Subject: Re: [AbdinList] مقال مهم للخبير الاقتصادى سعيد أبو كمبال: القمح.. واستبدال الأدنى بالذي هو خيرٌالقمح.. واستبدال الأدنى بالذي هو خيرٌ
بقلم: سعيد أبو كمبال
جاء فى الصحف السودانية التى صدرت خلال الاسبوع الثانى من شهر فبراير 2016 أن وزارة المالية والتخطيط الاقتصادى قد قررت شراء القمح المنتج محلياً أى فى السودان (الشمالية ونهر النيل والجزيرة) بسعر أربعمائة جنيهاً، للجوال سعة (100) كيلوجرام خالي من الشوائب تسليم مخازن البنك الزراعى.
وأن القصد من ذلك الاجراء هو تشجيع المزارعين للاستثمار فى انتاج القمح وبناء مخزون كافى من الحبوب واحتياطى للمطاحن بهدف تقليل الاستيراد وتوطين انتاج القمح محلياً. وسوف يمول شراء القمح المنتج محلياً من ايرادات الحكومة المركزية حيث أعتمد له مبلغ مليار ونصف المليار جنيهاً فى موازنة العام 2016. وربما يمول أيضاً من بنك السودان المركزى عن طريق طباعة المزيد من العملة.
وربما يتساءل القارئ الكريم:
ولكن لماذا تدعم الحكومة سعر القمح المنتج محلياً؟
والاجابة المباشرة هى:
ان القمح المنتج محلياً لا يستطيع أن ينافس من ناحية السعر القمح المستورد.
يقول المستثمر الكبير فى القطاع الزراعى السيد/ وجدي ميرغنى فى جريدة إيلاف الإسبوعية - عدد الاربعاء 15 فبراير 2016 :
(تدفع الحكومة فى جوال القمح مبلغ (400) جنيهاً فى حين ان تكلفة استيراده بما فى ذلك ترحيله من أقاصى الدنيا وتفريغه ببورتسودان ثم ترحيله منها إلى باقى اجزاء السودان لا يكلف الجوال الواحد (200 جنيهاً) .
ولكن لماذا تدفع الحكومة أكثر من ضعف سعر الجوال المستورد؟
وهل الأسباب التى اشرت اليها فى صدر المقال منطقية ومقبولة اقتصاديا وسياسيا وأخلاقيا ؟
الإستعانة ببعض المراجع
لكتابة هذا المقال الذى يتمحور حول اقتصاديات انتاج القمح فى السودان (التكاليف والمكاسب والمخاطر)، استعنت بكتاب الوكيل الأسبق لوزارة الزراعة والغابات: الدكتور عبداللطيف أحمد محمد عجيمى (2009)، الذى عنوانه: (انتاج وتصنيع القمح فى السودان : رؤية استراتيجية لتعزيز الأمن القومى) .
وهو كتاب غني بالمعلومات والإطلاع عليه ضرورى جداً لكل السياسيين وأعضاء المجالس التشريعية فى السودان.
كما استعنت بإصدارة المجلس الزراعى السودانى (2015) بعنوان:
(القمح السودانى الانتاج والتصنيع والاستهلاك) .
وبالدراسة التى قامت بأعدادها وزارة الزراعة والرى فى ديسمبر 2012 وعنوانها: (التحليل المالى للعائد وتكلفة الانتاج لمحصول القمح مقارنة بالمحاصيل الأخرى) .
كما استعنت بدراسة ميدانية عن اقتصاديات انتاج القمح فى مشروع الزيداب بشمال السودان. وقد قام باعداد الدراسة ثلاثة من الاكاديميين الماليزيين (الجيلانى أحمد، وجمال الدين سليمان، وسيدة محمد) .
والدراسة منشورة بالمجلة الامريكية للعلوم الزراعية والبايولوجية العدد 6 (3) -2011 بعنوان : (انتاج القمح والاقتصاد) .
أين يزرع القمح ؟
يقول الدكتور عجيمى :يعتبر القمح من اهم محاصيل الغلال فى العالم، وتجود زراعته فى الاماكن ذات الحرارة المعتدلة (5 الى 17 درجة مئوية) ثم المناطق الباردة (5 الى 10 درجة مئوية) ، غير انه يزرع أيضا في مساحة محدودة فى المناطق الحارة (10 الى 25 درجة مئوية) .
وتقول دراسة المجلس الزراعى السودانى المذكورة أعلاه:
ان القمح يعتبر من محاصيل المناطق معتدلة المناخ التى تنحصر بين خطى عرض (25) درجة الى (40) درجة شمال وجنوب خط الاستواء. ويقع السودان خارج منطقة زراعة القمح إلا المنطقة الشمالية من السودان التى تقع بين خطى عرض 17 درجة و 22 درجة شمالاً.
القيمة الغذائية لكل من القمح والذرة
يورد الدكتور عجيمى فى كتابه مقارنة بين القمح والذرة من حيث القيمة الغذائية على اساس ما يحتويه كل منهما من بروتين ودهون ونشويات وسعرات حرارية فى كل (100) جرام.
ويلاحظ القارى الكريم ان القمح يمتاز بفارق ضئيل جداً على الذرة فى ما يحتويه كل منهما من بروتين ولكن يمتاز الذرة على القمح ويتفوق عليه فى مكونات الدهون والنشويات والسعرات الحرارية. كما ان للذرة مميزات اخرى ذكرها الدكتور عجيمى فى كتابه وهى :
1. البروتين والنشا الموجودين فى الذرة يتسمان بخاصية بطء الهضم مقارنة مع الغلال الاخرى كالقمح، وهذه الخاصية مفيدة لمرضى السكرى.
2. معظم أصناف الذرة غنية بمادة التانين ، (tannins) التى يحتوى تركيبها على مضادات الأكسدة ذات الاهمية فى حماية خلايا الجسم من الشقائق الحرة، المسؤول الرئيسى عن معظم الامراض، وعن الشيخوخة.
3. بعض أصناف الذرة مضادة للسرطان.
ويتضح مما ذكرته أعلاه، أن الذرة تتفوق على القمح فى قيمتها الغذائية وخواصها الاخرى الإضافية، وخاصة منح المناعة من الامراض، و تأخير الشيخوخة، ومحاربة السرطان.
القمح أقل جدوى مالية من المحاصيل الأخرىإشتملت كل من دراسة الاكاديميين الماليزيين عن مشروع الزيداب الزراعى، ودراسة وزارة الزراعة والرى المشار اليها اعلاه، على مقارنة بين القمح ومحاصيل أخرى من حيث العائد الصافى أو الربح فى حالة زراعة الفدان الواحد: قمح او فول مصرى أو حمص أو لوبيا أو بصل أو ذرة أو ذرة شامية أو بطاطس أو شمار أو ثوم أو حلبة أو زهرة شمس أو أعلاف.
وقد ذكرت أعلاه أن دراسة الاكاديميين الماليزيين كانت حول اقتصاديات انتاج القمح فى مشروع الزيداب بالولاية الشمالية للموسم الزراعى 2005/2006.
وطبقا لتلك الدراسة فقد كان صافى ربح الفدان عند زراعته قمحاً (4294) جنيهاً، ويرتفع ربح الفدان الى (6831) جنيهاً فى حالة زراعة الذرة الشامية، والى (8794) جنيهاً فى حالة الفول المصرى، وإلى (32200) جنيهاً بالنسبة للذرة الرفيعة، وإلى (65538) جنيهاً للبصل، وإلى (87749) جنيهاً للحمص، ويصل ربح الفدان إلى (97950) جنيهاً فى حالة زراعة الفاصوليا.
وأرجو هنا ان الفت انتباه القارئ الكريم الى حقيقة اضافة وحذف الاصفار من الجنيهاً السودانى لتفادى الالتباس. ولكن بما أن الارباح الموضحة اعلاه كلها بالجنيهاً السودانى، ولذات الفترة، فأنها توضح بجلاء كامل ان انتاج القمح هو اقل الانشطة الزراعية عائدا صافيا (ربح) للمزراع.
وقد خلصت الدراسة التى قامت بها وزارة الزراعة والرى الاتحادية فى ديسمبر 2012 الى ذات النتيجة.
وغطت تلك الدراسة الولاية الشمالية و ولاية نهر النيل وولاية النيل الأبيض ومشروع الجزيرة ومشروع السوكى ومشروع حلفا.
وخلصت وزارة الزراعة والرى الى النتيجة التالية :
من نتائج جدول التحليل المالى وبمقارنة القمح بالمحاصيل الشتوية الاخرى بكل ولاية يتضح الاتى :
اولا : الولاية الشمالية
حقق محصول الفول المصرى أعلى ربحية (9283) جنيهاً للفدان يليه محصول الشمار (9045) جنيهاً للفدان و الحلبة (6793) جنيهاً للفدان والبطاطس (6104) جنيهاً للفدان والثوم (5579) جنيهاً للفدان وأخيراً القمح (858) جنيهاً للفدان.
ثانيا : ولاية نهر النيل
حقق محصول البطاطس أعلى ربحية (32650) جنيهاً للفدان يليه محصول الفول المصرى (7457) ثم البصل (7374) جنيهاً للفدان والفاصوليا(2108) جنيهاً للفدان ثم الحمص (1136) جنيهاً للفدان بينما حقق القمح أقل ربحية للفدان (896) جنيهاً.
ثالثا : ولاية النيل الأبيض
حقق الطماطم أعلى ربحية (46971) جنيهاً للفدان والأعلاف (18935) جنيهاً للفدان وزهرة الشمس (1279) جنيهاً للفدان والبصل (565) جنيهاً للفدان و اخيرا محصول القمح (197) جنيهاً للفدان.
رابعا : مشروع الجزيرة
البصل حقق أعلى ربحية (9800) جنيهاً للفدان والعدسي (3550) جنيهاً للفدان والحمص (3250) جنيهاً للفدان وزهرة الشمس (2650) جنيهاً للفدان وأخيرا القمح (305) جنيهاً للفدان.
خامسا : مشروع السوكى
حقق مشروع السوكى ربحية قدرها (16) جنيهاً للفدان من محصول زهرة الشمس، بينما خسر القمح مبلغ 222 جنيهاً للفدان.
سادسا : مشروع حلفا
حقق مزارع زهرة الشمس أعلى ربحية (1278) جنيهاً للفدان والقمح ربح (223) جنيهاً للفدان.
إستبدال الأدنى بالذي هو خيرٌتقول الدراسات العلمية ان القمح أقل منفعة من الناحية الغذائية مقارنة بالذرة، وتدل الدراسات حول اقتصاديات انتاجه (التكاليف، الإيرادات، والمخاطر) أن القمح أقل المحاصيل ربحا للمزارع.
فلماذا نستبدل القمح بالذرة الذى يتفوق عليه من ناحية الفوائد الغذائية والعائد المالى ؟
قبل العام 1974 كانت اغلبية السودانيين تعيش على الذرة والدخن، وينتج القمح على نطاق ضيق فى شمال السودان للاستهلاك الأُسري، ولكن قامت الادراة الامريكية بحيلة ذكية لتغيير ذوق السودانيين عن طريق بيع القمح للسودان بقروض ميسرة جدا توقفت فى العام 1991م.
ولكن واصلت حكومة الانقاذ سياسة تغيير الاذواق عن طريق دعم سعر القمح المستورد، ثم جاءت فى اطار ما يسمى ببرنامج النهضة الزراعية (2011-2008)، بدعم سعر القمح المنتج محليا عن طريق شراء القمح من المزارعين بسعر أعلى من السعر الذى سيكون بوسعهم أن يبيعوا به فى حالة عدم وجود الدعم، خصوصاً فى حالة دعم سعر شراء القمح المستورد.
وقد يتفهم الشخص العادى قيام حكومة أجنبية بتغيير أذواق المستهلكين فى بلد آخر لايجاد سوق لمنتجات المزارعين فى البلد الأجنبى، ولكن من الصعب تفهم قيام حكومة وطنية بدعم استهلاك محصول مستورد وتغيير اذواق الناس للتحول من استهلاك محاصيل يتمتع فيها البلد المستورد بميزات انتاجية تفضيلية كبيرة (مثلا الذرة والدخن فى السودان).
ومن الصعب ايضا تفهم اصرار الحكومة السودانية على تشجيع المزارعين فى الشمالية والجزيرة على استبدال القمح بالمحاصيل الشتوية الاخرى التى تدر عليهم عوائد مالية كبيرة وأكبر بكثير من عائد انتاج القمح.
و يقول الدكتور عبد اللطيف احمد محمد عجمى الوكيل الأسبق لوزارة الزراعة والغابات فى كتابه المشار اليه أعلاه:
(ان الجهود الكبيرة التى بذلت من جانب الدولة فى اطار المشروع القومى للاكتفاء الذاتى من القمح لم تحقق الهدف المنشود، بل ولن تحقق الهدف المنشود فى المستقبل المنظور، لعدة أسباب جوهرية ، لعل من أهمها انه لا يمكن التوسع فى انتاج القمح فى مشروع لا يمتلك آليات تنفيذ الأهداف. فالمزارع له مطلق الحرية فى زراعة المحاصيل التى يود زراعتها. ولا يوجد عقد بينه وبين الدولة التى تكفلت بالتأهيل والبنيات التحتية ودعم المحصول، يلزمه بزراعة القمح.
ولهذا فأن المزراع يستفيد من كل هذا الدعم والذى لا يجده مزارع آخر ويحوله الى خياراته ومصلحته وهو فى ذلك منسجم مع أهدافهRational) ).
ويمضى الدكتور عجمى ويقول :
(لقد لاحظ المؤلف من خلال زيارات المتابعة الحقلية ان القمح لا يكاد يحظى باهتمام يذكر حيث أن جل وقت المزارع يوجه للمحاصيل عالية القيمة والتى توفر للمزارع معظم ما يحتاجه من دخل لمقابلة تكاليف الحياة. بينما يعطى محصول القمح فضل الارض وفضل الماء وفضل الجهد وفضل الزمن وفضل المدخلات وغير ذلك.)
والدكتور عجيمى من ابناء قرية جاد الله غرب مدينة بربر بولاية نهر النيل، وهو ليس من قرية الفرشاية بجنوب كردفان، ولكنه يكتب بحس العالم والمسؤول الحكومى المتجرد والأمين.
فهم فطير وقاصر
إن الحجج التى دفعت بها وزارة المالية والتخطيط الاقتصادى لتبرير شراء القمح المنتج محلياً بسعر (400) جنيهاً للجوال سعة (100) كيلوجرام، وهو سعر اكثر من ضعف سعر جوال القمح المستورد حجج باطلة :
أولاً: لا توجد مصلحة للمزارع فى شمال السودان او الجزيرة لاستبدال انتاج القمح بانتاج المحاصيل الشتوية الاخرى التى تدر عليه عوائد أكبر
ثانياً: ان الامن الغذائي السودانى يتحقق عن طريق الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية والمالية بانتاج المحاصيل التى للسودان افضلية نسبية فى انتاجها، واستيراد المحاصيل الاخرى التى نستهلكها، وتنويع المصادر التى نستورد منها، وتحزين كميات كافية.
ولا يعنى الأمن الغذائى ان ينتج الانسان كل ما يستهلك، فذلك فهم قاصرٌ وفطير.
ثالثاً: سوف يؤدى شراء القمح بالسعر المشار اليه اعلاه الى قتل اية حوافز تدفع المزارعين الى تخفيض تكاليف الانتاج، كما يشجع تهريب القمح من الدول المجاورة وبيعه للحكومة، ويستفيد بذلك المهربون، وليس المزارع السودانى.
رابعاً: يجب أن يحول دعم الاسعار الى الاستثمار الذى يؤدى الى زيادة الانتاج وزيادة إنتاجية الفدان وتخفيض تكاليف إنتاج كل المحاصيل السودانية، وليس القمح وحده، والى تحسين جودة كل المحاصيل السودانية، وذلك بالاستثمار فى البحث العلمى، وتشييد الطرق، ومواعين تخزين الماء، وتخزين المحاصيل الخ.
خامساً: اهتمام الحكومة المركزية الزائد بانتاج القمح يرسل رسائل مضللة إلى المستهلكين بأن القمح أفضل من الناحية الغذائية من الذرة والدخن، كما يرسل رسائل سياسية سلبية جدا إلى الذين ينتجون المحاصيل الأخرى.
ولهذا أعتقد ان السياسات التى يدار بها الإقتصاد السودانى اليوم تحتاج لمراجعة شاملة، حتى تستقيم وتقوم على المنطق الاقتصادى السليم، وعلى الرشد وعلى العدل، حتى لا تهدر الموارد فى أمور لا طائل فيها،
الرشد و العدل
ويدفع الناس دفعاً الى حمل السلاح، من أجل العدل ونيل الحقوق.
--
-- Date: Thu, 10 Mar 2016 07:34:19 -0800