إثبات وجود جسيم الرب
أعلن مركز سيرن في 4/07/2012 عن اكتشاف جسيم الرب، وهو إسم إعلامي غير علمي مأخوذ من كتاب The God Particle لجسيم بوزون هيغز، وهذا الاكتشاف يمثل مرحلة جديدة على كافة الصعد العلمية، ليس الطبيعية منها فقط، بل حتى على الصعيد الفلسفي ، وهو ما يهمني أكثر من متابعتي للإنجاز الطبيعي.
كان السؤال، كيف يمكن في الذرة الواحدة، أن يتماسك البروتون والنيوترون والإلكترون رغم المسافة القائمة بين هذه الجزيئات؟ وحيث أن هناك قوة تعطي كتلة للجزيئات كي تتماسك بجاذبيتها لبعضها البعض، كحالة تماسك الآيسكريم قبل الذوبان! إذا ما هي القوة القادرة على الربط أو وضع الجاذبية بين تلك الجزيئات؟
بطريقة أخرى: كيف يحتفظ الآيسكريم بثباته؟!
أهمية هذا السؤال تكمن في كونه يفسر أحد أكبر أسرار الوجود، لأنه يجيب على سؤال، ما هي القوة التي تتحكم بالجزيئات التي يتشكل منها وجودنا؟! فبدون هذه القوة، لا وجود للوجود.. لا الطبيعة ولا الإنسان! لأنه لا وجود لرابط بين الجزيئات، وهذه هي أحد أكبر الثغرات العلمية القديمة في الفيزياء الحديثة.
بناء على هذا السؤال، فقد افترض بيتر هيجز، وفي العام 1964م احتمال وجود جسيمات دون ذرية (غير مرئية) هي المسئولة عن هذا التماسك، ولكنه لم يملك الأدوات العلمية التي تثبت له صحة هذه الفرضية، حتى ابتكر العلماء مصادم الهدرونات الكبير (مسرع الجزيئات) والذي كلف 9 مليار دولار، وبني في 10 أعوام من خلال تعاون آلاف العلماء من حول العالم، وقد تم تشغيله في نوفمبر 2009، وكان الهدف الأساسي من هذا المعامل هو اكتشاف مجموعة من الجسيمات وعلى رأسها هذا الجسيم، والذي خلد باسم مكتشفه الذي دخل التاريخ العلمي من أوسع أبوابه، كأحد أعظم العقول التي خرجت للكون.
بعد تشغيل معامل التسريع، قام العلماء بإطلاق حزمات من البروتونات باتجاهين متعاكسين لإحداث الاصطدام بسرعة تبلغ 99.9999 من سرعة الضوء، ولميارات المرات في الثانية الواحدة، ولتحليل بيانات الاصطدام في كل مرة، فقد تم استخدام نحو 3000 حاسب، وكان الهدف هو ملاحظة جسيم بوزون هيجز والمسئول عن حالة تماسك جزيئات الذرة، من ضمن مئات الجسيمات المختلفة أثناء حدوث الاصطدام في كل مرة.
المشكلة كانت في عدم ظهور جسيم بوزون هيجز، بسبب حالة التحلل السريعة إلى أربعة جسيمات أخرى، تظهر كخطوط منطلقة من المركز، ولكن تم الاستدلال على وجوده من خلال تتبع مصادر الجسيمات الأربع (2 إلكترون) و (2 هادرن).
أثناء البحث عن الجسيم في المصادم، وهذه صورة اصطدام 2 من البروتونات في تجربة CMS
دام البحث عن الجسيم، لنحو خمسين عام، والآن بعد الإجابة على هذا السؤال، يمكن للعلماء معرفة الكثير من الأسباب لطريقة عمل الكون، وإعادة صياغة الكثير من المعادلات والنظريات الطبيعية، بل وحتى التصورات الفلسفية، فحتى نظرية النسبية لآينشتاين عن ثبات الزمن، سوف يراجعها العلماء، وكذلك النظرية الكمية التي خرجت للوجود في نفس مرحلة آينشتاين. وهذا كله يتعلق بإعادة صياغة المفاهيم العلمية، وطريقة نظرتنا للمادة، وإمكانية إحراز المزيد من التقدم في اكتشاف المزيد من أسرار الكون، ولنتخيل يوما ما قدرتنابالعودة بالزمن، أو لنتخيل قدرتنا في صناعة كواكب جديدة، صالحة للحياة، في ظل الانفجار السكاني على كوكب الأرض، وهو حلم ليس بعيدا عن حلم صناعة المراكب الفضائية، فالأخيرة كانت مجرد خيال علمي آثم في بعض الثقافات البالية.
نحن بأمس الحاجة للانفتاح على العالم، وإصلاح الخلل العقلي الساحق، والمتسيد على كافة مفاصل الثقافة العربية، في مجتمعات تتمترس بملايينها حول مجموعة من المتحدثين، يطلق عليهم تزييفا وخداعا وتدليسا بعلماء، وهم ما بين حكواتيين وماضويين وتراثيين، لا يفهمون حتى أسباب ونتائج هذا الاكتشاف.
فنحن لازلنا في المرحلة صفر من أطوار الحضارة، بعد أن كان في ثقافتنا القديمة من يملك بذور العلم والعقل والتنوير، فحاربناهم بنفس المغالطات المنطقية السائدة لهذه الأيام، وبنفس الطائفية التي مزقت وتمزق الوحدة الوطنية وتشغلنا عن مسيرة العقل والكرامة والإنسانية، وبنفس أدوات الانحطاط الأخلاقي السائدة، بحجة الدفاع عن العقيدة أو المذهب أو حتى الوطن.
إن هذا الاكتشاف يمثل في الحرب بين العقل وأعداءه، نصرا جديدا للعلم، والذي وصل بالعقل إلى أرقى وأنبل وأسمى درجاته. وفي مجتمع لازال فيه من يسأل عن جدوى العلم، فإن اكتشاف جسيم بوزون، يمثل مرحلة جديدة تستند على قاعدة ثابتة تم التأكد من صحتها بنسبة 99.999% والعلم ليس مطلق، فكل الحقائق قابلة للنقض، ولكن الحقائق الثابتة معروفة ويستند عليها العقل البشري في البناء والسيطرة على الطبيعة، ومحاربة الشرور في هذا العالم.