"يجب أن تتحد بريطانيا، وأن تدافع بفخر عن قيمها المسيحية في وجه التطرف الإسلامي".
قائل الجملة الآنفة ليس بابا الفاتيكان، أو أسقف كانتربري، أو حتى رئيس أي كنيسة أنجليكانية صغيرة في قرية بعيدة في اسكتلندا أو ويلز، بل من قالها هو ديفيد كاميرون رئيس وزراء أكبر بلد علماني، بل ومهد الديمرقراطية الحقيقية اليوم، ونشرتها صحيفة "التليجراف" البريطانية الأسبوع الماضي، وتحجج البعض –في تبرير واهٍ- بأن دوافع الرجل لهذه التصريحات، بسبب تمرير حكومته لقانون المثليين، ولكن تاريخ الرجل وتصريحاته تنفي ذلك، بل تؤكد تدينه وإيمانه الكامل بالمسيحية، فرئيس وزراء بريطانيا قال في أبريل عام 2014 م، وفي حفل استقبال بمناسبة عيد القيامة: "فخور أن أكون مسيحيًا، وأن يكون أولادي في مدرسة كنسية". ووصف نفسه في مقال بصحيفة "تشيرش تايمز" بأنه "عضو بكنيسة إنجلترا وكلاسيكي"، وأنّ "على بريطانيا أن تكون أكثر ثقة في وضعها كدولة مسيحية".
صحيح أن قرابة 50 مثقفًا وأكاديميًا وعالمًا بريطانيا قاموا بالرد عليه عام 2014 م، قالوا فيها: "لسنا دولة مسيحية"، واتهموه بإذكاء النعرات الطائفية. وتكرر الأمر في بحر الأسبوع الماضي أيضا، حيث وجهت أكثر من 50 شخصية عامة بريطانية، رسالة إلى كاميرون عبر جريدة "ديلي تليجراف"، أكدوا فيها أن بريطانيا ليست دولة مسيحية، وذلك ردًا على استخدام كاميرون هذا الوصف في مقال له الأسبوع الماضي؛ إلا أننا اليوم إزاء تصريحات لرئيس وزراء منتخب وصل لمنصبه عبر أصوات البريطانيين الذين رشحوه ليمثلهم، وبالتالي فهو يعبّر عن رؤيتهم أيضا.
كاميرون استغل هجمات بلجيكا وكتب مقالة في "التليجراف" قال فيها: "عندما يقف الإرهابيون خلف هجمات كتلك التي حدثت في بروكسل، فإنهم يريدون تدمير طريقتنا في الحياة"، مضيفا: "إن على بريطانيا أن تتحد وأن تكون فخورة بكونها دولة مسيحية وتحمل قيم هذه الديانة".
تصريح ديفيد كامرون قد يبدو غريبًا للبعض منا هنا في السعودية أو الخليج، والغرابة تكمن أن تلكم التصريحات ليست في حديث زعيمٍ سياسيٍّ لدولة علمانية عن ضرورة أن تدافع هذه الدولة عن قيمها المسيحية. الشيء الغريب فقط أن يكون هذا الكلام بهذا الوضوح، وألا يكون مغلفًا بالقشرة الدبلوماسية التي اعتدناها في أسلافه ومجايليه.
الذي تفاجأ بهذا التصريح، قد تدهمه مفاجأة أخرى عندما يعلم بأن ملكة بريطانيا تحمل لقب الرئيس الأعلى للكنيسة الأنجليكانية، وهذا الأمر له دلالته الرمزية الكبيرة.
حضور العامل الديني في وعي كثيرٍ من الساسة الغربيين ليس سرًا، لكنَّه ليس سلوكًا معلنًا يمارسُ بطريقة مكشوفة للمتابع الساذج، ودعونا نبتعد عن ديفيد كاميرون، ونذهب للرئيس السابق للولايات المتحدة جورج دبليو بوش، الذي كانت له حكايات خالدة في الإعلام، فهو الذي كان يقول قبل وصوله لرأس السلطة، بأن الله دعاه كي يرشح نفسه للرئاسة!
ونتذكر حكاية الحروب الصليبية التي أعلن عنها إبان حملته للرد على ضربات 11 سبتمبر الشهيرة. وحربه على أفغانستان ومقولته الشهيرة بأن الله أمره بشنها، بل حتى عند زيارته لفلسطين المحتلة بداية 2008 م، حرص على زيارة عدد من المواقع الدينية المسيحية واليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، انطلقت من خلفيته العقائدية التي تعتبر أن الولايات المتحدة مكلفة من قبل الربّ بتمهيد الطريق لنزول السيد المسيح ليقود العالم كله انطلاقا من مدينة القدس المحتلة. علق وقتها المفكر المصري القبطي رفيق حبيب بقوله: "إن زيارة بوش لهذه الأماكن نابعة من تقديس ديني لها، فبوش ينتمي لطائفة تتبع الكنيسة الإنجلكانية البروتستانتية تقول إن المسيح سيعود ليحكم العالم انطلاقا من مدينة القدس ويعيد المملكة المسيحية، ووفقًا لهذه الرؤية فإن بوش يعتبر أن أمريكا مكلفة من قبل الرب لتقود العالم من أجل تمهيد الطريق لنزول المسيح".
ما الذي أريد إيصاله هنا من نموذجي كاميرون اليوم وبوش الابن بالأمس؟!
الحقيقة هي رسالة إلى علمانيي العرب وبعض المتلبراليين الخليجيين، أن الدين حاضر بشكل كبير لدى ساسة الغرب، ومحاولة التهكم منكم والضرب على المفكرين الإسلاميين والعلماء والدعاة مرفوضة، لأن من تدّعون اعتناقكم لأيديولوجيتهم؛ تدينهم الشديد يظهر في المحن والأوقات العصيبة، ومحاولة إبعاد الدين عن الحياة لن تفلح كثيرًا، وأن محاولة تقديم المتطرفين أمثال "القاعدة" و"داعش" كنماذج دينية للإسلام خطأ كبير سيرتد عليكم وعلينا وعلى أوطاننا.
بل بعيدًا عن النموذجين المتدينَين اللَذين سقتهما في المقالة، فالسياسي الغربي العلماني اللاديني، من الممكن أن يدافع عن القيم المسيحية باعتبارها ثقافةً وهويةً قومية لا يرغبُ في حضور ثقافة أخرى تنافسها. وبخاصة حين تكون هذه الثقافة هي دين الإسلام بما يحمل من إرثٍ تاريخيٍّ كبيرٍ لا يستطيع وعي السياسي الغربي التغافل عنه.
لا توجد أمة بلا قيم أو مبادئ، والمسلمون مهما قيل عن ثقافتهم وهويتهم، ومهما قلّ تمسّك أفرادهم بدينهم، أو تفريطهم فيه، فسوف يبقى الدين في موقع المركز لدى مجموعهم، ومهما حاول المتلبرالون أو غيرهم حجب هذه الحقيقة، فلن يفلحوا، بل هي من أكبر عوامل عزلتهم وعزلة الشريحة المتعلمنة عن مجتمعاتها، وهي العزلة التي يحاولُ أصحابها مخادعة أنفسهم بقرب نهايتها، بل وتتآكل حججهم من قبل سدنتهم في الغرب، عبر هذه التصريحات التي تظهر بين الفينة والفينة من ساستهم.
الدين حاضر في وعي وصميم شعوب العالم، والإسلام بألقه وروحانيته ونقائه حاضر في وجدان أمتنا، مهما حاول العلمانيون طمس ذلك بإعلامهم وفضائياتهم.