فقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الحلال
بين وإن الحرام بين ) يعني أن الحلال
والحرام الصريح الواضح قد بُيِّن أمره
للناس بحيث لا يحتاجون معه إلى مزيد
إيضاح وبيان , وليس لهم عذر في مخالفة
الأمر والنهي بدعوى نقص البيان وعدم
الوضوح , فإن الله عز وجل قد أنزل على
نبيه الكتاب , وبين فيه للأمة ما تحتاج
إليه من أحكام , قال تعالى : { ونزَّلنا
عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } (النحل 89)
وقال تعالى في آخر آية من سورة النساء
بعد أن ذكر فيها كثيرا من الأحكام
الشرعية : { يبين الله لكم أن تضلوا والله
بكل شيء عليم }( النساء 176) . وقال عز وجل : {
ومالكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله
عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم } (
الأنعام119) . وهذا هو مقتضى عدل الله
ورحمته بعباده فلا يمكن أن يعذب قوما قبل
البيان لهم وقيام الحجة عليهم , ولذلك
قال سبحانه : {وما كان الله ليضل قوما بعد
إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } (
التوبة 115) .
وما لم يرد بيانه مفصلاً في كتاب الله
تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد
بينه في سنته تحقيقا لقوله تعالى : {
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل
إليهم } ( النحل 44) .
ولكن هناك أمور تشتبه على كثير من الناس ,
فلا يعرفون حكمها هل هي من الحلال أم من
الحرام ؟ , وأما الراسخون في العلم فلا
تشتبه عليهم , ويعلمون من أي القسمين هي ,
وهذه هي الأمور المشتبهات التي قال عنها
صلى الله عليه وسلم ( وبينهما أمور
مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ) .
ثم قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم الناس
بالنسبة إلى هذه الأمور المشتبهة إلى
قسمين : القسم الأول : من يتقي هذه
الشبهات ويتركها , طلبا لمرضاة الله عز
وجل , وتحرزا من الوقوع في الإثم , فهذا
الذي استبرأ لدينه وعرضه , أي طلب
البراءة لهما , فحصل له البراءة لدينه من
الذم الشرعي , وصان عرضه عن كلام الناس
فيه , وفيه دليل على أن من ارتكب الشبهات ,
فقد عرض نفسه للقدح والطعن , كما قال بعض
السلف : "من عرَّض نفسه للتُّهم فلا
يلومنَّ من أساء الظن به " .
والقسم الثاني : من وقع في هذه الشبهات مع
علمه بأن هذا الأمر فيه شبهة , فقد أخبر
النبي صلى الله عليه وسلم أن من فعل ذلك
فقد وقع في الحرام , بمعنى أن الإنسان إذا
تهاون وتسامح في الوقوع في الشبهات ,
وأكثر منها , فإن ذلك يوشك أن يوقعه في
الحرام ولا بد , وهو لا يأمن أن يكون ما
أقدم عليه حراماًَ في نفس الأمر , فربما
وقع في الحرام وهو لا يدري .
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا
لمن يقع في الشبهات , وهو أن كل ملك من
ملوك الدنيا له حمى يُضرب حول ملكه ,
ويُمنع الناس من دخوله أو انتهاكه , ومن
دخله فقد عرض نفسه للعقوبة , فمن رعى
أغنامه بالقرب من هذا الحمى فإنه لا يأمن
أن تأكل ماشيته منه , فيكون بذلك قد تعدى
على حمى الملك , ومن احتاط فابتعد ولم
يقارب ذلك الحمى فقد طلب السلامة لنفسه ,
وهذا مثل حدود الله ومحارمه , فإنها
الحمى الذي نهى الله عباده عن الاقتراب
منه أو تعديه , فقال سبحانه : { تلك حدود
الله فلا تقربوها } (البقرة 187) , وقال : {
تلك حدود الله فلا تعتدوها } ( البقرة 229 ) ,
فالله عز وجل قد حدَّ للعباد حدودا بين
فيها ما أَحَلَّ لهم وما حَرَّم عليهم ,
ونهاهم عن الاقترب من الحرام أو تعدي
الحلال , وجعل الواقع في الشبهات كالراعي
حول الحمى أو قريبا منه يوشك أن يدخله
ويرتع فيه , فمن تعدى الحلال ووقع في
الشبهات , فإنه قد قارب الحرام وأوشك أن
يقع فيه .
ثم ختم النبي صلى الله عليه وسلم الحديث
بذكر السبب الذي يدفع العبد إلى اتقاء
الشبهات والمحرمات أو الوقوع فيهما , ألا
وهو صلاح القلب أو فساده , فإذا صلح قلب
العبد صلحت الجوارح والأعمال تبعا لذلك ,
وإذا فسد القلب فسدت الجوارح والأعمال ,
فالقلب أمير البدن , وملك الجوارح ,
وبصلاح الأمير أو فساده تصلح الرعية أو
تفسد , فإذا كان القلب سليما حرص العبد
على اجتناب المحرمات وتوقي الشبهات ,
وأما إذا كان القلب فاسدا قد استولى عليه
اتباع الهوى والشهوات , فإن الجوارح سوف
تنبعث إلى المعاصي والمشتبهات تبعا له ,
فالقلب السليم هو عنوان الفوز عند الله
عز وجل قال تعالى : {يوم لا ينفع مال ولا
بنون . إلا من أتى الله بقلب سليم }
(الشعراء 88-89) .
ففي هذا الحديث العظيم حث للمسلم على أن
يفعل الحلال ، ويجتنب الحرام ، وأن يجعل
بينه وبين الحرام حاجزا وهو اتقاء
الشبهات ، وأن يحتاط المرء لدينه وعرضه ،
فلا يقدم على الأمور التي توجب سوء الظن
به , وفيه أيضا تأصيل لقاعدة هامة من
قواعد الشريعة , وهي قاعدة سد الذرائع
إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها ,
وفيه كذلك تعظيم أمر القلب , فبصلاحه
تصلح أعمال الجوارح وبفساده تفسد , نسأل
الله أن يصلح قلوبنا وأن يثبتها على دينه
.