قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
(27) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
قل -أيها النبي متوجها إلى ربك بالدعاء-: يا مَن لك الملك كلُّه, أنت الذي تمنح الملك والمال والتمكين في الأرض مَن تشاء مِن خلقك, وتسلب الملك ممن تشاء, وتهب العزة في الدنيا والآخرة مَن تشاء, وتجعل الذلَّة على من تشاء, بيدك الخير, إنك -وحدك- على كل شيء قدير. وفي الآية إثبات لصفة اليد لله تعالى على ما يليق به سبحانه.
ومن دلائل قدرتك أنك تُدخل الليل في النهار, وتُدخل النهار في الليل, فيطول هذا ويقصر ذاك, وتُخرج الحي من الميت الذي لا حياة فيه, كإخراج الزرع من الحب, والمؤمن من الكافر, وتُخرج الميت من الحي كإخراج البيض من الدجاج, وترزق من تشاء مَن خلقك بغير حساب.
ينهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء بالمحبة والنصرة من دون المؤمنين, ومَن يتولهم فقد برِئ من الله, والله برِيء منه, إلا أن تكونوا ضعافًا خائفين فقد رخَّص الله لكم في مهادنتهم اتقاء لشرهم, حتى تقوى شوكتكم, ويحذركم الله نفسه, فاتقوه وخافوه. وإلى الله وحده رجوع الخلائق للحساب والجزاء.
قال ابن عباس وأنس بن مالك: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أمته ملك فـارس والروم، قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعزّ وأمنع من ذلك، ألم يكفِ محمدًا مكـة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟! فأنـزل الله تعالى هذه الآية.
أخبرني محمد بن عبد العزيز المروزي في كتابه، أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي، أخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا روح بن عبادة حدثنا سعيد عن قتادة قـال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فـارس والروم في أمتـه، فأنـزل الله تعالى: قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ الآية.
حدثنا الأستاذ أبو إسحاق الثعالبي، أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري قال: قال حماد بن الحسن: حدثنا محمد بن خالد بن عثمة، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، حدثني أبي عن أبيه قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخندق يوم الأحزاب، ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعًا، قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحُذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعًا، فحفرنا حتى إذا كنا تحت ذي ناب، أخرج الله من بطن
الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، وإما أن يأمرنا فيها بأمره، فإنا لا نحب أن نجاوز خطه.
قال: فرقي سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقّت علينا حتى ما يحيك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمر، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، قال: فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، يعني المدينة، حتى كأن مصباحًا في جوف
بيت
مظلم.
وكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبَّر المسلمون، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابيتها حتى كأن مصباحًا في جوف بيت مظلم، وكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبَّر المسلمون، ثم ضـربها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبـرق منها بـرق أضاء ما بين لابيتهـا، حتى كأن مصباحًا في جوف بيت مظلم، وكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير
فتح وكبَّر المسلمون، وأخذ يد سلمان ورقي،
فقـال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئًا ما رأيت مثله قط، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: "رأيتم ما يقول سلمان؟"، قالوا: نعم يـا رسول الله، قـال: "ضربتُ ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب.
وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب. وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا"، فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر، فقال المنافقون: ألا
تعجبون يمنِّيكم ويعدكم
الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفَرَق، ولا تستطيعون أن تبرزوا؟ قال: فنـزل القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا
اللَّهُ
وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا [الأحزاب: 12]. وأنـزل الله تعالى في هذه القصة قوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ الآية .
أسباب النـزولقوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ 28 .
قال ابن عباس: كان الحجاج بن عمرو وكهمس بن أبي الحقيق وقيس بن زيد - وهؤلاء كانوا من اليهود يباطنون نفرًا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم - فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم، فأنـزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي: نـزلت في المنافقين: عبد الله بن أبيّ وأصحابه، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم.
وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: نـزلت في عبادة بن الصامت الأنصاريّ وكان بدريًّا نقيبًا، وكان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب. قال عبادة: يا نبي الله إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فـأستظهر بهم على العدو، فأنـزل الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ الآية.