاف من دائرة التنافس السياسي إلى دائرة الصراع العسكري الذي لا غالب فيه ولا مغلوب، فقط دمار شامل.
لكسر هذه الحلقة المفرغة، لا بد من عملية فصل جذرية بين المكونات الثلاثة التي يتم الخلط بينها عمداً أو جهلاً:
· فصل ثورة التحرر بكل ما فيها رمزية عالية عن تجربة الحكم والإدارة: الافتخار بفعل التحرير الوطني والاجتماعي لا تعني تبرئة كل ما جاء بعده. يمكن أن نفتخر بالمهدية كأعظم حركة تحرر شهدتها افريقيا في القرن التاسع عشر دون أن نغض الطرف عن أخطاء دولة الخليفة. هذا الفصل يحرر الرموز التاريخية من أن تكون رهينة لتوظيفات الحاضر، ويسمح باستخدام الإرث المهدي لبناء وحدة وطنية حقيقية، كما في الثورة السلمية 2018-2019 التي أطاحت بالبشير لكن فشلت في التطور نحو استقرار الدولة بسبب التنازع على الدولة كغنيمة.
· فصل النقد التاريخي عن التجريم المعاصر: محاكمة الخليفة التعايشي تاريخياً بحسب شروط عصره وواقعه– بمعنى تحليل سياقه، خياراته، أخطائه، ومسؤولياته – هي مهمة التناول الموضوعي للتاريخ. أما مشاتمة تجربته أو تقديمه كشيطان مطلق، فهذا لا يخدم شيئا سوى ان يغرق الحاضر في صراعات لا يمكن حسمها بعد ان مضى عليها مئتي عام. النقد التاريخي هدفه الفهم والاعتبار، وليس الإهانة أو الاستبعاد.
فصل الهوية عن السلطة: أكبر خطأ وقعت فيه النخب السودانية المتعاقبة هو ربط هوية السودان بهوية الحاكم أو نظامه. فشل دولة الخليفة لا يعني فشل فكرة السودان، كما أن فشل نظام البشير أو غيره لا يعني ذلك. الهوية الوطنية أوسع وأعمق من أي نظام حكم، وهي الإطار الذي يجب أن يحتوي الجميع. في سياق الحرب، يعني هذا رفض تقسيم السودان إلى حكومات موازية، ودعوة لمصالحة تشمل الجميع.
الحرب في السودان اليوم هي حرب على السلطة والموارد، تتصارع فيها جهات داخلية وخارجية لسلب الشعب السوداني من حقوقه الاصيلة والطبيعية في ارضه، لكنها تتغذى على وعي تاريخي مشوه، مليء بالجروح القديمة التي لم تندمل، والروايات المتناحرة التي لم تتصالح. الخروج منها يتطلب، إلى جانب وقف إطلاق النار والمفاوضات السياسية، مصالحة مع التاريخ اولا. مصالحة تعترف بامجاد الثورة وفشل الدولة معاً، وتفرق بين قداسة النضال وادارة الحكم غير الرشيدة، والتي تفهم أن نقد الأمس ليس انسلاخاً عنه، بل هو محاولة لأخذ العبرة لبناء غدٍ لا نكرر فيه أخطاء الأمس. فقط بفك هذا التشابك السام بين الماضي والحاضر، يمكن للسودان أن يبدأ في فك تشفير جراحه وعلاجها بدلا تم استمرار التخليط الذي سيؤدي إلى مزيد من الدمار.
|