مقالات في التصوف

896 views
Skip to first unread message

الفتى المحمدي

unread,
Dec 27, 2008, 1:30:28 PM12/27/08
to الصوفية طريق إلى الله
رأي في التصوّف
الباحثه والأديبة ثناء درويش

حين تزداد الغربة بين عالمنا الداخلي والمحيط , هل يكون الحل هو الهروب ؟
هذا الهروب الذي يختار الانتحار حيناً كطريقة للخلاص, أو ينعكس أمراضاً
نفسية كالفصام والاكتئاب حيناً آخر وهل يكون إنهاء الحياة بشفرة قرار
جريء وخطير دليل قوة فعلاً ؟
أحاول أن أصدق ذلك , فيصعب علي .
لا لأني لا أملك هذه القدرة الصاعقة على اختيار موتي كما أحب ولكن لأسباب
أخرى أعرضها لاحقاً … بعد أن أتأمل .
أتأمل شخصيات كثيرة قرأت عنها وعن نهاياتها المأساوية – والتي هي ليست
كذلك حتماً بالنسبة لأصحابها –
وأتساءل : لماذا الشعراء والأدباء والفنانون أكثر ميلاً للهروب بأشكاله
من سواهم ؟
أتأمل في عمق تركيبة الإنسان, وأرصد عالم الشعور والأحاسيس التي مصدرها
النفس لا العقل, وأراها تتضخم عند من ذكرت, حتى تغدو المسيطرة والمسيرة
لحياتهم, تحجب غيومها نور العقل, حتى تبدو هي اليقين وسواها محض أوهام
وخيالات .
أتأمل الإنسان وحيداً مهزوماً, لاشيء يحميه من ضعفه أمام قهر محيطه, لا
يملك إلا مشاعر عجز الاخر عن فهمها وقد سلمها أمره فأودت به إلى النهاية
التي ظن أنه اختارها متحدياً قوانين الطبيعة والوجود .
وفي عمق تأملاتي يهتف بي صوت يعارض استرسالي : (وهل الطريق الذي يختاره
الصوفي إلا هروب في اتجاه معاكس) .
لا .. أجيب, وأنا أعي ما يعنيه التصوف تماماً, وفق فهمي وإحساسي وإيماني
به .
فالصوفي أساساً مؤمن, والإيمان – وفق ما أرى - حماية للمرء من كل أمراض
النفس .
إيمان تدريجي لا يهبط فجأة, ولا يأتي وراثة أو تلقيناً رغم أهمية ذلك
أحياناً بل يلمع كومضة في القلب وينمو باضطراد , عبر حوار دائم عبر العقل
والقلب, وتفاهم وانسجام بينهما مع تباين في وجهات النظر بحكم موقع كل
منهما , ليصلا معاً إلى نتيجة مرضية, تتجلى في سكينة وسلام وطمأنينة,
مهما كانت معطيات الوسط المحيط .
إيمان يبدأ لحظة سؤالنا , هل هناك قوة مبدعة في الكون أم لا ؟
وبالتالي هل هناك غاية لكل هذا أم لا ؟ وهل هناك ثقة بهذه القدرة اللا
محدودة أم لا ؟
التي قولها وفعلها خير مطلق, وأرادتنا أن نكون مثلها ولو عبر دهور, وأن
كل شر ما هو إلا نتيجة اختلال الميزان والانحراف عن الصراط الذي لا ترى
فيه عوجاً ولا أمتا .
من لحظة الإيمان هذه, يأتي التسليم والصبر والرضى والإقرار بالقضاء
والقدر وكل ما دعت إليه الرسالات السماوية, يتحدد وفقها طريقة حياة
وتفكير المرء, بحكمة كل ما تراه أعيننا وغائية الأمثال المضروبة للتأمل .
وأراني هنا, بتوق للاستفاضة في الحديث عن التصوف, الذي أراه حصن من
إيحاءات النفس الخادعة, التي تهيمن لحظة تواري عين العقل الرقيبة :
التصوف, ليس في لبس خرقة الدراويش والاعتكاف في زوايا المساجد والتكايا،
أو في دوران مولوي مع ترديد كلمة حتى التلاشي رغم سموّ هذه الحالة .
التصوف حالة انسجام مع كل ما في الكون من أشياء, وتفاعل بالقول والفعل مع
الآخر, لا غنائيات عشق إلهي في الخلوة فقط .
لأن من أحب الله أحب خلقه .
و المحبة هنا, لا تعني أن يكون مثلهم ويفكر كما يفكرون , بل تعني تقبلهم
ومحاولة إحيائهم بالكلمة الصادقة والفعل الذي يترجم الكلمة، فما كانت
كلمة لله إن لم تتجسد .
والصوفي يحيا لا يعيش، والدنيا عنده تختلف عن الحياة .
فالدنيا التي يستهجنها ليست إلا حالة اختلال ميزان الأشياء, كاللهاث وراء
الرغبات, والاستسلام للهموم والأحزان لفترة طويلة .
يحب من الحياة الدنيا, كل ما يرقى بنفسه نحو الأسمى, ويحررها من الكدورات
والشوائب . يملكها ولا تملكه
يسوسها ولا تسوسه , وهذه هي الحياة .. (قلب صاف تنعكس به الحقائق) ليس
الصوفي بمنأى عن الألم والحزن والرغبة والغضب والحسد و .. و .. ., لكنه
لا يفتأ يرقب نفسه, ولا يتركها
تلهو به وتقصيه عن غاية وجوده هنا ليرقيها إلى أن تصير عقلاً, في رحلة
طويلة هي الغاية من هذا الكون .
غربته ووحدته ليست كغربة غيره, ولا حزنه لفقد عزيز أو خيبة أمل شخصي, أو
عجز عن فهم مرحلي, بل لأنه يؤمن بحالة مثلى يصطدم تطبيقها بتنامي المادة
وسطوتها وبإنسان لم يبق من إنسانيته إلا الاسم .
إنسان الاسم هذا .. الذي ارتضى أن يكون حمّال أسفار .. جمّاع أفكار ..
دون أن يكلف نفسه عناء خوض التجربة
لأن التجربة تستلزم التضحية بمألوفه, وما عاش عمره يحسبه الصواب .
والتجربة تتطلب الوقوف بجرأة وحياد وصدق أمام ذاته يسائلها : وماذا بعد ؟
والتجربة تعني قوام الأمور في نصابها , مما يخسره ما يحسبه حقوقاً
مشروعة .
والتجربة خسارة لنعيم محسوساته .
التجربة تحد للوهم بكل صوره التي تخدع الناظر بأنها الحقيقة .
الصوفي الحقيقي هو الإنسان, وطريق الصوفية هو طريق طويل لتحقيق
إنسانيتنا .
للوصول للقامة الألفية المنتصبة العالية, المختارة المنتجبة المرشحة
للخلافة على الأرض .

المصدر: مشاركة من الباحثة


التصوف المعاصر وإستراتيجية التأقلم
رياض عامر القيسي
ان التصوف المعاصر بكل ما يحمله من تعاليم إسلامية وشرعية وأخلاقية
واجتماعية يدعو الى ممارسة التصوف في وسط المجتمع وخضم الحياة وليس في
أماكن وزوايا بعيدة عن الحياة ممارسة تسمو بصاحبها الى مقام القرب من
الله حيثما كان موقعه في المجتمع . بل انه يدعو أو يطمح الى تصوف إسلامي
تندمج فيه الحياة العقلية بالحياة الروحية في توازن محكم ودقيق تلك
الموازنة التي رسمت حدودها ومعالمها الحكمة الإلهية المتجسدة في الإسلام
اندماجا يبقى معه الإنسان داخليا قابل لتلقي المؤثرات الإلهية والنفحات
الربانية ويعيش حياة داخلية تأملية مكثفة . لكنه يبقى في الوقت نفسه شديد
النشاط في حياته الخارجية , قادرا على أن يكيف العالم ويؤثر فيه إيجابا
لا أن يكون سجين لا حول له ولا دور يقوم به في الحياة فلذلك كانت دعوة
الصوفية واضحة في الحث على طلب العلم وعدم الانقطاع عن الناس والتكيف
والتعايش معهم ...
وكان الشيخ عبد القادر الكيلاني يحث على طلب العلم وعدم الانقطاع عن
الناس في الزوايا . وفي هذا يقول : « يا صاحبي الصوامع والزوايا .. ويحكم
تعبدون الخالق في صوامعكم هذا الأمر لا يجيء بمجرد القعود في الخلوات مع
الجهل ويلك امش في طلب العلم والعلماء حتى لا يـبقى مشي امشي حتى لا
يطاوعك شيء ».
فالتصوف الإسلامي ليس نقيض الحياة العاملة الجادة بل هو دعوة لتحقيق
الهدف الأسمى لوجود الإنسان على الأرض وهو كما أوضحه القرآن الكريم تحقيق
خلافة الله في الأرض , وعبادته فيها . هذان الأمران المترابطان هما وسيلة
الصوفي الحقيقي الى القرب من الله ، والوصول الى حضرته فالخلافة
والعبادة مفهومان في تحقيقهما يشملان في المنظور الإسلامي كل عمل نافع
وجاد وخير يساهم في تكميل الوجود الإنساني في اتجاه كماله اللائق به
ويساهم في المحافظة عليه ليس على مستوى الوجود الفردي بل على مستوى
الحياة الإنسانية بأسرها ..
والتصوف المعاصر لا يدعو الخلق الى الرضا والقناعة بأي حال للوصول الى
النعيم الأبدي يوم القيامة وكأن الإنسان خلق للآخرة فقط مذكرا بقوله :
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
فالتصوف المعاصر يؤمن بأن المسلمون هم رجال الدنيا والآخرة . وكان الحارث
بن أسد المحاسيـبي يقول: «خيار هذه الأمة الذين لا تشغلهم آخرتهم عن
دنياهم ولا دنياهم عن آخرتهم فهم رجال الدنيا والآخرة»(1) .
فقد وازن المحاسيبي بين حاجات النفس ورغباتها المشروعة في إطار التوافق
بين الدنيا والآخرة ذلك التوافق الذي لا يجعل مجالا للتطرف في الزهد
دونما حساب لنصيب الإنسان من الحياة الدنيا ، كما لا يدع مجالا للغرق في
الشهوات الدنيوية دونما وعي بنعيم الحياة الآخرة الذي أفاض القرآن بذكره
بل ان اجمل ما في الإسلام ان حق الآخرة لا يجور على الحق في الحياة
الدنيا وان المسلم مأمور بالسعي والعمل والاستمتاع بما يكسبه بسعيه وعمله
من نعمتها وزينـتها كأمره برعاية حقه في العدل والحرية والكرامة. فيقول
تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا . يا أيها الذين
آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم . البقرة
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا
الأعراف . ولا تحرموا طيبات ما أحل الله .
ونرى في تلك الآيات ان الأمر بحق الحياة من أجمل ما جاء به الإسلام .
ونحن لا نرى هذا الحق في معتقدات كثيرة ترى ان زهد الإنسان في الأرض شرطا
لحظوته في السماء .
فالتصوف المعاصر استوعب هذا الحق وخلق موازنة بين الدنيا والآخرة ، وبين
الباطن والظاهر ، بين العقل والقلب , بين القول والفعل ، وبين الخاص
والعام .
بشكل محكم ودقيق يجعل الصوفي قابل لتلقي الفيوضات الربانية في داخله ،
متفاعلا اييجابا مع عالمه من اجل خدمة مجتمعه ليكون كالغيث اينما وقع
نفع .

ــــ
- ابو نعيم الاصبهاني – حلية الاولياء .


الصوفية تطهير للنفس والفكر والطريق إلى الله
ندوة صوفية في المعهد الفرنسي
المستشرق الفرنسي د/ ايريك جوفر :

الصوفية تطهير للنفس والفكر والطريق إلى الله
تابع الندوة: صلاح طـه

بداية يقدم المستشرق الفرنسي د. إيريك اعتذاره لمن يعرفون التصوف جيدا
عندما يحاول أمامه شرح أو وصف بعض المعانى العميقة لآيات القرآن الكريم
أونصوص الأحاديث أو روح ومعانى منهج التصوف وما يحتويه من دلائل وأسرار
من شأنها أن تسمو بالنفس وتطهرها وتزكيها ولأننى أركز على جمهور لا يعلم
جيدا التصوف بل يسعى ويتشوق إلى المعرفة ومعظمهم من الفرنسيين والافت
لنظر وجود شباب وفتيات من الفرنسيين لديهم الرغبة في معرفة المزيد عن
الاسلام والتصوف كفكر ومنهج وعبادة وسلوك وعقيدةوطريقة فهناك من يرى
التصوف كطريقة تشبة الطرق الدينية اليهودية وأن التصوف والمتصوفين ساروا
على درب الرهبنة والكهان في الديانة السابقة للإسلام وهى الديانة
اليهودية أوأنها طريقة دينية تتشابة مع بعض الطرق الدينية المسيحية
واليهودية بصرف النظر عن دعوتها وسماتها وما تحماه من دعوة وسيرة ومعان
تعبر عن روح الاسلام. أضاف أيضا هناك من يرى أن الصوفية هى قلب الاسلام
كفر ومنهج يدعو ألى رقى النفس وصفاع القلب وتأهيلها إلى أسمى مكان وبذلك
تستقيم جوارحه وسلوكياته.
مبادئ الصوفية
ويقول عن مبادئ التصوف أن هناك مبادئ تاريخية تضرب في جذور الصوفية منها
النظرة ألى العلم فالعلم عند الصوفية هو الحق وهذا العلم لا يقف عند
الظاهر وهذا هو الاتجاه الأول للتصوف وهناك العديد من آيات القرآن الكريم
التى تدل على هذا المنهج والأحاديث النبوية ايضا فضلا عن أن أحد أسماء
الله الحسنى ال 99 هو الظاهر والباطن كذلك هناك آيات من القرآن تتحدث عن
الآيات الكونية وعن صفات الانسان وعن الحياة والممات والآخرة وغيرها وكل
هذه الشواهد تدعو الانسان إلى الفكر والتفكر فهذا المبدأ يراه البعض أنه
يخرج عن الشريعة الإسلامية برغم من أنه من أساسيات القرآن الكريم في
دعوته إلى التدقيق والنظر والتدبر والتفكر في خلق السماوات والأرض وما
تحتويه من أسرار بل وفي داخل النفس البشرية ومن ذلك يقول تعالى في سورة
الحديد الآية رقم (3) "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم"
فهو يعرف نفسه وهو الخالق بالظاهر والباطن إذا العالم الذى خلقه ايضا له
صفة خارجية حسية ملموسة وأخرى خفية بل أن الرسول في بعض الأحاديث
النبوية التى جاء بها لها طابع داخلى وطابع خارجى من هذا المنطلق اهتم
الصوفيون بأعماق النفس البشرية وأسرارها ليس من أجل الجدل والخلافات ولكن
للارتقاء بها وتطهيرها والوصول إلى أعماقها من مبدأ أن الواجب علينا وما
فرضه الاسلام وسنة النبى محمد من البحث عن كل خفى في القرآن وفي رؤيته
للعالم الخارجى فعندما يذكر القرآن الكريم في سورة الانعام آية رقم74
يقول الله "وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والأرض وليكن من الموقنين"
فرؤية النبى ابراهيم لإلى الليل والنهار والشمس والنجوم والقمر استطاع
بهذه الرؤية أن يصل إلى الهداية والحق وعلم أن هذا الكون له لإله وعندما
بلغ حالة اليقين قال كما جاء في الآية 78 "إنى وجهت وجهى للذى فطر
السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين" فبالعلم والتفكير في خلق
الله بلغ منزلة الإيمان.
ويضيف الكاتب الفرنسى د. إيريك جوفرأن الصوفية ترتكز في نهجها على القرآن
والسنة فهناك من لا يعرف ذلك بصرف النظر عن كونها تعتمد على بعض الأمور
الغيبية وحجتهم في ذلك لم تأت من فراغ فهناك في سورة الكهف والتى ذكرت
بعض الأمور الغيبية على سبيل المثال هناك كائن غامض وهو سيدنا الخضر
وبرغم أنه لم يعرف إذا كان نبيا أم معلما أم انسانا عاديا فهو جاء معلما
للأنبياء, ورسول لأداء مهمة معينة على أية حال لم نعلم أن له وضعا محددا
ولكن القرآن أبلغ بأنه علم النبى موسى الحقائق الداخلية والقوانين
الغائبة عن الأشياء الظاهرية فموسى الذى كان يحكم على الأشياء الخارجية
والظاهرية وهو نبى لم يصل إليه هذا العلم الذى تلقاه من الخضر وهى أمور
لها مداخل وخبايا وأسرار لم يطلع عليها بل طلب من الخضر أن يتبعه وقام
بتنفيذ ثلاثة أفعال كما جاء في سورة الكهف بل أن الخضر قال لموسى بأنه لن
يكون لديه صبر على ما سيقوم به من أفعال تخرج على حدود العقل والصورة
المباشرة الظاهرية والقوانين الخفية وهذا النوع من العلم يعرف بالعلم
اللدونى من الله لبعض مخلوقاته أو صفوتهم وهو يختلف عن العلم المكتسب عن
كريق الأساتذة المعروف بالعلم المادى أو العلم العام ولكن من المؤكد أن
هناك تكاملا وترابطا بين العلم المكتسب واللادونى فهما ليس متعارضين
ومختلفين وإنما هذه الفقرة ترفع من علو القوانين الداخلى على العلم
الخارجى وقد ذكرت في آيات سورة الكهف رقم 64 " فوجد عبدا من عبادنا أتينا
رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما" ومن هنا بعد أن نفذ الخضر المعجزات
الثلاثة وهى خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار قال لموسى في الآــية
(77) هذا فراق بين وبينك سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبرا وشرح له
الأسباب الشخصية وراء كل حادثة من هنا فأن القرآن الكريم.. يأمرنا بالبحث
في الأفق وعن الآيات في العالم الخارجى وفي أنفسنا مادام هذا الفكر يحتوى
على توافق بين الخارج والداخل كذلك يعلمنا القرآن أسلوب البحث العلمى
بصورة تدريجية عن معانى الإسلام والعالم الخارجى بصفة عامة بل الإسلام
يطلب هذا المنهج.
الصوفية وعلم اليقين
يتحدث الصوفيون بطريقة ثلاثية المراحل في موضوع اليقين وهى كلمة هامة
تأتى نتيجة ثمرة التفكر والتأمل والمشاهدة فهناك أيات عديدة ذكرت علم
اليقين فمثلا في سورة التكاثر "كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون" وقد
تكررت لجذب الانتباه في التفكير في هذا العلم ثم قال كلا لو تعلمون علم
اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين .
فهناك مصدر اليقين وحق اليقين وواقع اليقين.
فإذا هناك علم غيبى يقف حائلا بين الذين ينظرون إليه والمنظور إليه ولكن
حقيقة علم التصوف تتحقق بالاجتهاد والاخلاص في العبادة والتقرب إلى تطهير
النفس ومجاهدة النفس والإحسان أو كما ذكرنا العلم اللدنى (وعلمناه من
لدنا علما) الكهف هذا في القرآن.
أما عن السنة فقد ذكرت حديثا عن الغيب وهو حديث يعرفه الكثير من المسلمين
وهو عندما نزل الملك جبريل في صورة إنسان ودخل على النبى محمد وأصحابه في
جلسة علم وطلب من الرسول أن يجيبه عن بعض أمور الدين الظاهرية والغيبية
مثل ما هو الإسلام وكيف نصلى وكيف نصوم وهى أمور خاصة بالعبادات والرسول
يجيب جبريل عن هذه الأشياء المنظورة والظاهرية وعندما سأله عن الإحسان
وهى أفضل المراتب في العبادة فقال له أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه
فإنه يراك ثم جاء بالأمر الأخير وهو علم الغيب وهو العلم الوحيد الذى لا
يعلمه إلا الخالق سبحانه وتعالى وهو عندما سأله متى الساعة فقال علمها
عند الله وهو ما يدل على أن هناك خطا أحمر في هذا المجال لا يستطيع أحد
أن يتعداه أو يتجاوزه أما مرحلة اليقين فمطلوب من كل واحد مسلمين أن يسعى
لها ويؤمن بها وهى أننا نرى الله باليقين وهى ما يتحدث عنها الصوفية وهى
ثلاث مراحل إسلام وإيمان وإحسان ويقين.
وهنا فإن لكل المخلوقات قوانينها وشريعتها الإنسان والطير والحيوان
والنبات وكل منها له طريقته وحقيقته وكل إنسان له شريعته الخاصة وهذه
الكلمة (الشريعة) تحولت عن طريق الفقهاء للوصول إلى الحقيقة الواقعية
وهذه الشريعة مثل الطريق الذى يسير فيه كل المؤمنين ولكن هناك طرقا لبعض
الأفراد لديهم استعداد وطبيعة ورغبة خاصة واجتهاد في الاستزادة من العلم
والتقرب إلى الله.
هل الصوفية علم هامشى ؟
ويتحدث الكاتب الفرنسى د. إيريك عن مكانة التصوف في الثقافة الإسلامية
ويقول إن علم الصوفية ليس علما هامشيا كما يرى البعض فهناك أقطاب الصوفية
يرون أن التصوف ما هو إلا حب وصفاء وأخلاق فالتصوف هو الخلق فما زاد عنك
فى التصوف فقد زاد عنك في الخلق فالتصوف قادر على تربية الإنسان والفرد
ومن ثم المجتمع والأمة ودعم القوة الروحية والتربوية والإيمانية للمسلمين
في جميع جوانب الحياة ومن هؤلاء العلماء ابن الربيع ومحيى الدين بن عربى
الذى كان له دور مع أتباعه في الحروب الصليبية في فترة الناصر صلاح الدين
الأيوبي والسيد البدوى من بلاد المغرب وأحمد الرفاعى وعبد القادر
الجيلانى وأبو الحسن الشاذلى من بلاد الأندلس وإبراهيم الدسوقى وابن
المبارك وهؤلاء من أئمة الصوفية .
فنظرة هؤلاء للعلم أن يتخذوا كل شئ عن البعد الداخلى الذى يتحدث عن تعليم
الإسلام ويؤثرون أن يبرزوا أسرار القرآن وآياته ومعجزاته وهذا نهج واضح
أخذه الكثير من أساتذة التصوف وشيوخهم وأئمتهم يحاولون أن ينيروا قواعد
الإسلام فهم يرفضون أن تكون تعاليم الإسلام مثل الصناديق ولكن كل ركن في
شريعة الإسلام عند المتصوفين له مكانه عندهم وفكر بداية من فكرة التوحيد
لا إله إلا الله فهم يرون أن اله واحد وكل شئ فيما سواه سبحانه متعدد
وهذا يتطلب البحث عن المعنى والتفسير والاجتهاد لمعرفة هذه الأشياء ومن
أبرز علماء الصوفية ابن خلدون وهو صاحب علم الاجتماع الحديث الذى عاش عام
1908 هـ تعلم الشريعة وادمج علم الاجتماع مع العلوم الإسلامية.
فالصوفية علم عقلانى بل هناك من علماء الصوفية من تولى القضاء وكان يلقى
بالخطب على الفقهاء ويعلمهم الشرائع الإسلامية. وتفسير قوانين القرآن
الكريم وهو ما أثر في الثقافة الإسلامية فالصوفى يهتم بكل العلوم ولكنه
يركز بصورة أكثر على علم الأحوال أو علم القلوب أو علم الباطن فى مقابل
العلم الظاهر ويسعى للوصول إلى الطهارة الداخلية التى تصل به إلى العلم
اللدنى الذى ذكر فى سورة الكهف وناله سيدنا الخضر كما ذكرنا سالفا مقابل
العلم الملموس ومن أبرز علماء الصوفية أيضا الشيخ محمد الغزالى . تعلم
نظرية المكاشفة وهى نظرية يمكن إثباتها ويمكن أن نقول أنه علم الفقهاء
الذى لم يعره الكثير فهذا المجال الدقيق لا يفقهه الكثير بل يدينونه رغم
أن هناك نموذجا له في القرآن وفي السنة المحمدية ولكن لم يستوعبه البعض
حتى الآن .
المستشرقون والفصل بين الصوفية والإسلام
حاول بعض المستشرقون الفصل بين الطرق الصوفية والإسلام بل حاولوا تشبيه
الصوفية بأنها صورة تأثرت بالثقافة الدينية المسيحية أو البوذية أو
اليونانية وهذا غير صحيح فهناك ابن العربى وهو قطب صوفى تغذى من القرآن
والسنة النبوية وهناك دراسات صوفية عديدة تحدد طريق المتصوف وتفسر
المقامات الروحية التى تحقق طهارة النفس والذات وتفتح كل مقامات الإيمان
فهناك بعض المفاهيم الإسلامية والقواعد الأساسية فى النهج الصوفى على
سبيل المثال:
التوبة هى طريق إلى الله وهى أساس التصوف ومن مبادئ القرآن وهناك الصدق
وهو من الأمور الهامة فى حياة المتصوف وهناك الإخلاص وهو من المقامات
الأولى والرئيسية بين المؤمن وربه وهناك التوكل على الله والتقرب إليه
والعلاقة بين العبد وربه والقرب الذى يبحث عنه دائما المتصوف وهو المحبة
فهناك الآية التي تقول "وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع
إذا دعان" فالكثير من المقامات يسلكها المتصوف وكلها عبر القرآن الكريم
وسنة النبى محمد وليست بعيدة عن هذا الطريق فالنموذج المحمدى هو النموذج
الأمثل في التصوف.
السنة والصوفية
السنة هى محاكاة كل ما كان يفعله الرسول ظاهريا مثل السواك أو السلوكيات
وهى محاكاة ظاهرية ولكن الصوفيون يأخذون الأحكام والأفعال من الشريعة
والفقهاء يركزون على أفعال وأقوال الرسول وكيف ينعكس ذلك على الأمور
الظاهرية أمل الصوفية فيبحثون عن الأخلاق والصفات والسلوك والطرق الروحية
الكامنة داخل النفس والذات البشرية فقم يرون في رحلة الرسول "رحلة
الإسراء والمعراج" والصعود إلى السماء لا يركزون على هذه الرحلة بالجسد
هم يريدون أن يعيشوا هذه التجربة الفريدة وهى الارتقاء الروحانى بالنفس
وعلى الناحية الأخرى فقد يهتم السنة بما يفعلة الرسول وكيف كان يهتم
بلحيته أما الصوفيون يهتمون بالأمور الداخلية الباطنية للرسول وهناك بعض
الصوفيين يجمعون بين الناحيتين الظاهرية والباطنية أى سلوكيات الرسول
ومظاهر أفعاله وروحانياته في العبادة وإخلاصه إلى الله وهى أفضل المراتب
والصوفى يرى في الرسول المعلم الأول ثم الأساتذة الذين تعلموا على يديه
وهم الصحابة أبو بكر وعلى وعمر فسلسلة التصوف تستمد حلقاتها من الطريقة
المحمدية بصرف النظر عن باقى الطرق وأصحابها ومريديها فكلها تدخل في نطاق
واحد هو الطريق المحمدى الطريق الصوفى أن تتكون أسرة كبيرة ومتعددة ولكن
كلها تنتمي إلى الطريقة المحمدية. ولأن الرسول كان يتحدث للناس وفقا
لدرجاتهم وعلى قدر عقولهم وإيمانهم.
أخلاقيات الصوفى
ويتحدث في النقطة الأخيرة من هذه المحاضرة الكاتب الفرنسى د. إيريك عن
بعض صفات المتصوف وخطواته الروحية وهى خطى قرآنية وأولها الزهد والتخلى
عن الأمور المادية وقد يفهمها البعض على أنها عدم التمتع بمباهج الحياة
والابتعاد عن الدنيا ونعم الخالق ولكن الحقيقة أن الصوفى مندمج في كل
فئات المجتمع ويستمتع بكل ما أحل اله ولكن دون تملك وأنانية لأن الإسلام
لم يأت للثراء والاستحواذ والأطماع ولكن جاء من أجل إسعاد الآخرين فسعادة
الإنسان لا تتحقق إلا من خلال قدرته على إسعاد الآخرين ومعاونتهم وتعاونه
معهم والإحساس بهم.
وأخيرا فإن التصوف حسب وصف الكاتب الفرنسى هو كل إنسان استطاع أن يصل
بنفسه إلى درجة من الصفاء والنقاء والشفافية في الحب والبعد عن كراهية
الآخر فالصفاء الداخلى هو أهم ما يوصف به المتصوف وهناك حديث مهم للرسول
كان جالسا مع جماعة من المسلمين فدخل عليهم رجل فقال: من أراد أن ينظر
إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا الرجل القادم" فتبعه أحد الصحابة
وطلب منه أن يستضيفه يوما كاملا كى يعرف ماذا يفعل هذا الرجل ليكون أحد
أهل الجنة ويبشره الرسول بذلك وهو مازال حيا بين المسلمين وبعد أن قضى
يوما كاملا مع هذا الرجل وجد أنه يقوم بأداء الفرائض الإسلامية العادية
وعندما سأله ماذا تفعل بعد ذلك فقال: "أنه ينام وليس فى قلبه ضغينة أو
حقد أو كراهية لأحد" إذن صفاء القلب ونقائه من أهم ما يميز الصوفى
والمتصوفين وهى من ابرز روحانيات التصوف الصفاء الداخلى .

المصدر: مجلة التصوف الاسلامي


مفهوم الغربة في تصوف محيي الدين بن عربي
الدكتور عاطف جودة نصر

شغلت الغربة في تراث الثقافة العربية بعض الشعراء و الكتاب و المفكرين، و
كانت في أشكالها الثلاثة غنية بدلالات و رموز أنطولوجية، و يؤول تركيبها
الثلاثي الي غربة يفرضها التكوين الطبوغرافي، و غربة نابعة من الاستئصال،
و غربة عرفانية نظفر بها في بعض ما كتب ابن عربي، و هذا الشكل الثالث هو
الذي نبسطه في هذا المقال.
و نود أن نشير بايجاز قبل أن نلم بأبعاد الغربة العرفانية و معانيها في
تصوف ابن عربي، الي رسالة الغربة التي كتبها أبوحيان التوحيدي إذ تعد من
أبرز ماتناول في كتاب الموسوم بالاشارات الالهية.
و على معنى الاستئصال الذي يسيطر علي مفهوم الغربةْ عند التوحيدي يعلق
الدكتور عبد‏الرحمن بدوي محقق الإشارات الإلهية بقوله: «إن الوطن المادي
لامعني له إذا قيس بالوطن الروحي الذي تقطنه تلك النفوس الشاردة»، و هذا
يدلنا على معنى الاستئصال الذي كان نتيجة ضرورية للدور الذي كانت فيه
الحضارة العربية آنذاك، أي في دور المدينة المتأخرة، و في مدينة بغداد
التي كانت آنذاك مدينة عالمية سرعان ما يستأصل فيها ساكنوها من الأجناس و
الثقافات المتعارضة فضلا عما يضاف إلى هذا من انعدام الشعور القومي
المحلي عند أمثال التوحيدي من المفكرين الفضوليين علي الحياة السياسية،
شأن المفكرين في ذلك الدور الحضاري يكونون عادة عالميي النزعة، و هو ما
عبر عنه أبوالفتح البستي في ذلك العهد نفسه فقال:
وإن نبت بك أوطان نشأت بها***فارحل فكل بلاد الله أوطان
لكن التوحيدي لايقتنع بهذا المعني المبتذل، و إنما يرفعه إلي المعنى
الأعمق في قوله: «قيل الغريب من جفاه الحبيب، و أنا أقول بل الغريب من
حاباه الشريب بل الغريب من نودي من قريب›.
و يرتفع التوحيدي بهذه النبرة إلي درجة عالية فيصيح: «بل الغريب من هو في
غربته غريب».
و بهذه الصياغة الوجودية شارف التوحيدي و صيد الغربة الغريبة، متجاوزا
المعنى المادي للغربة، و هو المعنى الذي يأتيها من خارج متمثلا في النزوح
و الأسفار، إلي معني تتحقق به الغربة الباطنة. و يتحقق به ما نعته
التوحيدي بالغربة عن الغربة.
و عن الشعور بالاغتراب في الوطن القومي يقول أبوحيان: «هذا غريب
لم‏يتزحزح عن مسقط رأسه، و لم يتزعزع عن مهب أنفاسه، و أغرب الغرباء من
صار غريبا في وطنه، و أبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه، لأن غاية
المجهود أن يسلو عن الموجود، و يغمض عن المشهود، و يغضي عن المعهود.»
و لئن تناول التوحيدي موضوع الغربة هذا التناول الفني الذي يحتفي
بالأسلوب و بتوفير إيقاع داخلي منصبغ بمعاناة التجربة على المستوى
الذاتي، فقد تناول محيي الدين بن عربي هذا الموضوع نفسه بضرب من التحليل
الذي ينحل إلي مذهب في الأبستمولوجيا العرفانية[1] لم يفتأ يطمح إلى
تأسيس ماهيات لظاهرات الشعور متمثلة في أحوال الوعي الذاتي و تجاربه
ومواقفه. و يستعين ابن عربي على تحقيق هذه الغاية بتحليلات نفسية و أخري
أنطولوجية، و هكذا نجد أنفسنا من خلال التوحيدي وابن عربي بإزاء مستويين،
مستوى التعبير الفني، و مستوى التحليل العرفاني.
و الحق أن ابن عربي يميز في كتاباته بين السفر و الفرار و الغربة بوصفها
ظواهر يجمعها طابع الحركة، و هو تمييز لابد أن نلم به لنقف علي تحليله
العرفاني للغربة بوصفها ظاهرة يتأملها الشعور الوضعي[2] والكشف عن الحد
الجامع بين هذا الثلاثي متمثلا في الحركة، سواء كانت على هيئة التخارج
المكاني أو على هيئة الكيف الزماني للوعي الباطن.
و يحلل ابن عربي في رسالته «الإسفار عن نتائج الأسفار» [ابن عربى 1948 ج
2] ، معني السفر و أنواعه و وسائله و الغاية منه، مشيرا في رسالته إلى
السفر من «العماء الرباني» إلى «عرش الاستواء»، و هذا عنده هو السفر
الرحماني، يليه سفر الخلق و الأمر و هو السفر الإبداعي، و في رسالته
الانفة الذكر، نلاحظ نزوعه إلي استبطان التنزيل[3] فقد عدد أنواعا من
السفر، يناسب كل نوع منها نبيا من حيث إن كلا منهما يحيل علي الاخر.
فهبوط آدم سفر الابتلاء، و رفع إدريس رمز علي سفر المكانة و الرفعة، و في
سياق ذكره نوحا و إبراهيم و لوطا و يعقوب و موسي ، يشير إلي ضروب من سفر
النجاة و سفر الهداية، و سفر الإقبال، و سفر الابتلاء، و سفر الميقات
الإلهي. و لايخفي أن ابن عربي يلاحظ في هذا الاستبطان، أن السفر ليس
بالضرورة نقلة على هيئة الحركة في الخارج، ذلك أنه يضم إلي هذه الدلالة
دلالة أخري تتنوع بتنوع أحوال الباطن.
و يقيم ابن عربي تأمله للظاهرة في إطار تشكيل ثلاثي يراعي فيه حقيقة
وجودية ذات طابع إلهي، و ذلك قوله: «إن الأسفار ثلاثة لا رابع لها أثبتها
الحق و السفران الأولان لهما غاية، و سفر التيه لاغاية له» [1948].
و يرمز ابن عربي بسفر التيه إلي السفر ـ في ـ الله، و معلوم أنه لايكون
بنقلة و حركة، و حري إن لم يكن كذلك أن يكون سفرا معنويا، وضحه بقوله
«وأما المسافرون فيه فطائفتان، طائفة سافرت فيه بأفكارها و عقولها...
كالفلاسفة و من نحا نحوهم، وطائفة سوفر بها فيه و هم الرسل و الأنبياء و
المصطفون من الأولياء».
و لايخفى أن استخدامه الفعل المبني للمجهول في التعبير الرمزي عن الطائفة
الثانية، يدخل في إطار ما كان ابن عربي يرسيه من أصول فيلولوجية عرفانية
[4] ، ذلك أن الدلالة المتضمنة في الفعل مبنيا علي هذا الحد، تضع حدا
فاصلا بين من سافر فيه، و من سوفر به فيه، فالأول إنما عول في سفر التيه
علي جهد شخصي يحيل علي منهج فكري برهاني، أما الثاني فقد فرغ نفسه من
الحول و القوة الذاتيين متخذا في هذا التبري وضع تربص و تعلق باللطف
الإلهي بحيث يبدو في سفر التيه محمولا، ذلك أنه لم يسافر بنفسه و إنما
سافرت به الحقيقة الوجودية.
و كما ميز ابن عربي في تحليله الفينومونولوجي بين سفر ـ من، و سفر ـ إلي
ـ ، و سفر ـ في ـ‌ ، ميز أيضا في تحليل «الفرار» تمييزا ظواهر يا بين
فرار ـ من ـ ، و فرار ـ إلي ـ ، و أشار إلي أن الفرار إنما يكون بين طرفي
ابتداء و انتهاء، فابتداؤه من ـو انتهاؤه ـ إلي ـ [ابن عربي ج 2: 155 –
156].
والذي يعنينا في هذا السياق أن نحيل علي مذهب ابن عربي كما تصورناه، و
بحسبان هذا التصور نجد أنه أدخل العدم شرطا في السفر و الفرار و الغربة
بوصفها ظاهرات حاضرة أمام الوعي العرفاني المنعكس.و لعلنا نلاحظ في هذه
الظاهرات كلها دخول العدم[5] شرطا في تعيين كل منها، و لايقصد بالعدم هنا
الباطل و الخلو من أي شكل أو صورة، و إنما تعني به العدم الوجودي أو قل
«الليس أيسية» من حيث هو شرط في وجود الشعور. و بمزيد من الإيضاح نقول إن
من ـ في هذه الأحوال كلها تحيل علي انتقال و نزوح، و هذا الترك لما ـ منه
ـ ، سلب أو نفي[6] يتجاوز وضع الحمل المنطقي و يتجلى بوصفه العدم الذي
يفرزه الوعي، ـ و ما ـ إليه ـ بيدي نفسه هو الاخر علي هيئة وضع مؤجل أو
ما ليس بعد، و هكذا يدخل العدم في الطرفين اللذين يتوسطان الفعل، يعني
فيما ـ منه ـ و فيما ـ إليه ـ .
و قد عبر ابن عربي صراحة عن هذا العدم الوجودي و نعته باللاتعين في
تحليله لظاهرتي الفرار و الغربة، و وصفه بالإمكان، و هذا كله يدرأ شبهة
أن نكون نحن الذين نقرأ ابن عربي، نفسره بضرب من العسف، أو نتناول نصوصه
بحيث نصرفها عن وجهتها و دلالاتها.
و مما يؤكد ما نذهب إليه تحليل ابن عربي للفرار، فقد ميز فيه بين فرار ـ
من ـ و فرار إلى ـ بوصفهما طرفي ابتداء و انتهاء، و أولج العدم فيهما
معبرا عنه باللاتعين، يقول ابن عربي: «... فقد يكون السبب الموجب للفرار
ـ من ـ كفرار موسي و لايتعين ـ الى ـ ، فإن الفار ـ من ـ إنما يطلب
النجاة من غير تعيين غاية، و الفار إذا كان هو السبب الموجب للفرار لابد
أن يكون معينا و لايتعين ـ من، و هو عكس الأول، و لما كان الأمر بهذه
المثابة أمرنا الله أن نفر إليه و لابد، و قد نفر إليه منه مثل قوله (و
أعوذ بك منك) [ابن عربي الفتوحات ج 2: 155 – 156].
علي هذا النحو من التحليل تناول ابن عربي ظاهرة الغربة، و ذكر في تعريفه
لها عندما تعرض للمصطلح الذي يدور بين الصوفية أنها تطلق على ثلاثة أنحاء
الأول مفارقة الوطن في طلب المقصود و الثاني غربة عن الحال من حقيقة
النفوس فيه، و الثالث غربة عن الحق من الدهش من المعرفة لحكم الاصطلام
[ابن عربي 1948 ج 2؛ الفتوحات ج 2: 131، 527].
و يبدو هذا التركيب للغربة تصاعد يا إذ يبدأ بالدرجة الدنيا منها علي
هيئة الامتداد المكاني، و ينتهي بما نعته بغربة الدهشة عن المعرفة.
و نلاحظ في تحليل ابن عربي للمستوي الأدني من الغربة، أنها إما أن تكون
لتوهم أو طلب معية، أو لتحقيق خمول, و ذلك أن الوهم ربما خيل للسالك أن
مقصوده و هو من يغترب إليه، خارج عن حدود وطنه، و إذا كان الله هو من
يغترب إليه، فحري أن تكون الغربة علي هذا الحد المتخارج في المكان، حجابا
يؤذن بوهم، أو قل و هما يؤذن بحجاب، لأن الذي إليه الاغتراب ما هو بائن،
و هذه عند ابن عربي غربة المبتدئين، و هذا هو المعني العام الذي أخذ في
تاريخ الصوفية المسلمين شكل السياحة نشد انا لله و تحقيقا للتكريس
الروحي.
و في هذا السياق يذكر ابن عربي حكاية عن أبي يزيد البسطامي، و كيف أنه
لما كان في هذا المقام خرج من بسطام في طلب الحق، فوقع به رجل من رجال
الله في طريقه، فقال يا أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك؟
قال: طلب الحق، فقال له الرجل: إن الذي تطلبه قد تركته ببسطام، فتنبه أبو
يزيد و رجع و لزم الخدمة حتي فتح له فكان منه ما كان.
و من ضروب الغربة في هذا المستوى ما يكون طلبا لمعية القلب و حضوره و هذه
أيضا غربة في المكان ينشدها من يطلب وجود قلبه مع ربه في حاله، فإذا لم
يظفر بالمعية و الحضور في مكانه الذي هو فيه، اغترب عنه إلي مكان آخر
رجاء الحصول.
و يفضي هذا الضرب من الغربة إلي أن الصوفية يؤكدون في مذهبهم العرفاني
علي روحانية المكان، أو قل يسبغون على الامتداد الخارجي[7] مسحة من توتر
الأحوال الباطنية للوعي، و إلا فلم يجد السالك قلبه في موضع و يفتقده في
آخر؟ هذا التساؤل يحيل علي أن للمكان طبيعة شخصية[8] و تطرح هذه النتيجة
تساؤلا عما إذا كانت هذه الطبيعة الشخصية مسقطة من خارج أي من المتمكن،
أو ذاتية للمكان؟
إن المكان بوصفه وجودا ـ في ـ ذاته[9] ـ شرط ضروري لوجود الانية من حيث
كونها لاتوجد إلا في العالم، و هذا الوجود ـ في ـ العالم وجود في المكان،
و إذا لم يكن المكان ذاته متعينا علي هيئة شعور وضعي لزم من هذه البداهة
أن المتمكن هو الذي يشرب المكان طبيعة شخصية و ينفخ فيه من روح ليذيب
التتالي الذي يتميز به المجال الممتد، في توالي لحظات الوعي المنبثقة من
الزمان النفسي الحي.
و علي هذا النحو تؤول شخصية المكان في العرفانية الصوفية إلي طبيعة
إسقاطية، و يتفق هذا التصور العرفاني مع بعض نتائج علم النفس، إذ يحدثنا
المختصون عن ضروب من الفوبيات المرتبطة بأشكال من المخاوف المكانية
كالخوف من الطرقات المفتوحة بوصفه دفاعا ضد الاستعراضية و هو في حقيقة
الأمر خوف من الظهور بين الناس، و مثل الأجورافوبيا بوصفها فوبيا الأماكن
الفسيحة و فوبيا الزحام و نحو مخاوف الانحباس في الأماكن الضيقة
الكلوستروفبيا و «مخاوف الاختناق التي غالبا ما تكون ضد أخابيل العودة
إلي الرحم [اوتوفينخل 1969: 220 – 224].
و إذا أمعنا النظر في الطابع الباثولوجي لمخاوف الحصار و الاختناق و
الأماكن المنبسطة، تبين لنا أن العرفانية الصوفية عند ابن عربي تؤكد من
خلال علم النفس الديني علي أن الطابع الخاص بالمكان في تجربة الغربة كما
تتمثل في المستوي الأدني يفصح عن نفسه في وضع ضروب و أشكال من الإسقاط
الذاتي.[10]
و تزداد هذه النتيجة قوة في ضوء ما ذهب إليه ابن عربي في تحليل بواعث
الغربة بمدلولها المكاني، إذ من بواعثها نشدان الخمول، يقول ابن عربي:
إن بعضهم قد يفارق وطنه لما كان فيه من العزة، فإذا رأى أنه قد زاد عزا
بالزهد و التوبة، أو لم يكن مذكورا فاشتهر بالتوبة و الخير فأورثه عزا في
قلوب الناس، فوقع عليه الإقبال عليه بالتعظيم، فيفر و يعرف عن وطنه إلي
مكان لابعرف فيه [الفتوحات ج 2: 527 – 529].
و ليس الخمول بوصفه باعثا على هذا الضرب من الغربة، سوي رغبة تعبر عن
إرادة التجاوز، فهو إذ يغترب عن المكان الذي اشتهر فيه بالقداسة بحيث
أمسكته نظرة الاخر، إنما ينزح تخوفا من النظرة المهلكة، و تحقيقا للخمول
الذي ارتبط عند الصوفية بسلوك ملامتي غايته نقاوة الباطن و تحاشي الهلكة
الروحية، أو قل غايته التعالي و تجاوز الغير، و أن يدفن وجوده الشخصي حتي
لايسقط في الناس و كيما يتفتح وجوده كما تفض البدرة إمكانياتها
بالانطمار.
و بصدد غربة العارفين يقول ابن عربي:
و أما غربة العارفين عن أوطانهم فهي مفارقتهم لإمكانهم فإن الممكن وطنه
الإمكان فيفارق الممكن وطن إمكانه لهذا الشهود، و لما كان الممكن في وطنه
الذي هوالعدم مع ثبوت عينة، سمع قول الحق له كن، فسارع إلي الوجود، فكان
ليرى موجده فاغترب عن وطنه الذي هو العدم، رغبة في شهود من قال له كن...
و من غربة العارفين بالله، غربتهم عن صفاتهم عند وجودهم الحق عين صفاتهم
[11].[الفتوحات ج 2: 527–529].
و لدى هذا الوصيد من الغربة العرفانية ننتقل من الغربة العامة بمعناها
المادي المحدود بالمكان إلي غربة أخرى ننفتح بها على العلاقة التضايفية
بين العدم و الوجود و نقع بواسطتها على دلالة مرموزة للوطن، تتجاوز
التكوين الطبوغرافي و الوضع القومي إلي كلية شاملة يبدو معها الوطن هو
العدم بوصفه شرطا جوهريا في التحقق بالوجود.
و لاتتأتى هذه الغربة العرفانية إلا من جوانية الوعي المنعكس و هو يتأمل
تولد وجوده من العدم بوصفه وطنه الأصلي، و على هذا النحو لاتبلغ
العرفانية الصوفية هذا المستوي من الغربة إلا من خلال شعور وضعي يتأمل
إمكانه العرضي باعتباره عدما لايعدو أن يكون كمونا للوجود. و الذي يؤول
إليه السياق عند ابن عربي، أن الشهود هو الدافع إلي مفارقة الممكن وطن
إمكانه فما المقصود بهذا الشهود؟
إنه ضرب من الانكشاف المحيل علي كشف، فالشعور يقشع و يسلخ حتي ينكشف
للعارف أنه الحق و الحق وطنه الوجوب الذاتي لا الإمكان، يقول ابن عربي:
«... فإن الممكن وطنه الإمكان، فيكشف له أنه الحق، و الحق ليس وطنه
الإمكان، فيفارق الممكن وطن إمكانه لهذا الشهود».
و الذي يفهم من عبارة ابن عربي، أن العارف يكشف له أنه أي الحق هو
الموجود وجودا وجوبيا من ذاته، أو يكشف له أنه الحق بوصفه أي العارف،
مظهرا و تجليا، أو يكشف له أنه الحق من حيث كونه الوجود الخالص. قد أبي
إلا أن يبدي ذاته في الزماني المتغير الذي أخذ من حيث الوجود صفة وجوبية
إلا أنها وجوبية بالغير لابالذات. و عن هذه الغربة العرفانية عبر ابن
عربي بقوله:
إذا ما بدا الكون الغريب لناظري***حننت إلي الأوطان حن الركائب
جاعلا من العدم رمزا علي الأوطان، فالكون غريب في نظره لأنه لم يألفه،
ذلك أنه لما برز من العدم إلي الوجود ـ في ـ العالم، دهمته موجوديته التي
لم يعتدها و من ثم نراه يخلع علي الكون صفة الغرابة فهو يحن إلي العدم أو
قل إلي عدمه بوصفه وطنه الأصلي، و على هذا النحو يتحدد موضوع النوستالجيا
العرفانية[12] [فصوص الحكم؛ Corbin 1969]. في وضع حنين إلي العود على
بدء، أو قل شوق إلي ماكان قبل أن يكون.
و يركب ابن عربي للغربة بنية عرفانية تؤول إلي مستويات و مدارج ذات طابع
تاريخي زماني، و ذلك في قوله:
فأول غربة اغتر بناها وجودا حسيا عن وطننا، غربتنا عن وطن القبضة عند
الإشهاد بالربوبية لله علينا، ثم عمرنا بطون الأمهات فكانت الأرحام وطننا
فاغتربنا عنها بالولادة، فكانت الدنيا وطننا و اتخذنا فيها أوطانا
فاغتربنا عنها بحالة تسمى سفرا و سياحة، إلي أن اغتربنا عنها بالكلية إلي
موطن يسمي البرزخ فعمرناه مدة الموت فكان وطننا ثم اغتربنا عنه بالبعث
إلي أرض الساهرة، فمنا من جعلها وطنا أعني القيامة و منا من لم يجعله
وطنا. و يتخذ بعد ذلك أحد الموطنين، إما الجنة و إما النار، فلا يخرج بعد
ذلك و لايغترب، و هذه هي آخر الاؤطان التي ينزلها الإنسان ليس بعدها وطن
مع البقاء الأبدي [الفتوحات ج 2: 527ـ528].
و تؤول الغربة العرفانية في المدرج الأول إلي تصور للوطن يتجاوز المفهوم
المادي إلي تصور خاص بمذهب ابن عربي في الأعيان الثابتة، بوصفها وطن
الصور الكلية و الماهيات و النماذج القبلية الثابتة العالية على الزمان،
و يؤذن مفهوم الغربة و مفهوم الوطن في المستوى الثاني، بأنه يحيل على وضع
بيولوجي يتمثل في الحمل و الولادة، فالرحم وطن و الولادة اغتراب ينفي
الآنية و يجعلها في وضع اقصاء.
و في هذه الاستبطان العرفاني[13] نلاحظ أن الولادة إخراج قهري أو قل سلب
و انقذاف محدد بعمليات بيولوجية، و على هذا يبدو الرحم وطنا موقوتا سرعان
ما ينفينا بلا إرادة أو اختيار منا، و عندئذ نتحقق بحالة مغايرة و نلبس
صورا أخري تهيئها الغربة عن الرحم، تلك التي بواسطتها نسقط في العالم.
و في ضوء هذا الاستبطان ينكشف الاتصال الجنسي بوصفه استيطانا و تغريبا في
آن واحد، و هكذا تبدو الغربة في مستوياتها المختلفة حركة بين وطنين
متقابلين لاقتضائها ما منه تكون و ما إليه تؤول، و في هذه المدارج
العرفانية للغربة يسود طابع الضرورة التي ترفع الحرية، و ذلك أن الإنسان
لا اختيار له في الاغتراب من الأعيان الثابتة إلي الأرحام إلي العالم، و
لا اختيار له في هذه الأوطان التي ينزلها طورا بعد طور و طبقا عن طبق،
مما يعني أن الأوطان على هذا النحو نهائية محددة، و أن الغربة قدر
الإنسان المفروض بضرب من القهر الذي لايقاوم، و أن هذه الأطوار و
المستويات تبدي نفسها لنا من خلال التحليل العرفاني بوصفها حركة في
التاريخ و الزمان تلائم الروح الإسلامية من حيث تصورها للحركة باعتبارها
ذات طبيعة دورية مغلقة.
و يخلع ابن عربي على ما ينعته بالاغتراب عن الحال من قوة النفوذ فيه،
دلالة تفضي إلى عدم الركون و الوقوف مع الأحوال، لما في الوقوف معها من
وبال و حجاب، و يحدد لهذا المفهوم معيارا يقاس به صدق المريد في غربته،
يقول ابن عربي:
فعلامة صدق المريد في غربته عن وطنه حصول مقصوده... فمن يتعلق قلبه بوطنه
في حال غربته فما اغترب الغربة المطلوبة» [الفتوحات ج 2: 529].
و على هذا النحو لاتكون حالة «النوستالجيا» إيذانا باكتمال عرفاني للغربة
إلا إذا تعلقت بما إليه الاغتراب لا بما منه الاغتراب، و ذلك أن ما إليه
الاغتراب هو مجال العلامة التي تقيس الصدق الداخلي في إطار التحقق
الغائي.
و يحدثنا ابن عربي عن نوع آخر من الغربة، و هي الغربة عن الحق التي هي من
حقيقة الدهش عن المعرفة، و في تحليل هذا المستوى يقول‎:
الإمكان موطنه غير موطن الوجوب، بل هما موطنان للواجب و الممكن، و موطن
الممكن العدم أولا، فإذا اتصف بالوجود فقد اغترب عن وطنه... و كان في حال
سكناه في وطنه مشاهدا للحق فإنه جارله، إذ وصف العدم له أزلا وصف الوجود
لله أزلا، فاغترب عن وطنه بالوجود ففارق مجاورة الحق، و لزم الحدوث بهذه
الغربة، و الحق غير متصف بهذه الصفة... فاغترب عن الحق بحدوثه، و لما حصل
له الوجود الحادث و وقعت المشاركة في الوجود بينه و بين الحق، دهش فإنه
رأي ما لايعرفه فإنه عرف نفسه متميزا عن الحق بحال العدم فما فارق هذا
الحال بالوجود، أدركه الدهش عن المعرفة الأولي [الفتوحات ج 2: 529].
و ينبغي أن نلاحظ أن الكمون و الإمكان و الوجود بالقوة و ثبوتية الأعيان
ترادف العدم في السياق العرفاني، و هو بحسبان هذا التصور عدم وجودي، يقول
ابن عربي:
... فالشيء هالك في حال اتصافه بالوجود، هالك في حال اتصافه بالهلاك الذي
هو العدم، والعدم للممكن ذاتي، و من المحال زوال ما تقتضيه الأمور
لذواتها، فمن المحال زوال حكم العدم عن العين الممكنة اتصفت بالوجود أو
لم تتصف. [الفتوحات ج 2: 99-100].
و هذا الذي يؤكده ابن عربي يجعلنا نميز بين ضربين من العدم، أعني العدم
الماهوي و العدم الواقعي، و باغتراب الإنسان عن العدم الماهوي تتولد هذه
الدهشة العرفانية، و ربما قيل استئناسا بتصور ابن عربي للعدم، إن الآنية
إنما تغترب من عدم إلي عدم، من عدم ماهوي إلي عدم واقعي، على نحو يجعل من
هذا العدم غربة و وطنا، فأيان تكون الدهشة، و أيهما أصل في الآخر، الدهش
من الوجود أم الدهش من العدم؟
إن الوعي العرفاني لايعاني تدهيش الوجود إياه إلا ويعاين الدهش عن العدم.
و علي هذا النحو تحيل المواطنة و الاغتراب كلاهما إلى العدم، و على هذا
فالدهشة ـ عن ـ العدم متعلقها الماهية الخاصة، أما التدهيش بالوجود فخاص
بتحقيق الماهية على هيئة الوجود الفعلي الواقعي، و إذا كان العدم هو
ماهية الآنية إن في عينها الثابتة أو في وجودها الواقعي في العالم، فإن
هذا العدم هو مثار الدهشة الوجودية الغامرة، و يؤدن السياق العرفاني بأن
الدهش ـ من ـ الوجود، هو الذي يفضي إلي الدهش عن ـ العدم، بحيث ينكص
الوعي و يرتد إلي هذا العدم الماهوي بوصفه وطنا جوهريا، و لعل هذا النكوص
و هذه الرغبة في العودة إلي العدم، تحيل على إن العارف إنما يرغب في أن
يظل ماهية خالصة.
و في ضوء علم النفس الديني و نتائج التحليل الخاص بظاهرات الوجدان
العرفاني يمكن أن نتعرف في دهشة الاغتراب على بعض الأحوال الشعورية
المساوقة التي قد يظهر بعضها على نحو بائولوجي، هذا إذا ما تناولنا تلك
الأحوال من خارج بوصفها علامة على آعراض بدنية، أما إذا تجاوزنا السطح
إلي العمق، فسوف نرى أن ما يبدو في الدهشة العرفانية مرضيا، ليس سوى
علامة على موقف متوتر من مواقف الوعي الصوفي، ينشد العارف من خلاله تحقيق
مستوى خاص من الوجود الحاضر.
و يبدو هذا الاغتراب من الدهش عن حقيقة المعرفة، أو قل الدهشة المغربة
مشروطة بالمباغتة، مما يعني أن التدهيش المغرب إنما يكون علي سبيل الوهلة
و الاختطاف الذي لايقاوم، و أنه ـ متي اعتبرنا الطابع التاريخي للآنية ـ
لحظة من لحظات الوعي سريعة في حضورها و في تفلتها على سواء.
و من شأن هذا الدهش المولد للغربة إنما يغزو الشعور و يفاجئه و يهجم عليه
دون احتساب أو توقع، و عندئذ ترفع المفاجأة المألوف و تنفي المكرر و تحطم
المعتاد فيعاين الشعور المتدهش غربته الخاصة عن العدم، كأنما يعانيها
بديا أو للوهلة الأولي و هكذا نميط الآنية بالدهش، ما يحجبها عن العدم
بوصفه ماهية و وطنا.
و عن هذه الغربة المدهشة أو قل الدهشة الغريبة يتحدث ابن عربي فيذكر أنها
حال رجلين، «رجل لم يأنس بهذا المقام ولاوصل إليه بطريق استدراج و ترق من
حال إلي حال، بل أتاه بغتة، فجاءه مالم يألفه و لاعهده، فرأى نفسه تضعف
عن حمله، فيخاف من عدم عينه فيدهش عن تحصيل تلك المعرفة، و يرجع إلي حسه
عاجلا، فيتغرب عن الحق في تلك الرجعة» و يذكرابن عربي أنه رأى من أهل هذا
المقام «أبا العباس أحمد العصاد المعروف بمصر بالحريري» [الفتوحات ج 2:
529].
أما الثاني فهو كما يقول ابن عربي:
ما من معرفة ترد عليه إلا و تدهشه لعظيم مايرى مما هو أعلى مما حصل له و
أمكن، فيتغرب عن الحق الذي كان بيده، و يحصل من هذه المعرفة حقا يقوم به
إلي وقت تجل آخر يعطى فيه معرفة تدهشه، فيتغرب أيضا عن الحق الذي حصل له
في هذه المعرفة دائما أبدا دنيا و آخرة [الفتوحات ج 2: 529].
و لايخفى أن ابن عربي في هذا السياق يشير إلى دهش المعرفة، و هو دهش يأخذ
طابع الحركة و التجاوز و التعالي المستمر الذي لاإيذان فيه بفترة أو
سكون. و على هذا النحو تؤول ديمومة الدهش و ديمومة الاغتراب إلي ديمومة
المعرفة المرتبطة بالتجلي الوقتي، فالصوفي في وضع تربص بالتجليات من حيث
هن انكشاف لآنوار غيبية، لاتشرق إلا علي هيئة لحظة شعورية، و لاتبدي
نفسها للوعي العرفاني إلا كلمح بالبصر متزمن بالحاضر، و مما يفسر الدهشة
و الغربة النابعين من المعرفة، و ما فيهما من حركة لاتنقطع و لاتني، أن
العرفاء من الصوفية يؤكدون علي أن التجلي بمثابة خلق جديد، و أنه لايتكرر
للشعور مرتين؛ و من ثم نري العرف في هذا الوصيد من الاغتراب لايقف مع ما
يعطيه الوقت بحيث تفوته تجليات المعرفة التي تعطي في كل نفس و وضع خلقا
جديدا فهو مع تجل عرفاني ينقضي بتحصيل تجل آخر أعلى من الأول، و هكذا
تتجلي المعرفة وطنا و اغترابا.
و يختم ابن عربي هذا التحليل العميق بإيضاح موقف العرفاء الذين حققوا
درجة الكمال الروحي، و في هذا الايضاح ينتقل أو قل يحطم تجربة الغربة
بالعودة إلي مفهوم الاستيطان، و لئن آذن هذا التصور بضرب من السكون و
الثبات، فقد أفضت المستويات الأخري إلي الحركة المتراكبة، و لايخفي أن
ابن عربي يضع على هذا النحو معيارا للتقويم و المفاضلة بين درجات الكمال
و النقص في هذه التجربة، و هي مفاضلة يعلي فيها من شأن الثبوت و
الاستيطان و السكون برغم اعترافه بأن الآنية في وضع سفر و حركة و اغتراب.
و إذا كان الاغتراب و الدهشة من حيث توجبهما المعرفة و العدم و الوجود،
مثارا للقلق المتوهج و الحركة الجياشة، فما بالنا نعدل عن هذا كله إلي
اللاغربة؟ أليس من الأولي و نحن في صميم تجربة عرفانية صوفية‌ أساسها
الديالكتيك الوجداني، ان نتشبث بخصوبة الوعي القلق و إن أذن بعدم الكمال
الروحي؟ يقول ابن عربي في هذا السياق آخذا بفكرة المعيار:
و أما العارفون المكملون فليس عندهم غربة أصلا، و أنهم أعيان ثابتة في
أماكنهم لم يبرحوا عن وطنهم، و لما كان الحق مرآة لهم، ظهرت صورهم فيه
ظهور الصور في المرآة، فما هي تلك الصور أعيانهم لكونهم يظهرون بحكم شكل
المرآة و لاتلك الصور عين المرآة لأن المرآة ما في ذاتها تفصيل ما ظهر
منهم، فما اغتربوا و إنما هم أهل شهود في وجود، فأضيف إليهم الوجود من
أجل حدوث الاحكام [ الفتوحات ج 2: 529].
... فمرتبة الغربة ليست من منازل الرجال...، و الآكابر لايرون أنه اغترب
شيء عن وطنه بل الواجب واجب و الممكن ممكن و المحال محال، فتعين وطن كل
مستوطن.
و الحمد لله رب العالمين

منابع
ـ التوحيدي، ابوحيان. الاشارات الالهيه. مقدمة المحقق الدكتور عبدالرحمن
بدوي.
ـ ابن عربي، محيي الدين. (1948). مجموع الرسائل.
ـ ــــــــــــ . الفتوحات المكيه. بيروت‎: دار صادر.
ـ ــــــــــــ . فصوص الحكم.
ـ ــــــــــــ . التذكاري.
ـ اوتو فينخل، راجع. (1969). نظرية التحليل النفسي في العصاب. ترجمة: ذ.
صلاح مخيمر و عبده ميخائيل الانجلو.
- Corbin, H. (1969). Creative Imagination in the Sufism of Ibn Arabi.
trans by Ralph Manherin. London.
1. gnostic epistemology
[2] . positive consciousness
[3] . introspection of inspiration
[4] . gnostic philology
[5] . annihilation
[6] . negation
[7] . exterior extension
[8] . personal nature
[9] . letre en soi
[10] . personal projection
[11] . و فيما يتعلق بالأعيان الثابتة يرى ابن عربي أن المخلوقات لها من
حيث ثبوتها في العلم الإلهي، وجود سابق علي وجودها المحسوس، و أنها من
هذا الوجه صور أو أحوال في الذات الإلهية و لهذا يسميها أحيانا ماهيات و
أحيانا أخري هويات، و علي هذه الموجودات المعقولة المعدومة في الوجود
الخارجي، يطلق ابن عربي اسم الأعيان الثابتة. [ابن عربي التذكاري؛
ابوالعلاء عفيفي «الاعيان الثابتة في مذهب ابن عربي»؛ المعدومات في مذهب
المعتزله: 214؛ فصوص الحكم؛ الفتوحات ج 4: 269 – 270].
[12] . gnostic nostalgia
[13] . gnostic introspec


المصدر: فصيلة متين البحثية
http://www.ri-khomeini.org/arabic/matin/matin_articles006.htm#a


الخطاب الصوفي في زمن الحداثة
رياض عامر القيسي

ان مفاهيم التجديد , الإحياء , الحداثة والإصلاح , النهضة والديمقراطية ,
العولمة والدعوة الى جعل العالم قرية واحدة . كل تلك الشعارات التي برزت
في العقود الأخيرة من القرن العشرين وما صاحبها من نقاش فكري بين متشدد
رافض لتلك الأفكار متهم الغرب بتسويقها وبين فكر يتبناها ويجعلها من
الهموم الثقافية والمهمة في حياة المسلم المعاصر .
ولو تأملنا تلك المفاهيم , لرأينا ان لها جذور إسلامية أقرها سبحانه
وتعالى في كتابه الكريم وأكد عليها رسوله العظيم وسار في ركابها الكثير
من أصحاب القلب السليم . ولكن الاختلاف يكمن في اللفظ الخارجي للمفردة
اللغوية لا في المعنى مع الأخذ بنظر الاعتبار عنصر الزمان والمكان . وان
من دواعي الأسف هو هذا الميل الجارف الذي نراه اليوم في بعض أنحاء العالم
الإسلامي من قبل ان يطلقون على أنفسهم اسم الحداثيون وهي عملية اقتباس
نظام فكري معين صادف رواجا في عالم الغرب ويتم لصقه بكلمة إسلامي . مثل
ما يعرض علينا اليوم من تعابير كالديمقراطية الإسلامية والاشتراكية
الاسلامية والعقلانية الاسلامية والليبرالية الاسلامية ونحو ذلك بحجة
الحداثة والتجديد هذه المحاولة التي تهدف الى جعل الاسلام مقبولا عن طريق
الباسه مظهرا حديثا او عصريا هي خيانة بحق الاسلام , لانها تنقله من
دستور جامع للمبادئ ذي نظرة شاملة للعالم . الى مجرد صفة تلصق به تحمل
مدلولا مخالفا في ميدان الحضارة الغربية التي خلقت مثل هذه التعابير .
وفي الواقع ان الاسلام يمكنه ان يحظى بالاجلال والولاء من أصحاب التمييز
والنباهة من غير المسلمين وكذلك من المسلمين أصحاب الثقافة الغربية من
خلال إظهار جوهره الفلسفي والباطني العميق والموجود في ذخائر تاريخه
الزاخر والذي كان للصوفي فيه النصيب الوافر من خلال إيمانه العميق
بالقرآن الكريم ونظرته الثاقبة التي تجاوز بها السطحية في التفسير الى
الروحانية في التعبير مما جعلت منه ينبوع متدفق للحكمة يتفاعل مع واقعه
بحسب زمانه ومكانه , يستلهم من القرآن الكريم مقومات سيرورته . فمن يتأمل
القرآن ويمعن النظر في الفكر الصوفي الحقيقي يرى ان تلك المصطلحات
المستحدثة هي ليست سوى ضلال لحقيقة ثابتة دعا لها الإسلام منذ نشأته ليست
بمعزل عنه . وهنا يكمن الفرق بين مدّعيّ الحداثة الذين صوروا الإسلام
وكأنه كائن محنط لا روح فيه او ميت يراد منه العيش عنوة بإلباسه لباس
العصر . وبين من يدعون الى تأصيل الأصول كالمتصوفة الذين أيقنوا ان دين
الإسلام هو الذي أبدعه الحق سبحانه وتعالى المعروف بإتقان كل شيء ابدعه .
فالحداثيون لايرون في الحداثة هي الخروج عن الشعر التقليدي الى الحر او
الاستعاضة بالعامية عن الفصحى على سبيل المثال بل الحداثة في نظرهم اوسع
واشمل فهي ثورة على القديم كل القديم بما في ذلك الدين واللغة بل وحتى
الاعراف والتقاليد فنظرة الحداثيون الى الدين مثلا نظرة ملحدة لا تعترف
له بالقداسة والعصمة لا في أخباره ولا في أحكامه . ومن يتأمل قول الكاتبة
الحداثية ( خالدة سعيد ) في مجلة ( فصول )( ) تقول : ( ان التوجهات
الأساسية لمفكري العشرينات تقدم خطوطا عريضة تسمح بالقول : ان البداية
الحقيقية للحداثة من حيث هي حركة فكرية شاملة , قد انطلقت يومذاك , فقد
مثل فكر الرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية كمعيار
ومصدر وحيد للحقيقة , واقام مرجعيين بديليين , العقل والواقع التاريخي ,
وكلاهما إنساني ومن ثم تطوري ) ثم تكمل قائلة( ) :
( إن طه حسين وعلي عبد الرزاق يخوضان معركة زعزعة النموذج الإسلامي
بإسقاط صفة الاصالة فيه ورده الى حدود الموروث التاريخي , فيؤكدان ان
الإنسان يملك موروثه ولا يملكه الموروث , ويملك أن يحيله الى موضوع للبحث
العلمي والنظر , كما يملك حق إعادة النظر في ما اكتسب صفة القداسة وله حق
نزع الأسطورة عن المقدس وحق طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة لجعله
معاصر ). فهذه هي دعوتهم للحداثة الهدف منها نزع القداسة عن القرآن
والسنة ووضعها على طاولة البحث , والخطر ليس في البحث العلمي , فالبحث
العلمي المجرد لا يزيد الحق إلا إثباتا ورسوخا ولكن الخطر في نزع اعتقاد
المسلم بعصمة الوحي الثابت في القرآن بحجة الإسلام المعاصر او الحديث ,
وسأقدم نماذج من شعرهم مأخوذة من كتاب ( الحداثة في ميزان الإسلام )
للدكتور عوض القرني . وهو يتحدث عن تحديث الإسلام . يقول احدهم :
ارض البيد غارقة
طوق الليل أرجائها
وكساها بعسجده الهاشمي
فدانه لعاداته معبدا
فواضح من هذا النص من يعنيه بالهاشمي الذي دانت له البيد ويذمه هذا
الحداثي . ايقال هذا في حق رسول الله والذي أصبحت البيد بفضله مركز هدى
وعلم ونور للبشرية والتي أصبحت بنظرة ارضا غارقة يلفها السواد حتى يكمل
الشاعر فيقول : ( كان الله رمادا ) , فهل هذه هي الحداثة بتحويل الماضي
كل الماضي رمادا وتجاوزه وسحقه حتى الله ورسوله وتاريخ المسلمين ,
واستمعوا الى اخر وهو يستهزء بالنبي بأسلوب خفي ثم يكمل استهزاءه
بالاسلام بحجة الدعوة لحرية المرأة ليتهمه باستعباد المرأة وانها منذ
نزول سورة تبت - والقناع والمرأة تشترى وتباع فيقول لابارك الله فيه :
بعض طفل نبي على يدي
بعض طفل من حدود القبيلة
حتى حدود الدخيلة
في شفة الطفل المرأة السلعة
الافق متسع والنساء سواسية منذ تبت وحتى ظهور القناع
تشترى لتباع وثانية تشترى لتباع
وقد تجاوزوا في الطعن بالحديث وإيراد الأخبار النبوية اذ اعتبروها مثار
للسخرية والنكتة بحجة عدم معاصرتها للواقع فيقول احدهم( ) .
حدثنا الشيخ امام ( ملحن )
عن صالح بن عبد الحي
عن سيد بن درويش
عن ابيه عن جده فقال :
يأتي على هذة البلاد زمان
اذا رأيتم فيه ان الفن اصبح جثة هامدة فلا تلوموه
ولا تعذلوا اهله
بل لوموا أنفسكم
قالها وهو ينـتحب
فتغمده الله برحمته وغفر ذنوبه
هذه نماذج من شعرهم محاولين تبرير ذلك بما يسموه بالديمقراطية الإسلامية
على حد قولهم ونحن نعتقد انه لولا تخوفهم من محيطهم وواقعهم لصرحوا بأغلظ
من هذا وافظع .
وان الديمقراطية الحقيقية على سبيل المثال والتي ينادي بها دعاة التحرر
والحداثة في وقتنا الحاضر والتي تقوم على ثلاث عناصر أساسية لا انفصام
بينها وهي ( المساواة بين الرجل والمرأة , والمسؤولية الفردية عن كل عمل
يقوم به الفرد بحرية , وقيام الحكم على الشورى . نرى تلك العناصر الثلاثة
نادى بها الإسلام لأول مرة في تاريخ البشرية ووضع أسسها في كتابه الكريم
حيث يقول تعالى :
يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
ان اكرمكم عند الله
اتقاكم الحجرات:49.
الطور:52.كل أمرئ بما كسب رهينوقوله تعالى :
وقوله تعالى : الشورى:42.وأمرهم شورى بينهم 
ونبي الإسلام هو القائل : لا فضل لعربي على أعجمي ولا قرشي على حبشي إلا
( ) وهوبالتقوى القائل في أيها الناس إن ربكم واحد وان أباكم واحد كلكم
لأدم وآدم من تراب إنخطبة الوداع : ( ) .أكرمكم عند الله اتقاكم
ومن يتأمل التاريخ الإسلامي يرى إن المتصوفة هم أول من دعى لهذه
المفاهيم . ومنهم من دفع حياته ثمن لها , لأنهم كانوا يحملون أفكار جديدة
ولكن لم يستوعبها عصرهم . فرب فكرة تعد في حينها كافرة تحرم وتحارب ويتهم
صاحبها بالزندقة ولكنها مع الزمن تصبح مذهبا بل عقيدة وإصلاح تخطوا بها
الحياة خطوة نحو الأمام .
_______________
1. الملامح الفكرية للحداثة الإسلامية - المجلد الرابع -العدد 3 - ص27.
2. المصدر السابق - ص28.
3. مجلة الشرق - عدد 362 - الصفحة 38. ث3ث .
4. أخرجه البخاري ومسلم
5. متفق عليه


التصوف الإسلامي والمصادر الاجنبية
ان ما يمتلكه التصوف الإسلامي من بعد مركب ودعوة للحب جعله يُكَوّن أرضية
مشتركة بينه وبين بقية الأديان والمعتقدات والفلسفات حتى ظن البعض ان
مصدر التصوف أجنبي.
فهناك طائفة من المستشرقين رأوا ان التصوف الإسلامي من مصدر مسيحي أمثال
( فون كريمرVon Kremer . وجولدز هير Coldeziher . ونيكلسون Niclson
واوليري Oleary وغيرهم . ويستند القائلون بهذا الرأي الى حجتين :
الأولى : ما وجد من صلات بين العرب والنصارى في الجاهلية او الإسلام .
الثانية : ما يلاحظ من أوجه الشبه بين حياة الزهاد والصوفية وتعاليمهم
وفنونهم في الرياضة والخلوة وبين ما يقابل هذا في حياة السيد المسيح
وأقواله ، والرهبان وطرقهم في العبادة والملبس (1).
ولكننا نجد ونيكلسون نفسه في كتابه ( تاريخ العرب الأدبي ) يقول : انه لا
ضرورة للتحري عن اصل مبادئ الصوفية خارج دائرة الإسلام ويعتبر إن
المسيحية على حين انها أثرت في التصوف الا أنها ليست مصدرا له . لان
الزهد الذي قام عليه التصوف هو نفسه إسلامي بحت .
والجدير بالذكر ان الصلاة التي أشار إليها أوليري ونيكلسون بين زهاد
المسلمين وزهاد المسيحيين ورهبانهم بعد الإسلام . فهي أيضا ليست جديدة
حيث يمكن ردها الى مصدر إسلامي .
فقد امتدح القرآن الكريم حال الرهبان والقساوسة وأثنى على مدى تأثرهم بما
انزل على الرسول من الحق حيث يقول تعالى : لتجدن اشد الناس عداوة للذين
آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا
انا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وإنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما
أنزل الى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا
آمنا فاكتبنا مع الشاهدين .
ونحن لا ننكر استخدام بعض الصوفيين أصحاب الفلسفة اصطلاحات مسيحية مثل :
( الكلمة ، اللاهوت ، الناسوت ) . مما ورد عن الحلاج . ولكن هذا لم يظهر
الا في وقت متأخر (أواخر القرن الثالث الهجري ) بعد ان كان زهد المتصوفة
وخطهم قد اتخذ مساره في القرن الأول والثاني الهجري وأصبح دعامة وأساس
لكل تصوف لاحق .
وهناك من المستشرقين من رأى ان التصوف الإسلامي أصله هندي أمثال هورتن
Horten وهارتمان Hartmann(2) وقد ساقوا مجموعة حجج مثل :
1. إن تركستان كانت قبل الإسلام مركز تلاقي الديانات والثقافات الشرقية
والغربية فلما دخل اهلها الاسلام صبغوه بصبغتهم الصوفية القديمة .
2. ان المسلمين انفسهم يعتقدون بوجود هذا الاثر الهندي .
وهو يستند في هذا الكلام على ما عقده البيروني في كتابه ( تحقيق ما للهند
من مقولة مقبولة في العقل او مرذولة ) علما انها لا تمثل سوى مقارنة بين
عقائد الهنود وعقائد صوفية الاسلام من منظار شخصي . كما ان هذا الادعاء
قد فنده المستشرق الكبير
( نيكلسون ) حيث قال : ( ان التشابه بين المذاهب لا يعني بالضرورة أخذ
احداهما من الاخر فالوصول الى نتيجتين متشابهتين قد يأتي نتيجة لتطبيق
نفس المنهج فهذا ليس بدليل ) .
ومن الجدير بالذكر ان الأثر الهندي لم يذكر عند الصوفية سوى عن طريق
الإشارة التي ذكرها ابن سبعين الاندلسي المتوفى سنة ( 669 ) هجرية في
رسالته في الذكر والتي تسمى ( الرسالة النورية ) والتي تعرض فيها لبعض من
أذكار البراهمة الهنود(3) وكان البعض يقول ان التصوف أصله فارسي والآخر
يقول أصله يوناني ومنهم من يقول بوذي الى اخر تلك القائمة ولكن الدراسات
التي قدمها باحثين امثال نيكلسون وهي بعنوان :
( في التصوف الاسلامي وتاريخه ) ترجمة الدكتور عفيفي . وما ذكره المستشرق
الفرنسي الاستاذ MASEIGNON ماسينون وهو استاذ كرس جهوده العلمية لدراسة
التصوف وقد كتب كتابه في ذلك ( بحث في اصول المصطلح الفني للتصوف
الاسلامي ) وانتهى من بحثه هذا الى ان مصادر المصطلحات الصوفية اربعة :
الاول: القرآن الكريم .
الثاني : العلوم العربية الإسلامية كالحديث والفقه والنحو وغيرها .
الثالث : مصطلح المتكلمين الأوائل من الزهاد والمسلمين
الرابع : اللغة العلمية التي تكونت في الشرق في القرون الستة المسيحية
الأولى من لغات أخرى كاليونانية والفارسية بحيث أصبحت لغة الفلسفة
آنذاك .
وأصبح بعض المستشرقين المعاصرين يميلون الى الأخذ بالرأي القائل ان
التصوف مصدر إسلامي خالص وان الأثر الأجنبي في مجاله محدود جدا وان تطوره
يتبع خطا إسلاميا واضحا للغاية ومن أمثلة هؤلاء المستشرقين الإنكليزي
المعاصر ( ترمنجهام .SPENCER .TRIMINGHAM) كتابه الطرق الصوفية في
الإسلام حيث يقول : ان التصوف الاسلامي تطور طبيعي داخل حدود الاسلام ولا
يمت الابصلة طفيفة للمصادر غير الاسلامية . ومهما كان الدين الذي يدين به
للأفلاطونية المحدثة او المسيحية وغيرها فعلينا ان ننظر اليه بحق كما نظر
اليه الصوفية انفسهم على انهم على انه النظرية الروحية للاسلام والسر
الذي تضمنه القران الكريم )(4).
وفي رأي أراه أكثر إنصافا للمتصوفة هو رأي نيكلسون في كتابه ( تراث
الاسلام )
اذ يقول :
( كل الافكار التي وضعت بأنها دخيلة على المسلمين ووليدة ثقافة اجنبية
غير اسلامية انما هي وليدة الزهد والتصوف الذين نشأ في ظل الاسلام وكانا
اسلاميين في الصميم ) ويسترسل قائلا بعبارات يبين فيها مدى تأثر الغرب
المسيحي بصوفية المسلمين حيث يقول : ( اما فيما يتصل بالمسائل الصوفية من
ناحيتها السيكولوجية والنظرية ، فالغرب لا يزال يتعلم الكثير عنها من
الصوفية المسلمين وخاصة في القرون الوسطى عندما كانت اشعة الفلسفة
والعلوم المنبثقة من المراكز الثقافية والصوفية في اسبانيا تضيء جميع
اوربا المسيحية .. لذلك فان دين الغرب للمسلمين كان ولا شك عظيما .. وكان
التصوف الميدان الذي اتصلت فيه مسيحية القرون الوسطى بالاسلام اتصالا
وثيقا ) . ثم يسترسل فيقول التصوف نابع من المسلمين وكتابهم وسيرة
نبيهم .

عالمية التصوف
ان التصوف بمعناه التعبدي وبهدفه الذي ينشده وهو الطاعة والمحبة الإلهية
لا نقول انه نشأ جديد ، لانه خلق مع الإنسان ، لأنه فطرة الروح وغاية
الحياة . ومن خلال التقاء الروح بالبدن ، أي النقيض بالنقيض نشأت فلسفة
العبادة او التصوف ، فهو مذهب عالمي يتلون في كل امة بلون عقائدها
وتفكيرها. ويدعو الى الحب المطلق ، الحب الالهي وما يفيض به هذا الحب من
نجوى وانس وسعادة . وما ينطوي تحته من محبة لكل ما في الوجود من كائنات
لانها من صنع الله فكل ما يصدر عن المحبوب محبوب لانه جمال وخير وكمال.
هذه هي الخطوط الاولى للتصوف ، وهي شرعة عالمية وفلسفة انسانية ، لكل شعب
فيها نصيب ، ولكل امة أثر في تشييد هذا الهيكل الطاهر الشامخ ، الذرى .
غير ان التصوف الإسلامي ، وان تشابهت اهدافه وغاياته مع هذا اللون او ذاك
من الوان التفكير الصوفي العالمي الا انه امتاز بالتوحيد الخالص المستمد
من الهدي القرآني والنور المحمدي هذا الامتياز الذي فتح أمامه آفاقا
وأجواء لم تتح لغيره من المذاهب الصوفية العالمية.
ــــــــــــــــــــــــــ
1- الحياة الروحية في الإسلام ص44.
2- التصوف الإسلامي وتاريخه ( المقدمة ) .
3 - ابن سبعين وفلسفته الصوفية .
4- the sufi orders in islam oxford .p.2


المصدر: ادارة الموقع
http://www.islamic-sufism.com/article.php?id=29


ابن عربي ترجمان رسالة الوحدة الإنسانية لا وحدة الوجود
محمد عرب

إن محاولة الاقتراب من فكر الشيخ محي الدين بن عربي وفهمه لا يمكن أن
تثمر إلا بالفهم العميق للإسلام، والإطلاع على مصادر المعرفة الرئيسية
فيه وخاصة، القرآن والحديث، لكي نحيط بالأسس والمبادئ التي استمد منها
ابن عربي علومه، وبنى عليها نظرياته، حيث سيبدو عندها ابن عربي الشارح
الأكبر للإسلام، والمسلم الأصيل الذي تميز بامتلاكه اللغة الملائمة في
عصره للتعبير عن الحقائق الجوهرية في الإسلام وشرحها، مع أن عشرات
العارفين قد سبقوه إلى هذه المعرفة وإن اختفوا تحت أزياءالدراويش، ولغة
الرموز، وقصائد الحب الإلهي. وظلوا ينقلون علومهم إلى تلاميذهم مباشرة
عبر الطرق "الصوفية" التي أقامها أصحاب الرسول والشيوخ من بعدهم. ومع
ذلك فإن الكنز المعرفي الذي كشف عنه الشيخ ابن عربي قد لا يضاهيه أي كنز
آخر. وهو كنز قد يكون ممتنعاً ومغلقاً على غير الواصل إلى مستوى معين من
المعرفة الإيمانية، وإن كان من أساطين الأساتذة والعلماء في اللغة
العربية. وهذه مشكلة واجهها الدكتور أبو العلا عفيفي حين بدأ بدراسة كتاب
"فصوص الحكم" لنيل شهادة الدكتوراه، كما أوضح في مقدمة شروحه بتواضع يدعو
إلى الإعجاب فقال "أقبلت على قراءة كتب ابن عربي مبتدئاً بالفصوص فقرأته
مع شرح القاشاني عليه عدة مرات، ولكن الله لم يفتح علي بشيء! فالكتاب
عربي مبين، وكل لفظ فيه إذا أخذته بمفرده مفهوم المعنى، ولكن المعنى
الإجمالي لكل جملة، أو لكثير من الجمل، ألغاز وأحاج لا تزداد مع الشرح
إلا تعقيداً وإمعاناً في الغموض" (فصوص الحكم/ ص21). ولهذا سيعود إلى
أستاذه الإنكليزي المستشرق نيكولسون للاستفسار منه عن الطريقة الملائمة
لفهم ما كُتب بلسان "عربي مبين". فلماذا فَهم المستشرق الإنكليزي ما لم
يفهمه الأستاذ العربي؟ هل المشكلة هي مشكلة مصطلحات؟ لو كانت المشكلة في
المصطلحات فإنه سيكون بالإمكان وضع شروح لمعاني الكلمات كما نفعل في شرح
قصيدة قديمة لنفهم المعنى العام للقصيدة. ولكن المشكلة كما سيتبين لكل
قارئ في كتب ابن عربي ستكون في فهم المعاني، إذ لا صعوبة في كلماته، لأنه
استخدم المألوف من الكلام، ولم يستخدم الغريب. ولكن الصعوبات في وجه
القارئ مع ذلك ستظل قائمة. وكمثال على سبب هذه الصعوبات، أن القارئ في
"الفتوحات المكية" مثلاً سيتعرض لشروح ابن عربي عن الرؤيا وأهميتها. فإذا
كان القارئ لم يشاهد طوال حياته رؤيا صادقة، فإن كلام ابن عربي سيبدو له
ألغازاً غير مفهومة، وعلى الأغلب سينكر ما يتلو، وقد يجد في التفسيرات
الفرويدية للأحلام ما يناسبه ويقنعه. وسبب إنكاره إنما يعود لعجزه عن
مشاهدة رؤيا صادقة وعجزه نجم عن سلوكه، لأن الرؤيا الصادقة لا يشهدها إلا
الصادقون بالروح في مرحلة من الإيمان عند الابتعاد عن المحرمات. وقد بينا
طبيعة هذه المشكلة بشكل مفصل في كتابنا "الرؤيا بين الوهم والحقيقة".
وهكذا ستنشأ بسبب الأعمال والأفكار الخاطئة، نظريات خاطئة ومفاهيم خطيرة
قد تدمر المجتمع كما يحدث الآن، حيث نجم عن التفسير الفرويدي للأحلام،
وَصفَةُ إباحة الجنس اجتماعياً، كعلاج للكبت الذي سيظهر في الأحلام من
وجهة نظر فرويد. وقد يكون الجاهل بحقيقة الأحلام مندوراً في إنكاره وعجزه
عن فهم لغة ابن عربي الأصيلة، والصادقة. فنحن لسنا أمام مشكلة مصطلحات مع
ابن عربي، ولكننا أمام مشكلة فهم للعالَم وإدراك له، وفهم لحقيقتنا
الإنسانية ودورها ومكانتها في هذا العالم وخلافتها وما تقتضيه الخلافة
منّا. ومن أبسط مقتضيات الخلافة أن لا ننحدر إلى مستوى الدواب المسخرة
لنا كما نشاهد. ومن المؤسف أن بعضنا وصل إلى مستوى من القسوة لم تصل إليه
أكثر الدواب توحشاً، إذ بات كثير من الآباء وحتى الأمهات يتخلون عن
أولادهم تهرباً من رعايتهم، بينما يرعى الحيوان، الذي يعتمد في رزقه على
ما يتيسر له من القوت اليومي، أولاده ويدافع عنهم ويربيهم حتى يتمكنوا من
الاعتماد على أنفسهم. فأين رحمة الإنسان بأقرب الناس إليه، وكيف سيكون
خليفة عندما تموت الرحمة في قلبه إلى هذا الحد، وتساعده التشريعات في بعض
الدول على ارتكاب جرائمه، لأن هدف الحضارة أصبح المتعة والجنس والأكل
والمال. فهل نلاحظ كيف ستموت روح الإنسان، وكيف ستتوقف عن الانطلاق إلى
عوالم الجمال والكمال إذا حشر الإنسان غاياته في معدة وعورة، فكيف سيشاهد
ما فوق رأسه، وكيف سيدرك لغة الروح التي يتحدث بها ابن عربي وأمثاله من
العارفين؟ من هنا ندرك أهم الأسباب في صعوبة قراءة كتب ابن عربي وفهمها،
وسرَّفهم مستشرق لها ودعوة تلاميذه من العرب لدراستها، وقيام معهد
الدراسات العليا بالسوربون بالمساهمة في تحقيق كتاب "الفتوحات المكية"
بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة في مصر، بإشراف الدكتور عثمان يحيى،
الذي أدت وفاته رحمه الله إلى توقف متابعة تحقيق بقية الأجزاء. لقد أصبح
ابن عربي بفكره المتنور عالمياً، وله تلاميذه في كل أنحاء العالم، ولـه
نظرياته في التربية وعلم النفس، وله حكمه الصحيح على الفلسفة، وإن كان
بينه وبينها مسافة، كما بين المتأمل والشاهد. فأحكام الفيلسوف عن تأمل،
بينما الشاهد لا يخطئ. ولكن مشكلة ابن عربي أنه مشاهد بالبصيرة. ومن لا
يعرف سر البصيرة لا يستطيع أن يوافق ابن عربي فيما رآه. ولهذا السبب
فَهِمَ ابنَ عربي من لا يتقن العربية من غير المسلمين، بينما أنكره بعض
المسلمين وإن كانوا من فحول اللغة العربية. وعلينا أن لا نستغرب سر
اللقاء العالمي بين العقول المتفتحة للمعرفة والحق، فقد اعتمد القديس
توما الأكويني على ابن سينا وابن رشد لتأييد أفكاره الداعية إلى الإيمان
ومعرفة الله، بينما سعى بعض فقهاء المسلمين للإيقاع بابن رشد. بسبب قوله،
بوحدة العقل الفعَّال، مما أدى لاتهامه بإنكار الخلود الفردي. كما سيتهم
أتباع ابن رشد اللاتين بتبني فكرة الاتحاد والحلول لنفس السبب. وسوف
يتعرض ابن عربي لمثل هذا الاتهام أحياناً إما عن سوء فهم لكلامه أو سوء
تفسير، مع أنه وصفَ من يقول بالحلول بجهل الحقائق فقال "إن الله لا يحل
في شيء ولا يحل فيه شيء، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" (الفتوحات
المكية/ ج4ـ ص2). وقال "أنت أنت وهو هو فاحذر أن تقول كما يقول العاشق ـ
أنا من أهوى ومن أهوى أَنا ـ.. فَفرِّق واعتقد الفرقان تكُن من أهل
البرهان، لا بل من أهل الكشف والعيان. قد علمت أن ثم غطاء يكشف وقد آمنت
به فلا تغالط نفسك بأن تقول أَنا هوَ وهو أنا" (الفتوحات/ ج4ـ ص401). وهل
يمكن للبحر أن يحل في قطرة الماء؟ إن من يقول مثل هذا الكلام شعراً قد
يكون لديه عذر المحب. ولكن من يقوله علماً فلا يمكن وصفه إلا بالجهل لأن
الفرق بين منه وفيه كبير، كما بين حكم الظن وحكم الشاهد. ولقد فوجئت وأنا
أقرأ مقال الأستاذ ندرة اليازجي "الحكيم العربي محيي الدين بن عربي"
المنشور في "الأسبوع الأدبي، العدد 864" باستنتاجه بأن ابن عربي قال
بالحلول, ورغم أنني أعذر الأستاذ ندرة كما إني أقدر جهوده الفكرية وصدقه
وإخلاصه. إلا أن إخلاصنا للعلم والحقيقة يقتضي منا الحوار وتوضيح بعض
المسائل، وإن كنت من المعجبين بكتاباته ومقاله عن ابن عربي الذي احتوى
على مقارنات شيقة بين عدد من أهل المعرفة في شتى بقاع العالم للكشف عن
وحدة الإنسان، ووحدة شهود العارفين وإن جاءت تعابيرهم بصيغ مختلفة. وهي
وحدة نتمناها على كافة المستويات بين أبناء آدم كما دعانا إليها الله.
ولكن هذا لا يلغي تميز كل عارف بعلم، كما تميز الرسل في علومهم، وإن كنا
لا نفرق بينهم من حيث الإيمان بصدقهم وعصمتهم. وربما لو أتيح للعارفين في
شتى بقاع العالم ما أتيح لابن عربي حيث سبقته كل الرسالات السماوية،
لتوصلوا إلى ما توصل إليه. ولهذا فإنهم معذورون وإن أخطأوا في فهم بعض
المسائل، ما دامت النوايا حسنة. ولكن التصحيح ضروري، وعلينا أن نستفيد من
كل معطيات العلوم لفهم ما عجزنا عن فهمه في مرحلة معينة. فالمعرفة هي
ثمرة تتجدد مع نضج العقل وتطور الحضارة، حيث ستنفي وتثبت، وسيبقى الصحيح
صحيحاً على الدوام. ولكن لماذا نفى ابن عربي الحلول؟ هل لأنه كما قال
الأستاذ ندرة "نجده ينفي الحلول ووحدة الوجود، والاتحاد أحياناً، وذلك
لكي يتجنب لومة لائم. لكننا، إذا ما تعمقنا في مضامين حكمته، لوجدنا
نصوصاً أخرى تدل أنه كان يعتقد بوحدة الوجود وحلول روح الله فيه" مستنداً
إلى ما قرأه في "شجرة الكون". لقد أجاب ابن عربي عن هذه المسألة بشكل
قطعي ومعرفي فقال "لا حلول لأن الشيء، لا يحل في ذاته، فإن الحلول يعطي
ذاتين" (الفتوحات المكية/ ج4ـ ص71). فإذا كان الله من حيث الوجود هو
الكل، و هو الأول والآخر والظاهر والباطن فهل انفصلت عنه الصور واغتنت
بنفسها عن خالقها، وهل انفصلت الموجودات عن الموجد لكي تتحد معه وهي به
ومنه؟ وهل الابن هو نفس الأب على فرض قبول هذه النسبة بين الله والعالم؟
وهل السيارة والطائرة هي نفس العالِم أم إنها بعض تجليات عقله؟ سيدعونا
ابن عربي إلى الإقرار بالعجز عن معرفة الله الشاملة بقوله "لو علمته لم
يكن هو، ولو جهلك لم تكن أنت" (الفتوحات المكية/ ج1ـ ص212). وسيقرر أن
أعظم معرفة لله ستكون بالحيرة التي تحكم بما تراه منه ولا تحكم عليه.
ولهذا كان الرسول يقول "زدني فيك تحيراً" (الفتوحات المكية/ ج6ـ محقق ـ
ص265). لأنه كلما زاد علمنا بمخلوقات الله ستزداد دهشتنا وذهولنا. سيؤكد
ألكسندر كيتايجورودسكي على حيرة العلماء وهم يرصدون حركة المجرّات قائلاً
"تمت البرهنة على أن سرعة ابتعاد المجرة تتناسب طردياً مع المسافة التي
(تفصلها عنا)، إن أبعد المجرات المرئية تتحرك بسرعات تقترب من نصف سرعة
الضوء"، ويتساءل المؤلف "لماذا وضعنا عبارة (مبتعدة عنا) أو (تفصلها عنا)
في داخل أقواس؟.. إن سبب ذلك يتلخص في احتواء هذا التأكيد على شيء غير
معقول" (الفوتونات والنويات/ ص341). سيشير الرسول إلى هذه الحقيقة في
حديث ذكره لأصحابه جاء فيه "سال الرسول جبريل: أزالت الشمس؟ فقال: لا.
نعم. قال وكيف؟ قال: منذ قلت لا، إلى أن قلت نعم، قد تحركت مسيرة خمسمائة
عام" (رسائل الغزالي/ ص341). لا يُعرفُ الله إلا بالحيرة كما أكد ابن
عربي بقوله "إنه لا يُعلم لابد من ذلك. كما قال الصديق ـ العجز عن دَركِ
الإدراكِ إِدراك ـ وهذا أعلى ما يوصل إليه في العلم بالله المتين. فإن
للمتانة درجات فقصدنا أتمها وأعلاها" (الفتوحات المكية/ ج4ـ ص283).
فالحلول فكرة شاعرية لم يقل بها ابن عربي ولا يقول بها أي عارف. ولو كان
الحلول يصح لانقلبت الحقائق وصار العبد رباً مع ظهور عجز جميع البشر عن
تحقيق كل ما أرادوه حتى فيما يتعلق بهداية الناس.
الملاحظة الثانية أن الأستاذ ندرة أشار بشكل غامض إلى أن ابن عربي "أكد،
وهو متيقن مما كشف له في تجاربه التأملية الخاصة، أن العدم، أي اللا شيء،
الميتافيزيائي يتميز بإرادة أكيدة تحثه، على الدوام، على الكشف عن ذاته
في مراحل أو مستويات متتابعة من الفيض أو الإبداع والتكوين" ولم يقدم
الكاتب نصاً لابن عربي يقبل مثل هذا التأويل. وقد نفى ابن عربي أي وجود
للعدم في أي لحظة من لحظات الوجود وسمى العدم شراً، لأن الوجود هو الخير.
ولكنه في معرض حديثه عن الصور أو الموجودات قال بأن لها نسبة إلى العدم
ونبه إلى الوجود من حيث التحول والتكوين والانتقال من صورة إلى صورة
بالأمر الإلهي. فالإنسان في عالم الذر لـه نسبة إلى العدم ـ عدم الوجود
والظهور ـ بالقياس للإنسان في تكوينه المكتمل. وهكذا ستظل كل صورة لها
نسبة إلى العدم بالنسبة للحالة التي بعدها، لأن الكون في تغير دائم مع
الله، الذي هو ـ كل ساعة في شأن ـ مما يعني أنه في صيرورة دائمة.
والصيرورة القادمة لها نسبة إلى العدم قبل حصولها، وإلى الوجود من حيث
القابلية. فالإنسان عدم قبل ظهوره لا بمعنى أنه عَدم. وقد أشار القرآن
والحديث إلى هذه الحقيقة بخطابه لذرية آدم ألست بربكم ، مما يعني أن
الفيض الحادث، هو ظهور لقابل، ولكن عبر الأزمان. ولا وجود للوجود من
العدم، ولا فناء لما اتصف بالوجود.
الملاحظة الثالثة تتعلق بإشارة الأستاذ ندرة السريعة وغير الواضحة إلى
علاقة ابن عربي بالأفلاطونية بقوله "وفي هذا السياق تتصل حكمته ـ أي ابن
عربي ـ بالأفلاطونية المحدثة والأفلوطينية المتمثلة في تساعية أفلوطين
الثلاثية التكوين". نحن لا نريد أن ننفي القرابة الروحية، أي المعرفية،
بين الباحثين عن الحقيقة، فحتى الوثنية كانت لها تأويلاتها وفهمها الخاص
لمعنى الصنم الذي تدور حولـه العبادة كرمز وواسطة في ظروف غياب المعرفة
الأكمل. ولكننا لا نستطيع أن نقبل بالوثنية بعد نضجنا المعرفي. وإِنْ
تَسامَحنا وتَفهمنَا الضرورات التي أملتها مثل هذه الطقوس. وهكذا يمكن أن
نفهم قيمة نظرية الفيض الأفلوطينية، سيفيض الواحد أي الله فيتكون العقل،
ومن فيضه ستتكون النفس، ومن فيض النفس ستتكون المادة. ولهذا سيحكم
أفلوطين على المادة بأنها الشر والظلمة لأنه ليس لها فيض، ونورها مما
تلقاه من النفس.
إذ بوصول الفيض الإلهي إلى النفس ستكون طاقة إبداع المقولات قد تلاشت
نهائياً، وبدأت النفس في إنتاج المحسوسات التي لا علاقة لها بعالم العقل.
ولهذا فالمادة في تحول دائم وهي المسؤولة عن تحويل الخير الفائض إليها
إلى شر، غير أن لديها الإمكانية أيضاً لقبول هبة العقل والنفس والكشف عن
الخير. بينما سنشاهد عند ابن عربي تحولاً رئيسياً في نظرية الفيض عن كل
من سبقه، فهو سيرى في نظرية الفيض تكاملاً متصاعداً نحو الأعلى أو الكمال
منذ بداية الخلق إلى ظهور الإنسان، حيث سيكون الفيض الإلهي قد اكتمل
بظهور الإنسان الخليفة.
وقد عبر عن هذه الفكرة بشكل خاص في كتابه "شجرة الكون" حيث رأى أن الكون
شجرة الغاية منها الثمرة وهي الإنسان وسيؤكد على هذه الحقيقة في جميع
كتبه. "فظهر جميع ما في الصور الإلهية من الأسماء في هذه النشأة
الإنسانية فحازت رتبة الإحاطة والجمع بهذا الوجود، وبه قامت الحجة لله
على الملائكة" (فصوص الحكم/ ص50). فالإنسان هو القابل لجميع الأسماء
الإلهية وبه اكتملت المملكة الإلهية بقابلية الإنسان للخلافة مما يجعله
مسؤولاً عن تجسيد الخلافة بنفسه لبناء المجتمع الصالح. وهي مسؤولية
حضارية تتطلب من كل إنسان التعاون مع الآخرين لتجسيد معنى الإنسانية.
وهكذا يتبين أن نظرية الفيض تكشف كما هو الأمر في نفسه عن المعاني
الإيجابية في تصاعد عملية الخلق وتكاملها عند ابن عربي، وليس عن انحدارها
بظهورها في المادة عند أفلوطين. وربما كان ابن عربي أقرب إلى أفلاطون
بإشارته إلى الفيض الأقدس الذي قد يوازي عالم "المثل" المجرد عند
أفلاطون، أي عالم الفكرة في الذات الإلهية، والفيض المقدس الذي ستندمج
فيه الفكرة مع المادة لتظهر في ثوبها المادي، كضرورة لابد منها لظهور
التجليات أو الفيوضات الإلهية. لقد كان ابن عربي بحق الحكيم الداعي لوحدة
الإنسانية وليس لوحدة الوجود، عن إيمان وإدراك عميق لأمر الله وغاية
الرسول وغاية من سبقه من الرسل والأنبياء. إنا جعلناكم شعوباً وقبائل
لتعارفوا
و إن أكرمكم عند الله أتقاكم . ولكن ابن عربي وإن كان قد عرف مواطن الحق
والفضل. فقد اتسع قلبه لرؤية الغدر لكل عابد فيما عبد، وإن لم يقره على
عبادته، اقتداء بقول الرسول وهو يُقابَلُ بالإيذاء من قومه (اللهم إهدِ
قومي فإنهم لا يعلمون). فقال ابن عربي قصيدته المشهورة التي تدعو للتسامح
ومما جاء فيها:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي*** إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صـــورة*** فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان
وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طائــــــفٍ*** وألواح توراة ومصحفُ قرآنِ
أدين بدين الحبِّ أنّى توجهــت*** ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني
وسوف يشير إلى أن المسيح قد ساهم في تربيته الروحية.


المراجع:
ـ محيي الدين بن عربي ـ الفتوحات المكية ـ تحقيق د. عثمان يحيى ـ الهيئة
المصرية العامة للكتاب ـ الطبعة الثانية /1405هـ ـ 1985م/.
ـ محيي الدين بن عربي ـ الفتوحات المكية ـ منشورات دار صادر ـ بيروت.
ـ محيي الدين بن عربي ـ شجرة الكون ـ مكتبة عالم الفكر ـ القاهرة ـ
الطبعة الأولى /1407هـ ـ 1987م/.
ـ محيي الدين بن عربي ـ فصوص الحكم والتعليقات عليه ـ تحقيق د. أبو العلا
عفيفي ـ دار الكاتب العربي ـ الطبعة الثانية /1400هـ ـ 1980م/ ـ بيروت.
ـ أبو حامد الغزالي ـ مجموعة رسائل الإمام الغزالي ـ دار الفكر ـ بيروت ـ
الطبعة الأولى /1416هـ ـ 1988م/.
ـ ألكسندر كيتايجوردسكي ـ الفوتونات والنويات ـ ترجمة داود سليمان المنير
ـ منشورات دارميرـ موسكو ـ 1985م.
ـ د. حسن حنفي ـ نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط ـ دار
التنوير ـ طبعة 1981 ـ بيروت.
ـ د. سعد الدين كليب ـ البنية الجمالية في الفكر العربي ـ الإسلامي ـ
وزارة الثقافة ـ دمشق ـ عام 1997.

المصدر: جريدة الاسبوع الادبي
العدد 880 تاريخ 25/10/2003

الدولة العثمانية والحضارة الاسلامية
القاهر- ضياء الدين أحمد

الاسلام دين يصلح لكل زمان ومكان اذ يحمل بين دفاته كل عناصر المعاصرة
والمواكبة والرقي والتحضر.. وقد قدم المسلمون منذ ازمان بعيدة الكثير من
الابتكارات والابداعات التي اسهمت في مسيرة البشرية..
وفي زمن العولمة والتطور التقني ودخول عصر التكنولوجيا كثر الحديث عن
صراع الحضارات وطرح العديد من القضايا المتداخلة بين الشرق والغرب وبين
الاسلام والاديان الاخرى.. وموقف الاسلام من قضايا عصره ومدى تفاعله
معها. طوال الشهر الفضيل سنطرح يومياً قضية مهمة ونلتقي بأحد العلماء
والمفكرين لمعرفة رأيه معززا بالادلة ومؤكدا بالبراهين.
الدولة العثمانية كانت دولة اسلامية كبيرة حكمت العديد من شعوب العالم في
مختلف القارات وازدهرت في عصرها الحضارة الاسلامية، ورغم مضى ثلاثة أرباع
القرن على سقوط هذه الدولة الا أن الدراسات والبحوث لاتزال تجرى وتتناول
مختلف جوانب حياة هذه الدولة ومختلف مراحلها.
وهناك أقسام في الجامعات مثل أقسام التاريخ واللغات الشرقية وغيرها وهناك
مراكز بحوث لاتزال تولي الدولة العثمانية عنايتها وإهتمامها ومن تلك
المؤسسات معهد الدراسات الآسيوية بجامعة الزقازيق وفي هذا الحوار مع
الدكتورة هدى درويش الاستاذة بالمعهد نحاول تناول بعض الجوانب من الدولة
العثمانية.
ـ هناك اتهامات من جانب الدولة الأوروبية في الوقت الحاضر أن الدولة
العثمانية ارتكبت مذابح في حق الأرمن الذين كانوا يعيشون على أراضيها فما
مدى صحة هذه الاتهامات؟
ـ الطوائف الأرمنية عاشت حقبة كبيرة من الزمان داخل حدود الدولة
العثمانية التي كفلت لهم حرية الاقامة والتنقل والتجارة في اراضيها من
خلال نظام الامتيازات الذي كفلته الدولة العثمانية لرعايا الدول الأجنبية
والأقليات العرقية التي كانت تدخل ضمن سيادتها. وفي ظل هذا النظام عاش
الأرمن في تركيا متمتعين بكامل حقوقهم فقد كفلت لهم حرية الدين والعبادة
ومزاولة شعائرهم في الكنائس وغيرها، وكانت معظم الطوائف الأرمنية تسكن في
الجزء الشرقي من الدولة العثمانية أي في ولايات تبليس وأرضروم ووان
وسيواس وجزء من ديار بكر وطبقا لنظام الدولة في معاملة أهل الذمة
المقيمين داخل حدودها تمتع الأرمن بحصانة متميزة في الدولة تقلدوا من
خلالها مناصب قيادية في الحكومة العثمانية في مقدمتها منصب الصدارة
العظمى - رئاسة الوزراء - والوزراء، واشتغل بعضهم في السلكين الدبلوماسي
والقنصلي كما دخل بعضهم البرلمان.
وكان للأرمن نشاط تجاري واقتصادي في الدولة وكانت الجالية الأرمنية التي
تعيش في اسطنبول من أكثر الجاليات نشاطا في العالم.
التدخل الأجنبي:
ـ اذا كان الحال كذلك فلماذا ظهرت هذه الاتهامات؟
ـ المشكلة جاءت بسبب التدخل الأجنبي ومحاولة بعض الدول الأوروبية فرض
نفوذها على الأرمن فقد قامت فرنسا بنشر المذهب الكاثوليكي وأرسلت بعثات
تنصيرية الى الأرمن بهدف تحويلهم الى المذهب الكاثوليكي ثم بدأت كل من
انجلترا والولايات المتحدة ترسل بعثات تنصيرية لنشر المذهب البروتستانتي،
وقد اعترض البطريرك الأرمني الأرثوذكسي على هذا التدخل بسبب خروج الآلاف
من الأرمن عن سلطانه الروحي والأدبي والمادي.
وحدث صراع ديني ومذهبي بين طوائف الأرمن ثم بدأ الأرمن يتطلعون الى
الاستقلال وتكوين دولة مستقلة لهم شرق الأناضول وقاموا بعمليات ارهابية
ضد المسلمين من أجل تحقيق هدفهم بجانب تحريض الرأي العام الدولي ضد
الدولة العثمانية بجانب استقطاب الدول الأوروبية لصالحهم ونشر الفوضى في
القرى والمدن. وقد أنضم الأرمن الى روسيا في حربها ضد العثمانيين التي
استمرت منذ عام 1877 الى 1878م مما أدى الى هزيمة الدولة العثمانية كذلك
شكل الأرمن تنظيمات وجمعيات خارج وداخل الدولة قامت بعمليات ضد الحكومة
العثمانية وضد المواطنين، وارتكبت العديد من المذابح وحاولوا طرد السكان
المسلمين من الأناضول وعلى سبيل المثال قام الأرمن في عام 1896م
بالاستيلاء على فرع البنك المركزي العثماني وهاجموا مبنى الباب العالي
واقتحموا مكتب الصدر الأعظم وهددوا بقتله وأثاروا الذعر في الشوارع
وحاولوا اغتيال السلطان عبد الحميد أثناء توجهه لأداء صلاة الجمعة هذا
بالاضافة الى أعمال السلب والنهب والقتل مما دفع السلطات العثمانية
بالتصدي لتلك الأعمال وفي أعقاب ذلك زعم الأرمن قيام القوات العثمانية
بإرتكاب مذابح ضدهم وطالبوا بتدخل الدول الأوروبية فتشكلت لجنة دولية من
الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا وروسيا أكدت في تقريرها أن الأرمن هم
الذين اشعلوا الاضطرابات بتحريض أعضاء من الجماعات الارهابية وعملائهم في
الخارج وأن عدد القتلي الذي أعلنه الأرمن مبالغ فيه، ومع استمرار الأعمال
الارهابية الأرمنية قررت الدولة العثمانية في عام 1915 ترحيل الأرمن من
شرقي الأناضول الى العراق والشام.
مطامع:
ـ البعض يرى أن أصوات الأرمن ارتفعت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي
وإستقلال أرمينيا التي تدعم التوجيهات الأرمنية مطالبة بفرض عقوبات على
تركيا فلماذا تتخذ أرمينيا هذا الموقف العدائي ازاء تركيا؟
ـ نعم هذا صحيح لأن أرمينيا لها مطامع في تركيا ففي عام 1989 طالب برلمان
أرمينيا بأراض تقع بين شمال أذربيجان وشمال شرق تركيا وفي عام 1991 جاء
على لسان الرئيس الأرمني أنها ستواصل جهودها من أجل الحصول على اعتراف
دولي بالمذابح التي ارتكبها العثمانيون في عام 1915، وفي عام 1992 وزعت
السفارة الارمينية في لندن خريطة لأرمينيا تتضمن أراضي تقع داخل تركيا.
أسس صوفية:
ـ يشير المؤرخون الى أن الدولة العثمانية قامت على أسس صوفية كيف حدث
ذلك؟
ـ مؤسسو الدولة العثمانية كانوا يعيشون - في مقاطعات غرب الأناضول - حياة
ايمانية محاطة بالقوة المعنوية من جانب رجال العلم والتصوف الذين كانوا
يلازمونهم، وتذكر الروايات أن أرطغرل والد عثمان مؤسس الدولة نزل ضيفا
على أحد المتصوفة فقام صاحب البيت بوضع القرآن في مكان مرتفع فلما أراد
أرطغرل أن ينام رأى أنه من دواعي الأدب والاحترام للقرآن ألا ينام وقدمه
ممدوده فقضى ليلته نائما وهو واقف، أما عثمان فكان شيخا صالحا تقيا، وكان
للطرق الصوفية دور بارز في ادارة شئون الدولة وتأسيسها فكان شيوخ الطرق
يعملون على نشر الاسلام وإعداد المسلمين للجهاد.وقد تقلد الصوفية مناصب
كبيرة في الدولة، ومن أشهر الطرق التي كان لها دور بارز في الدولة
العثمانية الطريقة البكتاشية والطريقة الرفاعية والطريقة المولوية. وكان
السلاطين العثمانيون مرتبطون بشيوخ الصوفية وبالطرق والتكايا، وكان لأهل
التصوف دورهم العظيم في الدفاع عن الاسلام وكان لهم نفوذ على الهيئة
الحاكمة في الدولة ورقابة سياساتها، وكان رجال التصوف يشتركون مع الجيش
العثماني في فتوحاته وساهموا في تحقيق العديد من الانتصارات، وبصفة عامة
كان التوجه الصوفي قاسما مشتركا بين جميع السلاطين العثمانيين فقد عرف
عنهم التصوف وحب الصوفية.
ـ أيضا يقول أن الصوفية كان لهم الفضل في انتشار الإسلام في جمهوريات
آسيا الوسطى فماذا فعل المتصوفة لتحقيق ذلك؟
يرجع الفضل في تشكيل هوية المسلمين في آسيا الوسطى الى رجال التصوف الذين
حملوا على عاتقهم مهمة تبليغ الدعوة الاسلامية الى تلك البقاع، فقد قام
المتصوفون الأوائل ببث روح الجهاد من أجل رفع رايه الاسلام وتثبيت دعائم
العقيدة الاسلامية في قلوب شعوب هذه المناطق وواجهوا الاستعمار الروسي في
مختلف المراحل التاريخية والذي بذل كل جهوده من أجل محو الهوية الاسلامية
وهدم الاسلام وإخراجه من تلك الأرض، وقد تجلى فضل هؤلاء المتصوفة الكبار
أمثال محمد بهاء الدين نقشبند مؤسس الطريقة النقشبندية التي كان لها دور
فعال وتأثير كبير على شعوب آسيا الوسطى،وأحمد اليسوى شيخ الطريقة اليسوية
التي امتدت فروعها الى كل مناطق آسيا الوسطى والقوقاز وكذلك الطريقة
القادرية والطريقة الكبروية، وقد كان نشاط هذه الطرق ينحصر في تربية
المسلم تربية روحية وفكرية وخلق ارادة ايمانية في نفس كل مسلم والارتقاء
به الى أعلى مراتب الاسلام وكذلك العمل على تكوين مجتمع اسلامي منظم
تنظيما مثاليا.
ومن الثابت تاريخيا أنه ظهر في آسيا الوسطى جنود متصوفة ذهبوا الى تلك
البلدان التي لم يكن الاسلام قد وصل اليها بعد واختلطوا بأهلها وعايشوهم
ومن خلال ذلك هيأوا تلك البلاد لتقبل الفتح الاسلامي بشكل رسمي وقد حقق
أهل التصوف نتائج عظيمة في زمن قصير وكان انتشار الاسلام في هذه البلاد
يرجع الى جهودهم في تبليغ الدعوة الاسلامية والدفاع عنها.
الشيوعية:
ـ هل كان للصوفية في آسيا الوسطى دور في مواجهة الشيوعية التي كانت
تستهدف طمس الهوية الاسلامية لتلك المناطق؟
ـ لقد وجه الشيوعيون اهتمامهم للقضاء على التصوف وملاحقة الصوفية الكبار
وإيداعهم السجون أو التقليل من مكانتهم وهيبتهم لدى المسلمين وأجبروا
مفتى آسيا الوسطى في عام 1959 على اصدار فتوى تؤكد أن التصوف تيار دخيل
على الاسلام. كما أجبروا كل من مفتي شمال القوقاز وداغستان على اصدار
فتوى تحرم الدعاء في أضرحة المتصوفين وأغلق الشيوعيون أضرحة الأولياء،
وحولوا بعضها الى متاحف وبعضها الآخر وضع تحت حماية الدولة، لكن هذه
الاجراءات أدت الى انتعاش التصوف وزيادة عدد المنتسبين اليه، وقام أتباع
الطرق بدور كبير في التعليم الاسلامي وتنشئة الصغار تنشئة اسلامية
وتعليمهم مبادئ القرآن وكان الشيوعيون يؤمنون أن النصرانية لا تشكل خطرا
على النظام السوفيبتي بعكس الاسلام الذي كانوا يقولون عنه أنه دين لا
يتفق مع الشيوعية، وقد ظهرت حركات مقاومة عنيفة من الصوفيين ضد الشيوعيين
من أشهر رجالها الشيخ درويش منصور والغازي محمد الكمراوي اللذان قادا
نضالا ضد الروس استمر ست سنوات وكذلك المجاهد الاسلامي الشيخ شامل
المعروف بأسد القوقاز وصقر الجبال الذي قاد حركة الجهاد العنيفة ضد
القوات الروسية واقتحم الحصون الروسية مما دفع الروس الى حشد جيش قوامه
400 ألف مقاتل لمواجهة الشيخ شامل ورجاله، وقد استمر هذا الكفاح طوال عشر
سنوات كاملة وقد سبق انهيار الاتحاد السوفييتي حركات مقاومة اسلامية
شديدة ضد الشيوعية.

المصدر: موقع جريدة البيان
http://www.albayan.co.ae/albayan/2001/12/02/mnw/8.htm
الاحد 17 رمضان 1422 هـ الموافق 2 ديسمبر 2001


في التصوف المقارن: ملاحظات منهجية
د. عرفان عبد الحميد فتاح
التصوف: ظاهرة دينية تتسم بالعالمية، فلا تتقيد بحدود الزمان والمكان،
والأجناس واللغات والأديان، أو الدوائر الحضارية، "فلا وطن لها ولا تاريخ
ميلاد."
ومع هذه السمة العالمية للظاهرة فإن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل،
وضع تعريف جامع مانع للتصوف يتضمن كل مفرداته، كتجربة جوانية وجدانية
وخبرة دينية، هذا ما استقرت عليه آراء الباحثين في الظاهرة على اختلاف
أديانهم وتباين مناهجهم، ممن تناولوها بالدراسة والتحليل، سواء من
الصوفية أنفسهم أو ممن درسها من مؤرخة التصوف المقارن ومن ثم: "فليس
لتعريف مهما دق أن يكون ذا معنى، شاملاً وواضحاً، ويتضمن جملة الخبرات
التي توصف عادة بالوعي الصوفي. إنه شبه المفاهيم النفسية الأخرى التي لا
تسمح بطبيعتها بالتعريف وتستعصي عليه."وسبب هذه الصعوبة التي تقترب من
حدود الاستحالة كما قلنا جملة أسباب يمكن أجمالها فيما يأتي:
أولاً: إن التجربة الصوفية مهما تباينت صورها، وتعددت أنماطها –كما
سنشير- تجربة فردانية خالصة تنزع إلى الاحتجاز دون المشاركة ولا تستهوي
إلا القلة من أتباع الأديان عموماً، وتنطوي بطبيعتها على نزوع باطني فهي
في جوهرها حالة نفسية وموقف وجداني، لا هي تخضع -ولا يهتم من يعانيها
ويكابدها- بالنسقية المنطقية كما هو الحال في المذاهب الفلسفية والكلامية
والفقهية، أو حدِّها بالتعبير عنها في مفاهيم دقيقة ومنضبطة. ذلك أن
اهتمام الصوفي ينصرف عادة إلى ترجمة فحوى ومضمون التجربة التي يكابدها
ومن ثم فإن العبارات مهما دقت لا تنقل المضمون الحقيقي للتجربة.
ويزيد هذه الصعوبة بياناً الفيلسوف الديني المعاصر بول تلش قائلاً: إن
الحركة الصوفية تعكس عدم الرضى بأية واحدة من طرائق التعبير الجامدة عن
المطلق والمقدس، فالذي يكابد التجربة الصوفية –عادة- يتخطى ويتجاوز مثل
تلك التعبيرات وتمظهراتها المتعددة. إن المقدس المطلق يقع خارج العالم
ويُجاوز صور تمظهراته الخارجية المشخصة المتعينة والمباشرة.
ومرد هذه الصعوبة هو أن الصوفي -وفي مختلف الدوائر الدينية والثقافية-
إنما يصدر عن قناعة راسخة مفادها أن الحقيقة الكلية تجاوز الخبرة
الإنسانية العادية والاعتيادية المستفادة من الحواس أو الخطاب بالكتابة
والقول أو الاستدلال ثم هو يعتقد بأن، الوسائل البشرية المعتادة في
الخطاب غير قادرة على التعبير عن الحقيقة الإلهية، إذ الحقيقة الصوفية
مما لا يمكن الإشارة إليها بالعبارات، وحتى الإيماءات الرمزية الغامضة
التي يتوسل بها البيان الصوفي إلى مقصوده؛ لا تضيف جديداً إلى المقصود.
إنها خبرة مخصوصة لا يمكن فهمها إلا ممن يتذوقها بذاته، أو من صوفي قرين
له كابد التجربة بنفسه، والذي له نوع تذوق للمتجاوز، الخفي المستور وراء
الرمز.
ثانياً: وإزاء هذه الصعوبة التي تقترب من حدود الاستحالة، ومحاولة من
الصوفي نقل مضامين تجربته إلى الأغيار والآخرين توجد صعوبة مضافة، فلأن
وسائل الاتصال من اللغة العادية والخطاب والفكر، لا تستوعبها يضطر إلى
التعبير عنها بلغة مخصوصة تتسم بالشِعرية والتمثيل والرمزية والمجاز
وتنطوي عادة على التناقض: والرمز كما لا يخفى، يستر من المعاني قدر ما
يظهر، فهو ظهور وخفاء معاً وفي آن واحد.
بل المستفاد من دراسة التجربة الصوفية أنها عندما تبلغ ذروة عنفوانها،
تتبدى في صيغة متناقضة وعبارات مبهمة غامضة، مما اصطلحوا عليها بالشطح
وقد لا تستوعب حتى هذه الشطحات المراد، فلا يبقى أمام الصوفي إلا الركون
إلى "الصمت" بحيث إذا أراد النطق بما وجد لم يقدر وهذا هو "الخرس" كما
سماه الشيخ محيي الدين بن عربي (1165-1240م) في سبق تاريخي فريد
للمعاصرين من الفلاسفة وعلماء النفس المعنيين بدراسة الظاهرة الصوفية،
أمثال وليم جيمس (1842-1910م) في كتابهThe Varieties of Religious
Experience, ولوفيج فتجنشتاين (1889-1901م) في كتابه: المقالات tractatus
فقد جعل الأول -كما سيمر بنا- الاستعصاء على التعبير العلامة الأولى
المميزة للتجربة الصوفية، وأكد الثاني بأن ما هو "ثمرة للتجربة الصوفية
لا يمكن التعبير عنها" وسمى قبلهما رويزيك (ت/1381م) هذه الحالة "بالسكوت
المعتم."
وقد أشار شيوخ الصوفية في الإسلام إلى هذه الصعوبة في التعبير عن فحوى
الخبرة الصوفية وترددت باستمرار في مدوناتهم الإشارة إلى تلك الصعوبة
وأسبابها، فيقول أبو بكر محمد الكلابابذي (ت 390ﻫ/1000م): "مشاهدات
القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق، بل تعلم
بالمنازلات والمواجيد، ولا يعرفها إلا من كابد تلك الأحوال وحل تلك
المقامات." ويقول الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري (ت 465ﻫ/
1076م): "وهذه الطائفة يستعملون ألفاظاً بينهم قصدوا بها الكشف عن
معانيهم لأنفسهم والإجمالَ والسترَ على من باينهم في طريقتهم، لتكون
معاني ألفاظهم مُستَبْهمة على الأجانب، غيرة منهم على أسرارهم من أن تشيع
في غير أهلها." ويؤكد حجة الإسلام الغزالي هذه التقريرات في مدوناته
الصوفية عامة فيقول: "أعلم أن بعضاً من مسائلك التي سألتني عنها لا
يستقيم جوابها بالكتابة والقول، إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي، وإلا
فعلمها من المستحيلات، لأنها ذوقية وكل ما يكون ذوقياً لا يستقيم وصفه
بالقول كحلاوة الحلو ومرارة المر لا تعرف إلا بالذوق، فمن ذاق عرف!" وقد
حاول شيخ الصوفية أبو عمر السهروردي البكري (ت 632ﻫ/1234م) بيان وجه
الصعوبة في صياغة تعريف جامع وشامل للتجربة يستغرق كامل مفرداتها
ومضامينها، فقال في مدونته المعتمدة لدى عامة الصوفية: "في حين أمكن
تعريف علوم الفقهاء وحدها بالعبارة، لأنها علوم ورسوم تنال بالتعلم
والاكتساب، فإن علم التصوف ليس مما يمكن حده لأنه إشارات وبواد وعطايا
وهبات يغرفه أهلها من بحر العطاء الذي لا ينتهي مدده."
وقد تناول العلامة محمد إقبال الظاهرة الصوفية من وجهة نظر نقدية تحليلية
فذة، وانتهى إلى تقرير وجهة نظر الصوفية في هذا الخصوص، وقال ملخصاً وجه
الصعوبة في وضع تعريف عام وجامع لمصطلح التصوف والخبرة الصوفية، فقال:
"وبما أن المعرفة الصوفية معرفة مباشرة، فمن الراجح أنه لا يمكن الاطلاع
عليها، أي نقلها لإنسان آخر، ذلك أن الحالات الصوفية أشبه بالشعور منها
بالتعقل، إن محتويات الشعور الديني لا يمكن الاطلاع عليها، أي نقلها
للآخرين"، وقوله هذا شبيه بما قرره العلامة نيكلسون في كتابيه "صوفية
الإسلام" (ص 29) و"التصوف الإسلامي وتاريخه" (1947، ص97) حيث يقول: "إن
صوفية الإسلام –وشأنهم في ذلك شأن الصوفية جميعاً- يدركون أن الغاية التي
يتوجهون إلى تحصيلها من الطريق الصوفي ليست مما يقع في نطاق العلم أو
الوصف بالألفاظ، فليس لغير من يتذوق أحوال الصوفية أن يفهم هذه الأحوال،
وليس لهم أنفسهم إلا أن يتذوقوها، أما الوصف بالألفاظ فيقصر دون التعبير
عن هدف الصوفي، وإن كان لا يقصر عن وصف طريق السلوك إلى هذا الهدف من
أوله إلى آخره."
وقد لخص فأوفى بالمراد الفيلسوف الديني المعروف شلاير ماخر (1768-1834)
هذه الوجوه التي ذكرناها في صعوبة وضع تعريف جامع ومانع للخبرة الصوفية،
وأنها خبرة مخصوصة مباشرة وليست بحاجة إلى شهادة منتحلة لصدقها من
خارجها، فقال: "إن الخبرة الصوفية، خبرة معيشة، إنها تجاوز إمكانات القول
والكتابة والادراك الفكري، إنها مما لا يمكن فهمه إلا من خلال المعاناة
الذاتية، ومع ذلك فهي لحظة تتسم بالعالمية في الخبرة الإنسانية العامة،
متجذرة باستقلال في لحظة إشراق ذاتي، هي وليدة ذاتها، ليست بحاجة إلى
شهادة تصديق أو تبرير منتحل، من خارجها."
ثالثاً: ثم إن التجربة الصوفية، ليست بتجربة متشكِّلة وهوية ثابتة وقارة،
بل هي بطبيعتها تجربة نامية ومتطورة تبعاً لسلم المعراج الروحي الذي
يكابده الصوفي، ومع هذا التطور الصاعد في مقامات روحية متتابعة والتي
تصحبها حالات نفسية هي الأخرى متطورة تتكثف التجربة وتتعمق فتتباين
صورها، وقد أشار العلامة ابن خلدون إلى هذه الصعوبة المضافة قائلاً: "وقد
حاول كثير من القوم العبارة عن معنى التصوف بلفظ جامع، يعطي شرح معناه،
فلم يف بذلك قول من أقوالهم، فمنهم من عبر بأحوال البداية، ومنهم من عبر
بأحوال النهاية، ومنهم من عبر بعلامة، ومنهم من عبر بأصوله ومعانيه،
ومنهم من جعل ذلك الأصل والمبنى واحداً، وأمثال هذه العبارات كثير وكل
واحد يعبر عما وجد بحسب مقامه، والحق فإن التصوف لا ينطبق عليه حد واحد"،
وقال مؤكداً هذا في "المقدمة" (ص 373، الفصل الخاص بالتصوف): "ليس
البرهان والدليل ينفع في هذا الطريق، رداً أو قبولاً، إذ هي من قبيل
الوجدانيات." وقد سبق الإمام الغزالي غيره في الإشارة إلى الطبيعة
النامية والمتطورة للتجربة الصوفية وأثرها في استحالة وضع حد جامع مانع
لها فيقول: وهؤلاء أقوالهم تعرب عن أحوالهم، فلذلك تختلف أجوبتهم ولا
تتفق، لأنهم لا يتكلمون إلا عن حالتهم الراهنة الغالبة عليهم"، ويشير في
مناسبة أخرى قائلاً: "وكلام الصوفية أبداً يكون قاصراً، فإن عادة كل واحد
منهم أن يخبر عن حال نفسه"، وإلى هذا المعنى ذهب العلامة نيكلسون حيث
يقول: "إن التعاريف المتعددة للصوفية التي وردت في الكتب العربية
والفارسية، وإن كانت ذات فائدة تاريخية (لأنها تكشف عن التطور التاريخي
للمصطلح)، فإن أهميتها الرئيسية هي في أنها تعرض التجربة الصوفية على
أنها غير ممكن تحديدها، لأنهم –أي الصوفية- يحاولون دائماً التعبير عما
أحسته نفوسهم، ولن يكون تعريف مفهوم يضم كل خفية من الشعور الديني
المستكن لكل فرد. (1937، ص 97)
رابعاً: هذا كله إن نحن وقفنا عند حدود دراسة التجربة الصوفية في دائرة
دينية بعينها وأديان مرتكزها النبوة والوحي الإلهي (اليهودية والمسيحية
الإسلام) أو أديان غير مؤسسة على نبوة ووحي كالهندوسية بفروعها والبوذية
بمذاهبها وهي أديان تتفاوت بين التوحيد والتعددية الوثنية ومرتكزها
الجوهري القول بوحدة الوجود، مادية كانت أم روحية. أما إذا نظرنا وحللنا
الظاهرة الصوفية بوصفها ظاهرة تعم الأديان جميعاً المنزلة والوضعية، فثمة
صعوبة أخرى مضافة تتبدى للباحث في خصائصها تتمثل في الأنماط المتعددة
والصور المتباينة لما نصطلح عليه عموماً بالتجربة الصوفية التي تتمظهر
عادة وتتجسد في أنماط متنوعة وصيغ متباينة مما سنأتي على ذكرها، فالتجربة
والخبرة الصوفية عامة "تتخذ صوراً وتعبر عن نفسها في طرائق متعددة."
ذلك أن المتصوف يحاول عادة وفي الغالب من الأحيان صياغة تجربته على ورفق
الدائرة الحضارية والثقافية ومحددات الإطار العقدي العام للدين الذي
ينتمي إليه ويؤمن بأصوله الإيمانية، فيجهد من أجل ربط تجربته الروحية
بهما، أعني تفسير محتويات الخبرة وفقاً لتعاليمها، طلباً للشرعية الدينية
والثقافية لمشورعه الذاتي وتجربته الفردية التي هي من قبيل الوجدانيات
كما أسلفنا، وعن هذا المفهوم فإن مؤرخ الحركة الصوفية لا بد له أن ينتبه
إلى مرحلتين متتابعتين للحركة الصوفية في الأديان، بخاصة الأديان
السماوية، مرحلة طوفان الحركة الصوفية على هوامش الدين الخارجية، كظاهرة
هامشية مدانة، مستنكرة ومرفوضة، ومرحلة محوالة الحركة التوافق مع الأصول
الكبرى للدين الذي نبتت في إطاره كي تتحول الظاهرة عبر عمليات إعادة بناء
حسامة من مشروع متهم بالإدانة والاستنكار إلى الإقرار بشرعيتها،
والاعتراف بها يقول هانز كونج في هذا الصدد: "ترجمة ص 7."
وهذه المحاولة للتوفاق مع الأصول العقائدية للدين المنزل تتخذ عادة صورة
"الجمع بين الحقيقة والشريعة" كما جاء على لسان صوفية الإسلام، وصوفية
الأديان السماوية الأخرى من اليهودية. وهذا التناقض بين الطورين للحركة
الصوفية، طور الإدانة والاتهام، أولاً، ثم الاعتراف الشرعي بها، هو ما
يفسر ظاهرة العداوة المستحكمة، التي اتسمت بالضراوة والشدة تارة،
والسماحة والقبول تارة أخرى، بين الصوفية في الأديان السماوية عامة وبين
الفقهاء والمتكلمين، فطالت الصوفية – في صورة أو أخرى- إدانة الفقهاء
والمتكلمين لهم وصدور فتاوى دينية بالحرم ضدهم حصل هذا في اليهودية ضد
صوفيتها المعروفة بحركة الحاسيديم-التقاة حيث حكم الراباي أليجا بن سلمون
بن زلمان (Elija Gaon of Vilna) (1720-1797) المتنفذ المتربع على عرش
اليهودية التلمودية المتوارثة إبان القرن الثامن عشر- على طائفة التقاة
الحاسيديم من الأشكناز بالهرطقة والزندقة وادعاء المخاريق وضربهم بالحرم
وحكم عليهم بالطرد. وهكذا أيضاً كان الأمر في المسيحية الأولى، حيث اتهمت
حركة الرهبنة بالزيغ والابتداع، واستمر الأمر إلى أن تحولت الرهبنة إلى
مؤسسة بابوية تخضع لسلطانها وتذغن لأوامر العقيدة الرسمية للكنيسة، ومع
ذلك فقد تواصلت أحكام الإدانة الكنيسة ضد شخصيات وجماعات صوفية اتهمت
بالمروق عن العقيدة الرسمية للكنيسة، أمثال القديس أوريجون (ت 251م)
ويوهانس مايستر ايكهار J.M. Echart (1260-1327) الذي اتهمته السلطات
الكنسية بالإلحاد والقول بوحدة الوجود، وظهرت جماعات من الغلاة في القرن
الرابع عشر تولدت عن تعاليم صوفي هرطقي من أتباعه هو Jan van Broeck
(1293-1381) اتهمت بدورها بالنزعات العدمية واستحلال الحرمات وتجاوز
المبادئ الأخلاقية، عرفوا بأسماء مختلفة مثل: أصدقاء الله Friends of God
وإخوان الحياة المشاة bretheren of common life وإخوان الروح الحرة
bretheren of the free spirit وطائفة الرانترز Ranters من البروتستانت في
انجلترا، ممن عرفوا بنزعاتهم العدمية الفاضحة وإسقاط الفضائل الخلقية
المتوارثة من الاعتبار. وأما قصة غلاة المتصوفة وزنادقة الزهاد في الفكر
الصوفي الإسلامي فطويلة حاولنا أن نرصد مفرداتها في كتابنا نشأة الفلسفة
الصوفية وتطورها. وجملة تلك النزعات الباطنية الهدامة يصطلح عليها في
دائرة التصوفات العالمية بالاستخفاف بالأحكام الشرعية demonization of
the sacrament أو اسقاط التكاليف الشرعية anti monialis.

وجملة هذه الانحرافات في العقيدة وقواعد السلوك قد لخصها الإمام محمد بن
علي الشوكاني في كتابه الموسوم "الصوارم الحداد القاطعة لأرباب
الاتحاد" (ص 61-75) مما سنشير إلى طرف منها في الصفحات التالية، وأجملها
في العصر الحديث الشيخ محمد رشيد رضا في قول جامع مختصر ودقيق، فقال:
"والذي أستنبطه من طول البحث والمقارنة، أن أكثر الذين خالفوا نصوص
الشريعة بأقوالهم وكتبهم من لابسي التصوف هم باطنية في الحقيقة ثم قلدهم
كثير من المسلمين وهم لا يعرفون أصلها"(تاريخ الإمام، ج1، ص 115)، وقد
سبق المتأخرين إلى هذا الترابط في الأفكار بين المتصوفة الغلاة وفرق
الباطنية العلامة ابن خلدون فقال: "ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة
المتكلمين في الكشف... كان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من
الرافضة…فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت
عقائدهم. (المقدمة، فصل التصوف، ص 473).

ونحن نؤكد أن الدرس المستفاد من الدراسات المقارنة للتصوفات العالمية هو
أن التجربة الصوفية، وهي تجربة فردانية عاطفية خالصة، كانت وفي كل
الأديان والثقافات ساحة مشاعة ومفتوحة للفوضى الأخلاقية ما لم تلتزم
بأدبي العقل والدين معاً؛ هذا ما قرره وأكده الإمام الغزالي أعظم شخصية
صوفية حددت للوعي الصوفي إطاره الشرعي الموزون بالدين والعقل الذي هي كما
أفاد "ميزان الله في الأرض" والذي طبع بمؤلفاته في الزهد والتصوف الفكر
الديني في الإسلام، فهي هذه المؤلفات التي طبع بها عصره، كتبها الغزالي
لأتباعه وأثر بها بعد موته على تاريخ الفكر الإسلام كله. (لويس غارديه
وجورج قنواتي) (1979، ج2، ص 133) وقارن الغزالي، ميزان العمل، (القاهرة،
1342ﻫ، 1923).

وجوه اشتقاق مصطلح التصوف:
ارجع الباحثون في تاريخ التصوف المقارن جذر المصطلح في اللغات الأوربية
mysticism إلى أنه مشتق من الكلمة اليونانية muein التي تفيد الصمت وكم
الأفواه والكلمة في أصلها اليوناني كانت وصفاً للمراسيم السرية الخاصة
والإنخراط في صفوف الأديان الظلامية السرية والتي كانت تفرض على المنضَمّ
إليها الالتزام بالسرية التامة والامتناع عن إفشاء أسرار الجماعة، ضناً
بها على الأغيار ومخافة من عداوة خصومهم لهم.

وقد سرت هذه النزعة السرية وكتمان التعاليم إلى الجماعات الغنوصية عامة
في الفكر الديني، ففي اليهودية عرف عن الأسينين عامة والغيورين منهم خاصة
المعروفين بالمغارية المعروفين (الفرق والمقالات الإسلامية-الشهرستاني)
لسكناهم في الكهوف والمغارات، قسم العهد الذي يؤديه من شاء الانضمام إلى
جماعتهم، كذلك سرت مراسيم الكتمان والسرية وحفظ العهد والامتناع عن إفشاء
السر إلى الجماعات الباطنية في الإسلام، كالإسماعيلية والقرامطة
والنصيرية، والطوائف الصوفية التي جمعت بين الغلو الشيعي والغلو الصوفي
معاً، مثل القلندرية والبكتاشية الذين جمعوا تعاليمهم السرية في دساتير
عمل صارت تعرف عندهم بآيين نامة.

وتحت تأثيرات الفلسفة الأفلاطونية المحدثة وشيخها أفلوطين (ت 270م) مؤلف
التساعيات المشهورة The Enneads فإن مدلول الصمت وكم الأفواه أصابه تحول
وتغير في المعنى والدلالة، فصار يفيد التأمل النظري. وقد استبعد الباحثون
هذا الوجه من الاشتقاق، أي رد المصطلح إلى التأمل النظري المجرد، لأنه
يطلق أيضاً ويراد به المعرفة البحثية التأملية المستفادة من الاستدلال
العقلي المنطقي.

ومع هذه التحفظات والواردة، فإنا نعلم على وجه اليقين بأن المصطلح ظل
وعلى الدوام وفي مختلف التصوفات يتضمن معنى الصمت والخرس وكَلَلْ اللسان
مقروناً بالامتناع عن إفشاء الأسرار ووجوب الكتمان عليها، خاصة عند
الجماعات التي لفقت مذاهب صوفية ذات نزعات باطنية في اليهودية والمسيحية
والإسلام. وهكذا كان الأمر أيضاً في البوذية والهندوسية، إذ دل المصطلح
على الصمت المطلق في البوذية وفي الهندوسية وفي التاوية الصينية حتى ذهب
وولتر رالف أنجي Walter Ralf Ange المؤرخ المتخصص في الآداب الصوفية إلى
أن الصمت علامة مشتركة وعامة للتجربة الصوفية وذلك في كتابه عن التصوف
المسيحي christian mysticism الذي يعد مرجعاً موثوقاً في دراسة التصوف
المقارن.

وذهبت طائفة ثانية من مؤرخي التصوف المقارن إلى ربط المصطلح بما عرف في
التراث المسيحي مصطلح mustikos الذي دل على المعاني الخفية المستورة وراء
ظواهر النصوص الكتابية، بزعم أن لكل النصوص معاني ظاهرة واضحة ومباشرة
وأخرى خفية مستورة وأن على الصوفي ألا يقنع بالمعاني الظاهرة بل يجاوزها
إلى التماس المعاني المستورة للنص، فهي المراد على الحقيقة والمعبرة عن
النص الكتابي. وسوف نلاحظ أن هذا الزعم هو حال صوفية الإسلام أيضاً.

ومعروف أن هذا المنهج الذي يجاوز الدلالة الظاهرية للنصوص الكتابية
(التوراة) يرتبط تاريخياً باسم فايلو الإسكندراني فيلون Philo الفيلسوف
اليهودي المعاصر للسيد المسيح (15 ق م –40م) (انظر (Wilfon H.A.(1982),
pp 7-155. وعنه أخذه أكابر آباء الكنيسة اللاتين أمثال كليمنت
الاسكندراني (ت 215م)، وتلميذه الروحي من بعده القديس أوريجون (ت 251م)
الذي يعد المحقق والمبدع الأول في المسيحية للتفسيرات الإشارية التي
اتخذت عنده صورة ثلاثية، المعنى الحسي الظاهر، وهو من الكتاب جسده، وربما
ندر وجوده، والمعنى النفسي أو الأخلاقي، وهو من الكتاب نفسه، ثم المعنى
النفحاني أو الروحاني، وهو من الكتاب روحه. ثم اتخذ هذا التأويل صورة
رباعية يتدرج من المعنى الحرفي إلى المعنى الأخلاقي إلى المعنى الرمزي
وأخيراً الدلالة الصوفية. وهذا التأويل الرباعي تبناه متصوفة اليهود
المنتمين إلى حركة البالاة والمؤلف من التفسير الحرفي ثم الرمزي فالمجازي
فالتعبير الذوقي الباطني للنص.

وفي اجتهادي المتواضع -الذي أرجو أن يكون صواباً- أن السبب الذي ساق إلى
نشأة دعوة ثنائية: الظاهر والإشاري في الأديان السماوية وما دار حولها من
خصومات طويلة وعنيفة بين الفقهاء والمتكلمين من جهة والصوفية من جهة أخرى
راجع إلى أن الوحي الإلهي في نظر المؤمنين بمرجعيته المطلقة النهائية
يمكن فهمه من زاويتين متضافرتين ومتضايفتين هما: باعتبار مصدره الغيبي
الإلهي المفارق، فهو بهذه المثابة يسمو ضرورة على دلالات اللغة البشرية
المعتادة، فلن يكون بوسعها استيعابه، وثانيهما: أن الوحي الإلهي رسالة
وشرع وأحكام مخاطب بها المكلفون، من جميع المتدينين بهذا الوحي على تفاوت
أفهامهم، ومن هذا الاعتبار لا بد أن يأتي الوحي أيضاً في عبارات بيِّنة
وواضحة ومباشرة تتسع لها لغة البشر المعتادة عندهم، ولهذا وصف الحق كتابه
المنزل تارة بالحكمة البالغة، وأخرى بأنه وحي بلسان عربي مبين، وأنه
مراعاة لحال المرسل إليهم ما بعث رسولاً إلا بلسان قومه، فلا بد والحالة
هذه أن يكون المعنى الإشاري امتداداً طبيعياً للمعنى اللغوي، لا راداً له
أو مجاوزاً لدلالته المعتبرة في أصل اللغة فيكون آنئذ بمثابة: "دقائق
تتكشف على أرباب السلوك"، كما أشار العلامة الألوسي في تفسيره (روح
المعاني –1/7)، وإلا أصبح المعنى الإشاري تحريفاً للكلم عن مواضعه،
وخارجاً عن حدود الكلمة عند أهل اللغة وعاداتهم في استعمالاتهم، فلا يكون
امتداداً للمعنى اللغوي، بل رداً له وتجوزاً لدلالته. وهذا شأن الباطنية
الملاحدة ودعواهم إن لكل ظاهر باطناً ينسخه ويتجاوزه، وكان غرضهم الأقصى
من هذه الدعوة الملحدة –كما أكد الإمام الغزالي: "إبطال الشرائع، فإنهم
إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظاهر، قدروا على الحكم بدعوى الباطن ما
يوجب الانسلاخ عن الدين، وإذا سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة فلا يبقى
للشرع عصام يرجع إليه ويعود عليه."

ومع كل هذه الدلائل التي تربط المصطلح بالتفسيرات الإشارية، فإن عدداً من
الباحثين ردَّ هذا الترابط لأن التجربة الصوفية في جوهرها –ومهما تباينت
أنماطها وأشكالها- هي في اجتهادهم محاولة للاتصال بالحقيقة الكلية
المطلقة الواحدة.

ولا أرى لاعتراضهم مبرراً ووجاهة، إذ الثابت أن صوفية الأديان جميعاً قد
جهدوا من أجل تجاوز المعنى الظاهري والحرفي لنصوص الوحي الإلهي إلى
المعاني الخفية والرمزية التي تعتبر الظواهر آنئذ مجرد إشارات للمعاني
المستورة، مع الالتزام –عند الصوفية الملتزمين بأدب الدين والشرع-
بالمعنى الظاهري ووجوب الوقوف عند دلالاته التكليفية، والغالب عند
المتصوفة في الأديان التمثيل لما يقصدون بجبل الثلج المغمور في مياه
المحيطات، عشره فقط ظاهر للعيان ودال على تسعة الأعشار المغمورة منه في
الماء والتي لا ترى بالعين.

أما ما يتعلق بوجوه إشتقاق مصطلح التصوف في الإسلام، فقد تعددت التفسيرات
لحدود بالغة، كما هو معروف للدارسين مع انعقاد اجماع الرأي على أن الاسم:
مستحدث لم يكن معروفاً –كما أشار القشيري في رسالته -قبل المائتين
للهجرة- فلا عبرة إذاً بمحاولات قدماء الصوفية ومن سلك سبيلهم من
المحدثين ربط المصطلح بالصوف الخشن وبالرسول الكريم ، ومسلك صحابته
الكرام ، فتلك في نظري محاولات تبريرية مصطنعة ومنتحلة، قصدوا بها التماس
الشرعية الدينية وشهادة التصديق التاريخية للحركة الصوفية بعد نشأتها
لأسباب كثيرة، لا مجال للخوض فيها. وتلك الوجوه من الاشتقاق قد أتت على
تعدادها وذكرتها المدونات الصوفية التقليدية، كما هو معروف. وللمؤرخ
الديني أن يأخذ في اعتباره -في هذا الخصوص- قاعدة محكمة مستقراة من الدرس
التاريخي مفادها: أن جميع الاتجاهات في الفكر الديني العام تحاول استجداء
الشرعية التاريخية والدينية على اجتهاداتها بالتوسل بأمرين متضايفين هما:
التماس القدمية التاريخية لتوجهاتها ثم ربطها بالسلف الأول من أتباع
الدين وذلك أن إحدى القواعد العامة المتحكمة في بنى الفكر الديني أن الحق
لا بد أن يكون قديماً، وإذا كان كذلك لا بد وأنه قد نقل إلى الخلف من
السلف بالتواتر.

الأنماط والنماذج العامة للخبرة الصوفية:

أحصى مؤرخة التصوفات العالمية وعلماء النفس والاجتماع المحدثين الأنماط
التالية التي تعد وتعتبر تجربة صوفية:

أولاً: الوعي المنفتح على الخارج: وفيه تتحد الذات الإنسانية مع العالم
الطبيعي الخارجي، ويصطلح علي تعريفه بالنمط المنفتح على الخارج أو التصوف
المكتسب وأحياناً سمي بالتصوف الطبيعي أو الوعي الجواني المتأخذ بالطبيعة
وجمالها. ويغلب على هذا النمط ألا يكون ذا مضمون ديني، وفيه تتأمل الذات
الإنسانية الطبيعة ومظاهرها الجمالية المشخصة والمتعينة في الخارج،
وتتصورها على ما فيها من تنوع وتضاد: وحدة مؤتلفة نابضة بروحانية كامنة
وخفية تسرى فيها، وروحانية تجاوز التنوع في الأفراد المشخصة إلى معنى
الوحدة والجمال المطلق الخفي وراءها.

وعنده تسقط التناقضات والتمايز والتنوع بين المظاهر وأفراد الطبيعة، بحيث
تبدو جميعاً وكأنها ثمرة لشجرة واحدة، وتجليات لروح واحدة، وهذا النمط من
الوعي الصوفي بالتأحد مع الطبيعة الخارجية نلتقيه عند أتباع المذاهب
الرومانسية من الشعراء والأدباء والفنانين (لخصه وليم وردوورث William
Wordworth 1770-1850) في ديوانه التمهيد Prelude وعبر عنه الصوفي
الكاثوليكي الدومينيكاني يوهانس مايستر إيكهارت J.M. Echart (1260-1327)
في مقولته التي سببت إدانته والحكم عليه بالحرمان والطرد من قبل السلطات
الكنسية: "كل شفرة عشب وقطعة خشب وحجر هي تجليات لوحدة كونية واحدة."
وأورد مقولته المبشرة بوحدة وجود طبيعية من بعده في القرن السادس عشر
المتصوف البروتستانتي يعقوب بيمه Jacob Boehme (ت 1624) الذي صرح بلغة
وحدة وجود مادية خالصة أن الله كائن في الطبيعة.

وهكذا الحال مع النفس الإنسانية عند هذه الطائفة القائلين بهذا النمط من
الوعي الصوفي، ففيها نزوع فطري موروث للتأحد مع الكل الكوني وأن هذا
التأحد هو مصدر الحيوية في الإنسان وباعثها.

ثانياً: النمط المنكفيء على الذات

وهذا النمط من الوعي الصوفي، وهو الأكثر تطوراً من سابقه، بل أنه المراد
والمقصود عموماً من مصطلح التجربة الصوفية، وفيه يفقد الصوفي وعيه، عبر
عملية تطهرية شاقة فيها مكابدة ومعاناة معيشة هي معراج روحي في درجات
متصاعدة، عُرفت عند آباء الكنيسة وعند صوفية الحاسيديم اليهود وعند صوفية
الإسلام للفناء. وينتهي هذا المعراج إلى غياب الوعي بالذات والأغيار بل
وزوال وفناء الوعي بكل معطيات الحس والفكر أو الاستجابة لدواعي الرغبات
والشهوات، بالتأحد بالكلية في الحق الواحد المطلق في لغة الفلاسفة من
الصوفية أو بالخالق في لغة متصوفة الأديان السماوية، فتختفي كل تفرقة بين
الذات وموضوع إدراكها، وهو المقام الذي أسماه الإمام الغزالي وصوفية
الإسلام بالاستغراق بالكلية في الله وأسماه الإمام ابن تيمية بالفناء
الشهودي تمييزاً له عن الفناء الوجودي وعرف في التصوفات الهندوسية
والبوذية بالاتحاد بالنفس الكلية عبر معراج روحي تطهري ذي مقامات ثمانية
هي (الطريق النبيل ذو الثماني شعب): سلامة الرأي، سلامة النية، سلامة
القول، سلامة الفعل، سلامة النفس، سلامة السعي، سلامة الوعي، وسلامية
التركيز. ثم التحقق بالطمأنينة الجوانية المطلقة المقرونة بالبصيرة
النافذة التي تحرر الهندوسي من الصفات السلبية مثل: الكبر والعجب،
والجهالة والتغلب، على عشرة من الشرور التي تلازم الإنسان وهي: أوهام
النفس والشك وبذل الجهد من أجل القوت والملذات والشهوات الجسدية والرغبة
في إدامة الحياة السماوية والعجب والكبر وادعاء التقوى والاستقامة والجهل
وحب الحياة الأرضية والحقد وكراهية الآخرين. وهو ما اصطلح عليه صوفية
الإسلام بالفناء الأخلاقي أي فناء الأخلاق المذمومة ببقاء الأخلاق
الفاضلة والمحمودة، ومن هنا جاء تعريف بعضهم للتصوف بأنه "تخلية وحلية"،
أو كما عرفه أبو محمد الجريري (ت 331ﻫ) حيث قال: "هو الدخول في كل خُلُق
سَني، والخروج من كل خلق دني."

وفي هذا النمط من اللاوعي، الصوفي المفارق، يتحقق الصوفي بنوع معرفة،
ليست كَسْبِيَّة تنال بحيلة الدليل وإعمال الفكر بل هي معرفة تنفث في روع
المتصوف، إنها معرفة –في زعمهم- منح وعطايا يغرفها الصوفي الواصل من بحر
العطاء الرباني اللامتناهي (وهي المعرفة اللدنية والحكمة الخالدة) تبدأ
في صورة لوامح ولوامع وبوراق عابرة ولحظية ثم تستقر وتتمكن في صيغة معرفة
حقة تتسم بأنها يقينية وتتسم باللحظية والمباشرة، من غير حجاب وواسطة من
حد أو عقل وبالصدق الضروري.

ومع اتساع دائرة الدراسات النفسية والاجتماعية فقد أضيف –اعتباطاً- نمطان
آخران من الوعي الصوفي إلى النوعين السابقين، وهكذا نلتقي في الدراسات
المعاصرة بالأنماط الأربعة التالية، مما يعتبر في نظر الباحثين في
التجربة الصوفية وعياً صوفياً:

1. التصوف المفارق: فوق الطبيعي وهو ما أسميناه بالنمط المنكفيء على
الذات، وهو المراد أصالة.

2. التصوف الطبيعي: وهو النوع الذي اصطلحنا عليه بالنمط المنفتح على
الطبيعة، وإن الله منبث في العالم الطبيعي، فالله هو الطبيعة والطبيعة
هي الله .

3. نمط الوعي الصوفي المتمثل في حالات فقدان الوعي المستثار بالعقاقير
والمخدرات وتناول حبوب الهلوسة، وهذا النمط مما يصطلح عليه علماء النفس
والاجتماع بالحالات الصوفية المستثارة بالمواد الكيماوية.

4. الوعي الصوفي الناتج عن الإصابة بأمراض عصابية.

ورغم اعتراض العديد من المهتمين بدراسة التجربة الصوفية في الأديان على
اعتبار النمطين الأخيرين حالات صوفية ووصموهما بالتصوف الممسوخ والكاذب
ومبررين ردهم بأن الأول مصدره كيماوي وأن الثاني يمثل حالات من الشذوذ
النفسي ومظاهر لأمراض عصابية، فإن المهتمين بالدراسات النفسية
والاجتماعية يرون أن الباحث في مثل تلك الحالات النفسية والعصابية ليس من
شأنه الاهتمام بالأسباب أو العوامل المنشئة لها، وإنما ينحصر همه وقصده
في دراسة المظاهر الخارجية البادية على الأفراد، مع توكيدهم بأن تناول
العقاقير المخدرة إن تحول إلى الإدمان المزمن، فإنه لا يعين أبداً على
تطور وسمو جواني وأخلاقي، بل العكس تماماً، يسوق إلى تحطيم الشخصية
الإنسانية وعوقها نفسياً واجتماعياً وأخلاقياً، وأما حالات الهستيريا،
والكبت المزمن والانهيار العصبي، وسواها من الأمراض النفسية الأخرى، فهي
حالات استثنائية وغير سوية في نظر المنكرين لاعتبارها حالات من الوعي
الصوفي، فلا يجوز ولا يصح -في نظرهم- إدراجها ضمن أنماط الوعي الصوفي،
ومن هنا اصطلحوا عليها بالتصوف المنتحل والفاسد الذي لا اعتبار له.

على أننا رغم حملات الإنكار تلك، سنلتقي في دراستنا بأنماط من الوعي
الصوفي، حتى في دائرة الفكر الصوفي في الإسلام، مشخصة في طوائف من الغلاة
الذين أسماهم الصوفية الملتزمين بأدبي الشرع والعقل بالمستصوفة، مثل
القلندرية والقزلباشية والعلي إلهية والبكتاشية والنوربخشية والنعمة
الإلهية والتختجية.

ممن أباحوا شرب الخمر في حلقات السماع وسموها مدامة حيدر، وعرف عنهم
تناول المخدرات كالحشيشة قبل إقامة مجالس العربد –طقسية- كذلك نقرأ عن
بعض المظاهر النفسية والعصابية المصاحبة للجذبة الصوفية مثل: الجنون
المؤقت وحالات الإغماء والاستغراق في أحلام اليقظة-الفنطاسيات، وادعاء
الخوارق والشعبذة.

الخصائص العامة المشتركة للتجربة الصوفية:

انتهى عالم النفس الأمريكي المعروف وليم جيمس في دراسته الموسومة
ب"تنوعات الخبرة الدينية" وفي الفصل الذي خصصه للحديث عن التجربة الصوفية
الذي استغرق الصفحات (330-417) وأيده فيما ذكر من خصائص مشتركة تعم
التجربة الصوفية، على اختلاف دائرتها الدينية والحضارية آخرون من مؤرخة
التصوف المقارن إلى أن أهم الخصائص المشتركة للخبرة الصوفية أربعة هي:

1. الاستعصاء على التعبير: بمعنى أن محتوى الخبرة الصوفية ومضمونها -كما
أسلفنا في المقدمة- ومن حيث أنها تجربة ذاتية وفردانية خالصة، وتمثل حالة
من الوعي المفارق مما لا يمكن التعبير عنها أو وصفها بالكلام والخطاب،
ولهذا أيضاً لا يمكن نقلها إلى الآخرين وهذه الخاصية قدر مشترك في
التجربة الصوفية على تنوع دائرتها الدينية، وهي الخاصية التي أسماها
الإمام بكلل اللسان وابن عربي بالخرس واصطلح عليها صوفية الهندوسية
بالصمت المطلق.

إن الصمت ظاهرة مستحكمة في التجربة الصوفية لأن الذي يعانيها، يبدأ
المحاولة عادة بغلق منافذ الحواس كلياً (في الهندوسية) وذلك استباقاً
وتمهيداً لانفتاح البصيرة الجوانية واستقبالاً للمعرفة النورانية التي
سرعان ما تنبثق من أعماق أغوار النفس التي وصلت في معراجها الروحي إلى
الحق (عند صوفية الإسلام) أو اتحدت بالنفس الكلية في التصوف الهندوسي.

وقد أشار المستشرق المعروف نيكلسون في دراساته المستفيضة عن التصوف
الإسلامي وتاريخه وشخصياته ونظرياته إلى هذا الأمر فقال: "إن صوفية
الإسلام شأنهم في ذلك شأن الصوفية جميعاً، يدركون أن الغاية التي يريدون
تحصيلها من الطريق الصوفي ليست مما يقع في نطاق العلم أو الوصف بالألفاظ،
فليس لغير من يتذوق أحوال الصوفية أن يفهم هذه الأحوال، وليس لهم أنفسهم
إلا أن يتذوقوها، أما الوصف بالألفاظ فيقصر دون التعبير عن هدف الصوفي،
وإن كان لا يقصر عن وصف طريق السلوك إلى هذا الهدف، من أوله إلى آخره."
ويؤيد وليم جيمس هذه المعاني قائلاً: "إن التجربة الصوفية تتحدى التعبير،
فليس في الإمكان التعبير عن مضمونها في كلمات، ومن ثم فإن كيفيتها لا بد
لمعرفتها من تذوقها مباشرة."

وهذا عين ما صرح به الصوفية الذي قال الإمام الغزالي في وصف تجربتهم
الجوانية: "من ذاق عرف" وعبر عنها في الإحياء (3/25) بقوله: "التصوف أمر
باطن لا يُطلع عليه."

2. النسقية الفكرية: من المفترض والأمر الطبيعي أن تتعارض معطيات الخبرة
الصوفية وتجافي معنى النسقية الفكرية من حيث إنها وعلى تنوع أنماطها
وصورها، مواجيد وجدانية-عاطفية، ولا تقع في نطاق العلم، فهي ليست علماً،
لأن العلم منهجه الاستدلال والخبرة الحسية ولذا أمكن التحقق من صدق
قضاياه بالرجوع إلى الواقع وشهادته.

ومع هذا التناقض الصارخ بين الخبرة الصوفية والمستفاد من العلم، فإن
التجربة الصوفية في نظر الخائضين لمعتركها، تمد صاحبها بنوع من النسقية
الفكرية، بل هي المعرفة اليقينية حقاً. ولغياب شهادة التصديق على هذه
المعرفة النورانية، لم يكن أمام صوفية الأديان إلى التذرع بالشهادة
العالمية، على إمكانها وتحصيلها، فالصوفية على ما بينهم من تباين الأصقاع
واختلاف الأزمان والدوائر الحضارية التي ينتمون إليها، فإنهم متفقون على
جوهر التجربة.

وقد ساق الإمام الغزالي رداً على منكري المعرفة التي طريقها الخبرة
الصوفية فقال في الإنكار عليهم: "فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة
المحررة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة فأما النظار وذوو الاعتبار فلم
ينكروا وجود هذا وإمكانه وإفضائه إلى هذا المقصد على الندور، فإنه أكثر
حالات الأنبياء والأولياء، ولكن استوعروا هذا الطريق واستبطأوا ثمرته
واستبعدوا استجماع شروطه، وزعموا أن محو العلائق إلى ذلك الحد كالمتعذر،
وإن حصل في حالة فثباته أبعد منه، إذ أدنى وسواس وخاطر يشوب القلب. ويقول
أيضاً: "ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه (المنكر له)
معنى الذوق لم يقدروا عليه." ويشير إلى وجه الاستحالة هذه العلامة ابن
خلدون فيقول: "ليس البرهان والدليل بنافع في هذا الطريق، رداً أو قبولاً،
إذ هي من قبيل الوحدانيات." ويقترب هنري بردسون من مقولة الغزالي في
الإنكار على منكري المعرفة الصوفية، بل يكاد يعبر عما قاله الغزالي
حرفياً.

3. اللحظية والتلقائية:

ويراد بها الغياب اللحظي المؤقت للوعي والإدراك، بالذات وبالاعتبار، في
مقام الشهود عند صوفية الإسلام أو الفناء عن السوى –كما عبر عنه الإمام
ابن تيمية، وعن كل ما يدرك بالحس، وعن كل ما يخطر في العقل، بل عن كل فعل
وشعور، وذلك بالاستغراق بالكلية في المنطق، أو كما عبر عنه صوفية
الإسلام، حصر القلب في الله وتركيز التأمل في صفاته. ومع هذه الحالة
بالغياب –غياب الوعي والشعور- فإن الصوفي يرقى إلى نوع وعي مفارق وغير
طبيعي أو اعتيادي يصطلحون عليه بالشعور المفارق المجاوز تنتفي فيه، ومعه،
كل معاني الثنائية والكثرة، ويكون حال الصوفي كحال "االطائر المتفرد إلى
الواحد المتفرد."

4. السلبية التامة:

ويقصد بها أن السالك للطريق الصوفي من حيث أنه معراج روحي صاعد، ورغم ما
يبذله من جهد ومعاناة أثناء سيره المحفوف بالعقبات، للارتقاء من مقام إلى
الذي يعلوه طلباً للتحقق بالمعرفة اليقينية الحقة، فإن تلك المعرفة ليست
ثمرة جهده ومعاناته، بل هي معرفة متلقاة، في صورة وهب إلهي ومنحة ربانية،
وليس للصوفي إلا أن يتحضر ذاته ويتهيأ لاستقبال الأنوار الإلهية في صورة
إلهام وكشف لدني، والانتقال من عالم الظلمات والجهل والرغبات والشهوات
والإرادات إلى عالم النور الساطع والمعرفة الحقة التي لا تحتاج إلى دليل
من خارجها. وعن هذا الفهم لمسعاهم فقد ميز الصوفية في الأديان عامة بين
العلم والمعرفة، أو بين علم البرهان والاستدلال والكشف الشهودي العياني،
أو بين علم نظري قوامه البحث والاستدلال، ومعرفة كشفية حضورية وصادقة
بالضرورة، لخصها بطريق المعارضة والمقابلة بين العلم والمعرفة الشيخ ابن
عربي قائلاً: "علوم الفكر بكل وجه ما تقوم مقام علوم الذكر والوحي والوهب
الإلهي، في الرفعة والمكانة …لأن الأفكار محل الغلط." وأكد هذا التقابل
بين العلم والمعرفة من بعده شيوخ الصوفية عامة، فقال أبو المواهب
الشعراني (ت 973ﻫ): "فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود، لا عن نظر وفكر
وتخمين" (رسالة ابن عربي إلى الفخر الرازي، 1/5)، ويزيد هذه التفرقة بين
العلم والمعرفة بياناً ابن عباد الرندي فيقول: "وإن شئت قلت هما ولايتان،
ولاية دليل وبرهان، وولاية شهود وعيان، فولاية الدليل والبرهان لأهل
الاعتبار، وولاية الشهود والعيان لأهل الاستبصار."

5. التأحد بين الذات والموضوع

استدرك وليم جيمس على ما ذكره في كتابه آنف الذكر تنوعات الخبرة الدينية،
فأشار إلى هذه الخاصية في مؤلفه الآخر الفلسفة البراغماتية pragmatism.

والحق فإن هذه الخاصية من أخص أوصاف التجربة الصوفية وفي مختلف التصوفات،
بل إن التصوف في جوهره ودلالته الأولى والدقيقة لا يعني إلا الاتحاد مع
الخالق عند صوفية الأديان السماوية أو مع النفس الكلية-الكونية في غيرها،
"فالتصوف وفي دلالته التاريخية الدقيقة لا يخرج عن كونه سلوك طريق
الاتحاد مع المطلق."

وعن هذا عرف التصوف عموماً بأنه: "طيران المتفرد بذاته إلى الواحد حتى
عرف أفلوطين الجذبة الصوفية بأنها فن الاتحاد مع الواحد الذي اصطلح عليه
القباليون اليهود بdevukut الذي يفيد معنى "الاتحاد بالله"، عن طريق محو
النوازع الدقيقة والاستغراق بالكلية في الذات الإلهية.

وحذراً من الوقوع في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود والإدانة بالكفر
والمروق عن الدين فإن الصوفية الملتزمين بأحكام الشريعة في الأديان
السماوية، حاولوا جهد المستطاع التفرقة بين الفناء الإرادي (الفناء عن
إرادة السِّوى) والفناء الشهودي (الفناء عن شهود السِّوى) ثم الفناء
الوجودي أو القول بوحدة الوجود، فصححوا الأول والثاني واعتذروا للقائلين
بهما في حين حكموا –كما فعل الفقهاء والمتكلمون في الأديان السماوية
عامة- بالكفر على القائلين بالوحدة الوجودية.

واستدراكاً على مجمل هذه الخصائص التي أشار إليه وليم جيمس وآخرون من
دارسي الوعي الصوفي فإن المؤرخ للحركات الصوفية يلحظ عدداً من المظاهر
الثانوية والهامة التي لازمت تلك الحركات، فثمة مظاهر اجتماعية وأخلاقية
وسلوكية عامة ومتماثلة اقترنت بالحركة الصوفية عبر التاريخ. من هذه
المظاهر أن التجربة الصوفية تسبقها في الغالب من الأحيان وتمهد لها حالة
نفسية تتمظهر في الشعور بغياب الطمأنينة وعدم الراحة والقلق النفسي
والاضطراب الفكري اصطلح عليه صوفية الأديان بالليالي المظلمة ويعتبرون
هذه الحالات بوابة التوبة وداعية الإنابة والشروع في خوض التجربة الصوفية
ومعاناة الطريق الصوفي آملين تجاوز تلك الحالات والوصول إلى الطمأنينة
الجوانية، والراحة النفسية والتغلب على حالات الشك باستعادة اليقين، هكذا
كان الحال مع أكابر رجال الحركة الصوفية في الأديان من أمثال القديس
أغسطين الذي تجرع من مرارات موجات التنقل بين المذاهب والأديان
والاستغراق التام في شهوات الجسد، والسقوط في مهاوي الشك والإلحاد كما
حكاها في كتابه الاعترافات.

وقد صور الإمام الغزالي هذه الحالة التي تسبق اليقظة الصوفية في كتابه
الذي حكى فيه تردده بين المذاهب وشكوكه الفكرية وأزماته النفسية فقال:
"فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر
أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد
الاختيار إلى الاضطرار إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس،
فكنت أجاهد نفسي أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إليّ فكان لا
ينطق لساني بكلمة واحدة استطيعها البتة حتى أورثت هذه العقلة في اللسان
حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، ثم لما أحسست
بعجزي وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله ، التجاء المضطر الذي لا
حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه."

ومن هذه المظاهر أيضاً أنه ظهرت وتظهر في جنبات الحركات الصوفية عامة
نزعات هدامة تبشر بالفوضى الأخلاقية والاتجاهات العدمية ودعوات إسقاط
الفضائل الأخلاقية المتوارثة من الاعتبار مما تسبب في قيام صراع تاريخي
دام واتصل بين أدعياء التصوف من زنادقة المستصوفة وبين الفقهاء،
باعتبارهم حماة الشريعة، والمتكلمين باعتبارهم حراس العقيدة الصحيحة.
وهكذا ظهرت طوائف وفرق وجماعات تدعي التصوف صرحت بالكفر والإلحاد
واستباحة الحرمات واسقاط التكاليف والقول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود
والنظر إلى الشواهد، مما دفع الفقهاء والمتكلمين في الأديان السماوية
الثلاث إلى إصدار فتاوى ضد مدعي التصوف المنحرف، وتكفيرهم. حصل هذا –كما
مر بنا- في اليهودية وفي المسيحية وفي الإسلام أيضاً. يقول الإمام الذهبي
في فلسفة الفناء الصوفية: "الفناء والبقاء من ترهات الصوفية، دخل من بابه
كل إلحادي وزنديق، وأراد قدماء الصوفية بالفناء نسيان المخلوقات وفناء
النفس عن التشاغل بما سوى الله ، ولا يسلم إليهم هذا أيضاً، بل أمرنا
الله ورسوله بالتشاغل بالمخلوقات، ورؤيتها والإقبال عليها وتعظيم
خالقها." (جامع الأصول، 4/766) ويقول ابن تيمية: "كثير من هؤلاء يخرجون
عن ربقة العبودية مطلقاً، بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم، أو حل بعض
المحرمات لهم، فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى
المقصود، وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور، وقد
يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناء عنها، بما فيه من التوجه والحضور
ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه، مع قدرته عليه لأن الكعبة تطوف به، أو لغير
هذا من الحالات الشيطانية ومنهم من يفطر في رمضان لغير عذر شرعي زعماً
منه استغناءه عن الصيام، ومنهم من يستحل الخمر زعماً منه أنها تحرم على
العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة من العقلاء،
ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل
النفوس الزكية والأعمال الصالحة فتباح لهم دون العامة.

ويصف التهانوي صاحب الحلولية من المستصوفة فيقول: " الحلولية فرقة من
الصوفية القائلين بإباحة النظر إلى النساء والمرد يرقصون ويطرقون،
ويقولون: إن هذه من صفات الله التي حلت علينا، وهي مباح، وهذه كفر محض،
وبعضهم يقيمون مجالس لهم، وعليهم لباس الدراويش ويتصايحون بآه وواه،
وبالبكاء وإظهار الحرقة وشق الجيوب والأكمام وإلقاء العمائم بالأرض؛
والملفت للنظر -في هذا الخصوص- أن هذه الأوصاف قد تلبست بها جماعة التقاة
الحاسديم الذين، كما يشير روبرت إم سلتزر (1980) اعتادوا في مجالس الذكر
التي يقيمونها التصفيق والقفز والدوران والهياج العاطفي مما يصطلح عليه
في التصوف المقارن ب"العربيد-طقسية" والتي هي أيضاً من أهم وأخص صفات
الحركات الطقوسية المنتشرة في الولايات المتحدة حديثاً.

على أن الموضوعية والحيدة العلمية تقتضينا أن نقول أن شيوخ التصوف
الملتزم بأحكام الشرائع في الأديان السماوية قد بادروا قبل الخصوم إلى
إدانة هذه الشذوذات في العقيدة والانحرافات في السلوك وكفى أن نستشهد
بأقوال أئمة الصوفية المعتبرين في الإسلام أمثال الجنيد البغدادي
والقشيري وحجة الإسلام الغزالي وآخرين لا يحصون ممن حملوا حملات قاسية
على أولئك الذين ادعوا التصوف كذباً ونفاقاً والذي ما قصد به شيوخه
الكبار إلا تمام الأدب، وكمال الأخلاق والالتزام التام بأحكام الشريعة
وحدودها. يقول عبد الوهاب الشعراني (1953): "ومن شأن المريد أن يحافظ على
آداب الشريعة والمشي على ظاهرها ما أمكن، فإن الترقي كله في امتثال أمر
الشرع. هذا أمر قد أغفله غالب من شم رائحة التوحيد من أهل هذا الزمان،
فيصير يتعدى حدود الله في مأكله وملبسه وكلامه وفعله. وهذا كله زندقة
لرفضه الشرائع." وهكذا كان الأمر في التصوف اليهودي الذي قرر مبرزوه بأن
سلوك طريق التصوف مبتدؤه الالتزام التام بأحكام الشريعة الموسوية
(الهالاخاه) فيقول يوسف دان: "أن الكامل من كل الوجوه فقط اعتبر مرشحاً
لسلوك الطريق الصوفي ونيل الغاية المرجوة من سلوك الطريق."

على أننا ننبه ثانية إلى أن طبيعة التجربة الصوفية، من حيث أنها تجربة
وجدانية-عاطفية محضة، مشروع بطبيعته منفتح على الفوضى الخلقية والانحراف
في العقيدة والسلوك. هكذا كان الحال عبر تاريخ التصوفات في الأديان
جميعاً، حيث نبتت في أحضان الحركات الصوفية النزعات العدمية الآثمة
والاستهانة بالأحكام الشرعية والتحلل منها وادعاء الدجل والشعبدة
والمخارق لتصبح التجربة الوجدانية ساحة مشاعة لنمو الأساطير والخرافات
والكهانة الكاذبة والرؤيات المختلفة وتعاطي السحر والاعتقاد بالقوة
السحرية للحروف والأرقام (الجماعات الحروفية في التصوف الشيعي والتصوف
اليهودي).

وتقترن بهذه الدعاوى المرجفة أنماط سلوكية منحرفة مثل إقامة حفلات
العربيد-طقسية التي يتخللها الرقص والغناء والتصفيق والقفز والدوران حول
النفس والهياج العاطفي والقول بالشواهد، والتعبير عن الحب الإلهي في
عبارات جنسية مفضوحة بل وإقامة حفلات للعهر الجماعي المقدس –عند الزنادقة
والحلوليين- بزعم كاذب مفاده أن المتصوف الذي تحقق بالتأله التام، يكون
معصوماً عن اقتراف الذنوب، ومن ثم فكل سيئة يقترفها، صغيرة كانت أم
كبيرة، لا تعتبر اجتراحاً للسيئات، لأنه بتألهه قد تشبه بالله ، المنزه
عن النقائص. وفي نفس هذه الدعوى، ومثيلات لها كانت تتردد على ألسنة
زنادقة الزهاد من مدعي الانتساب إلى التصوف الإسلامي فكانوا يصرحون
قائلين: "رفع الحبيب عنا التكاليف" وتأول هؤلاء الإباحة قول الله :
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر: 99) قائلين:
"إذا وصلت إلى مقام اليقين سقطت عنك العبادات."

ومن المظاهر التي اقترنت باستمرار بالحركة الصوفية في مختلف أنماطها
وتنوع الدائرة الدينية والثقافية التي نشأت في إطارها ظاهرة تبعية المريد
السالك للطريقة لإرادة شيخه الروحي -المطاع- وفناء إرادته كلياً في إرادة
شيخه (أو البير في اللغة الفارسية، وفي نظم الرهبنة المسيحية لرأس الدير
abe -abbot ومقدمه وعند طائفة التقاة الحاسيديم في اليهودية لشيخ الطائفة
الروحي moreh-zaddiq وعند الطوائف الهندوسية guru، بدعوى أن المعراج
الروحي للسالك المبتدئ لا يمكن أن يتحقق ويؤتي ثماره إلا بالخضوع الكلي
لإرشاد الزعيم الروحي، الذي تجب طاعته من غير سؤال، لتتخذ الطاعة له
وتتحول إلى عبودية عمياء خرساء بكماء، لا يقرها دين أو عقل، فمن شأن
المريد: "أن لا يقول لشيخه قط لِمَ فقد أجمع الأشياخ على أن كل مريد قال
لشيخه لِمَ لا يفلح في الطريق."

منهاج الدارسين للتجربة الصوفية:

هل التجربة الصوفية بخصائصها العامة المشتركة التي فصلنا في صورها تجربة
واحدة ومتماثلة في الأديان جميعاً، أم إن لكل دين تجربته الصوفية الخاصة
والتي تتأطر وتتحد على ضوء العقيدة الدينية التي يعتنقها الصوفي،
والدائرة الحضارية التي ينتمي إليها ويصدر عنها؟ ذهبت طائفة من الباحثين
في تاريخ التصوفات إلى أن التجربة الصوفية في الأديان جميعاً متماثلة
ومتشابهة وتصدر في كل أنماطها عن نواة مشتركة وواحدة لمكونات التجربة،
حيث يحاول الصوفي صياغة تلك المكونات وفق الدائرة الثقافية الخاصة التي
ينتمي إليها بغية التوافق مع معالم تلك الثقافة، وبعبارة صوفية: "الإسلام
ربط الحقيقة بالشريعة"، وجاء إسباغ الشريعة من معطيات التجربة الصوفية.

وذهبت طائفة ثانية من مؤرخي التصوف المقارن إلى نقيض ذلك، فأكدت وقررت
بأن لكل دين تصوفه الخاص به الصادر عن تعاليمه ومحدداته. يقول زيهنر: "إن
التجربة الصوفية في الغالب تكون مشدودة وموصولة بدين بعينه، تصدر عن
تعاليمه، وتتشكل على ضوئها." وعن هذا الفهم كان تصنيفه للتجارب الصوفية
تبعاً لتوافقها مع تعاليم المسيحية أو تعارضها معها. وأيده فيما ذهب إليه
جيرشوم شخوليم المتخصص في دراسة التصوف اليهودي والأستاذ بالجامعة
العبرية حيث أكد القول بأنه ليس ثمة تصوف عام من غير هوية معينة، بل هناك
تصوف خاص ومتمايز في كل دين فالصوفية يصدرون عادة عن تعاليم عقيدتهم
الدينية.

والذي نميل إليه ونرجحه: أن النظرية الأولى تسوق في أغلب الأحايين إلى
المصادرة التاريخية والتعميمات الجارفة بالتماس أوجه التشابه والمماثلة
بين الدوائر الصوفية ورد اللاحق إلى السابق من غير قرائن تاريخية تؤيد
ذلك، وهي النظرة التي هيمنت على دراسات المستشرقين عموماً، ممن أرجعوا
الحركة الصوفية في الإسلام، بكل ما تنطوي عليها من مراحل وتطورات إلى
التأثيرات الأجنبية وصاروا يلتمسون لكل مفردة في التصوف الإسلامي مرجعية
أجنبية، على خلاف بينهم في تحديد تلك المرجعية أهي الرهبنة المسيحية، أم
التصوف البوذي والهندوسي، أم الفلاسفة اليونان، متغافلين كلياً عن فعل
وأثر العوامل الذاتية النابعة من تفسيرات الصوفية لتعاليم الإسلام وحركة
المجتمع الإسلامي الذاتية.

أما النظرية الثانية فبدورها تتنكر كلية للمعالم والخصائض المشتركة التي
أحصيناها والتي في مجموعها تشكل -لا ريب- قاسماً مشتركاً وتماثلاً قوياً،
وإلا كيف تبرر تلك الخصائض المشتركة العامة، إلا أن نقول بأنها من لوازم
الوعي الصوفي الموروثة عموماً.

ومن هنا لزم دراسة الظاهرة الصوفية بالمنهجين معاً، باعتبارهما متكاملين؛
دونما تضاد بينهما؛ فينصرف الباحث عندئذ إلى رصد العوامل المعقدة
المتضافرة -الذاتية- لنشأة الظاهرة في كل دين، ثم يحاول التماس وجوه
الشبه والمماثلة بين التجارب الصوفية في الأديان، من غير وقوع تحت
التأثيرات الظاهرية للمنهج الشكلي الذي همه الأول التماس الأشباه
والنظائر، ورد اللاحق إلى السابق بوحي سابق من نظرية التأثير الأجنبي
الذي يُغفل ، ويسقط من الاعتبار، فعل العوامل الذاتية في نشأة الظاهرة
وتطور مبانيها.


المصدر: مجلة اسلاميةالمعرفة
لعدد: 036 > بحوث و دراسات

Reply all
Reply to author
Forward
0 new messages