الصنف الثالث المتصوفة
http://www.0alsoufia.jeeran.com/asd/archive/2007/4/190939.html
وما اغلب الغرور عليهم والمغترون منهم فرق كثيرة.
ففرق منهم وهم المتصوفة اهل الزمان الا من عصمه الله اغتروا بالزي
والهيئة والمنطق فساعدوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم وفي
الفاظهم وفي ادابهم ومراسمهم واصطلاحاتهم وفي احوالهم الظاهرة في السماع
والرقص والطهارة والصلاة والجلوس على السجادات مع اطراق الراس وادخاله في
الجيب كالمتفكر وفي تنفس الصعداء وفي خفض الصوت في الحديث الى غير ذلك من
الشمائل والهيئات فلما تكلفوا هذه الامور وتشبهوا بهم فيها ظنوا انهم
ايضاً صوفية ولم يتعبوا انفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة القلب
وتطهير الباطن والظاهر من الاثام الخفية والجلية وكل ذلك من اوائل منازل
التصوف ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم ان يعدوا انفسهم في الصوفية كيف
ولم يحوموا قط حولها ولم يسوموا انفسهم شيئاً منها بل يتكالبون على
الحرام والشبهات واموال السلاطين ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة
ويتحاسدون على النقير والقطمير ويمزق بعضهم اعراض بعض مهما خالفه في شيء
من غرضه.
وهؤلاء غرورهم ظاهر ومثالهم مثال امراة عجوز سمعت ان الشجعان والابطال من
المقاتلين ثبت اسماؤهم في الديوان ويقطع لكل واحد منهم قطر من اقطار
المملكة فتاقت نفسها الى ان يقطع لها مملكة فلبست درعاً ووضعت على راسها
مغفراً وتعلمت من رجز الابطال ابياتاً وتعودت ايراد تلك الابيات بنغماتهم
حتى تيسرت عليها وتعلمت كيفية تبخترهم في الميدان وكيف تحريكهم الايدي
وتلقفت جميع شمائلهم في الزي والمنطق والحركات والسكنات ثم توجهت الى
المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشجعان فلما وصلت الى المعسكر انفذت الى
ديوان العرض وامر بان تجرد عن المغفر والدرع وينظر ما تحته وتمتحن
بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر عنائها في الشجاعة فلما جردت عن
المغفر والدرع فاذا هي عجوز ضعيفة زمنة لا تطيق حمل الدرع والمغفر فقيل
لها اجئت للاستهزاء بالملك وللاستخفاف باهل حضرته والتلبيس عليهم خذوها
فالقوها قدام الفيل لسخفها فالقيت الى الفيل.
فكهذا يكون حال المدعين للتصوف في القيامة اذا كشف عنهم الغطاء وعرضوا
على القاضي الاكبر الذي لا ينظر الى الزي والمرقع بل الى القلب.
وفرقة اخرى زادت على هؤلاء في الغرور اذ شق عليها الاقتداء بهم في بذاذة
الثياب والرضا بالدون فارادت ان تتظاهر بالتصوف ولم تجد بداً من التزين
بزيهم فتركوا الحرير والابريسم وطلبوا المرقعات النفيسة والفوط الرقيقة
والسجادات المصبغة ولبسوا من الثياب ما هو ارفع قيمة من الحرير والابريسم
وظن احدهم مع ذلك انه متصوف بمجرد لون الثوب وكونه مرقعاً ونسي انهم انما
لونوا الثياب لئلا يطول عليهم غسلها كل ساعة لازالة الوسخ وانما لبسوا
المرقعات اذ كانت ثيابهم مخرقة فكانوا يرقعونها ولا يلبسون الجديد فاما
تقطيع الفوط الرقيقة قطعة قطعة وخياطة المرقعات منها فمن اين يشبه ما
اعتادوه فهؤلاء اظهر حماقة من كافة المغرورين فانهم يتنعمون بنفيس الثياب
ولذيذ الاطعمة ويطلبون رغد العيش وياكلون اموال السلاطين ولا يجتنبون
المعاصي الظاهرة فضلاً عن الباطنة وهم مع ذلك يظنون بانفسهم الخير وشر
هؤلاء مما يتعدى الى الخلق اذ يهلك من يقتدي بهم ومن لا يقتدي بهم تفسد
عقيدته في اهل التصوف كافة ويظن ان يجمعهم كانوا من جنسه فيطول اللسان في
الصادقين منهم وكل ذلك من شؤم المتشبهين وشرهم.
وفرقة اخرى ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والاحوال
والملازمة في عين الشهود والوصول الى القرب ولا يعرف هذه الامور الا
بالاسامي والالفاظ لانه تلقف من الفاظ الطامات كلمات فهو يرددها ويظن ان
ذلك اعلى من علم الاولين والاخرين فهو ينظر الى الفقهاء والمفسرين
والمحدثين واصناف العلماء بعين الازراء فضلاً عن العوام حتى ان الفلاح
ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته ويلازمهم اياماً معدودة ويتلقف منهم
تلك الكلمات المزيفة فيرددها كانه يتكلم عن الوحي ويخبر عن سر الاسرار
ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء فيقول في العباد انهم اجراء متعبون
ويقول في العلماء انهم بالحديث عن الله محجوبون ويدعى لنفسه انه الواصل
الى الحق وانه من المقربين وهو عند الله من الفجار المنافقين وعند ارباب
القلوب من الحمقى الجاهلين لم يحكم قط علماً ولم يهذب خلقاً ولم يرتب
عملاً ولم يراقب قلباً سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان وحفظه.
وفرقة اخرى وقعت في الاباحة وطووا بساط الشرع ورفضوا الاحكام وسووا بين
الحلال والحرام فبعضهم يزعم ان الله مستغن عن عملي فلم اتعب نفسي وبعضهم
يقول قد كلف الناس تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا وذلك محال
فقد كلفوا ما لا يمكن وانما يغتر به من لم يجرب واما نحن فقد جربنا
وادركنا ان ذلك محال.
ولا يعلم الاحمق ان الناس لم يكلفوا قلع الشهوة والغضب من اصلهما بل انما
كلفوا قلع مادتهما بحيث ينقاد كل واحد منهما لحكم العقل والشرع.
وبعضهم يقول الاعمال بالجوارح لا وزن لها وانما النظر الى القلوب
وقلوبنا والهة بحب الله وواصلة الى معرفة الله وانما نخوض في الدنيا
بابداننا وقلوبنا عاكفة في حضرة الربوبية فنحن مع الشهوات بالظواهر لا
بالقلوب ويزعمون انهم قد ترقوا عن رتبة العوام واستغنوا عن تهذيب النفس
بالاعمال البدنية وان الشهوات لا تصدهم عن طريق الله لقوتهم فيها ويرفعون
درجة انفسهم على درجة الانبياء عليهم الصلاة والسلام اذ كانت تصدهم عن
طريق الله خطيئة واحدة حتى كانوا يبكون عليها وينوحون سنين متوالية
واصناف غرور اهل الاباحة من المتشبهين بالصوفية لا تحصى وكل ذلك بناء على
اغاليط ووساوس يخدعهم الشيطان بها لاشتغالهم بالمجاهدة قبل احكام العلم
ومن غير اقتداء بشيخ متقن في الدين والعلم صالح للاقتداء به واحصاء
اصنافهم يطول.
وفرقة اخرى جاوزت حد هؤلاء واجتنبت الاعمال وطلقت الحلال واشتغلت بتفقد
القلب وصار احدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا والحب من غير
وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وافاتها.
فمنهم من يدعي الوجد والحب لله تعالى ويزعم انه واله بالله ولعله قد تخيل
في الله خيالات هي بدعة او كفر فيدعي حب الله قبل معرفته ثم انه لا يخلو
عن مقارفة ما يكره الله عز وجل وعن ايثار هوى نفسه على امر الله وعن ترك
بعض الامور حياء من الخلق ولو خلا لما تركه حياء من الله تعالى.
وليس يدري اكل ذلك يناقض الحب وبعضهم ربما يميل الى القناعة والتوكل
فيخوض البوادي من غير زاد ليصحح دعوى التوكل وليس يدري ان ذلك بدعة لم
تنقل عن السلف والصحابة وقد كانوا اعرف بالتوكل منه فما فهموا ان التوكل
المخاطرة بالروح وترك الزاد بل كانوا ياخذون الزاد وهم متوكلون على الله
تعالى لا على الزاد وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب من الاسباب
واثق به وما من مقام من المقامات المنجيات الا وفيه غرور وقد اغتر به قوم
قد ذكرنا مداخل الافات في ربع المنجيات من الكتاب فلا يمكن اعادتها.
وفرقة اخرى ضيقت على نفسها في امر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص
واهملوا تفقد القلب والجوارح في غير هذه الخصلة الواحدة ومنهم من اهمل
الحلال في مطعمه وملبسه ومسكنه واخذ يتعمق في غير ذلك وليس يدري المسكين
ان الله تعالى لم يرض من عبد بطلب الحلال فقط ولا يرضى بسائر الاعمال دون
طلب الحلال بل لا يرضيه الا تفقد جميع الطاعات والمعاصي.
فمن ظن ان بعض هذه الامور يكفيه وينجيه فهو مغرور.
وفرقة اخرى ادعوا حسن الخلق والتواضع والمساحة فتصدوا لخدمة الصوفية
فجمعوا قوماً وتكلفوا بتخدمتهم واتخذوا ذلك للرياسة وجمع المال وانما
غرضهم التكبر وهم يظهرون الخدمة والتواضع وغرضهم الارتفاع وهم يظهرون ان
غرضهم الارفاق وغرضهم الاستتباع وهم يظهرون ان غرضهم الخدمة والتبعية ثم
انهم يجمعون من الحرام والشبهات وينفقون عليهم لتكثر اتباعهم وينشر
بالخدمة اسمهم وبعضهم ياخذ اموال السلاطين ينفق عليهم وبعضهم ياخذها
لينفق في طريق الحج على الصوفية ويزعم ان غرضه البر والانفاق وباعث
جميعهم الرياء والسمعة واية ذلك اهمالهم لجميع اوامر الله تعالى عليهم
ظاهراً وباطناً ورضاهم باخذ الحرام والانفاق منه.
ومثال من ينفق الحرام في طريق الحج لارادة الخير كمن يعمر مساجد الله
فيطينها بالعذرة ويزعم ان قصده العمارة.
وفرقة اخرى اشتغلوا بالمجاهدة وتهذيب الاخلاق وتطهير النفس من عيوبها
وصاروا يتعمقون فيها فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خدعها علماً
وحرفة فهم في جميع احوالهم مشغولون بالفحص عن عيوب النفس واستنباط دقيق
الكلام في افاتها.
فيقولون هذا في النفس عيب والغفلة عن كونه عيباً عيب والالتفات الى كونه
عيباً عيب ويشغفون فيه بكلمات مسلسلة تضيع الاوقات في تلفيقها ومن جعل
طول عمره في التفتيش عن عيوب النفس وتحريم علم علاجها كان كمن اشتغل
بالتفتيش عن عوائق الحج وافاته ولم يسلك طريق الحج فذلك لا يغنيه.
وفرقة اخرى جاوزوا هذه الرتبة وابتدءوا سلوك الطريق وانفتح لهم ابواب
المعرفة فكلما تشمموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها وفرحوا بها
واعجبتهم غرابتها فتقيدت قلوبهم بالالتفات اليها والتفكر فيها وفي كيفية
انفتاح بابها عليهم وانسداده على غيرهم وكل ذلك غرور لان عجائب طريق الله
ليس لها نهاية فلو وقف مع كل اعجوبة وتقيد بها قصرت خطاه وحرم الوصول الى
المقصد وكان مثاله مثال من قصد ملكاً فراى على باب ميدانه روضة فيها
ازهار وانوار لم يكن قد راى قبل ذلك مثلها فوقف ينظر اليها ويتعجب حتى
فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك.
وفرقة اخرى جاوزوا هؤلاء ولم يلتفتوا الى ما يفيض عليهم من الانوار
في الطريق ولا الا ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ولم يعرجوا على الفرح
بها والالتفات اليها جادين في السير حتى قاربوا فوصلوا الى حد القربة الى
الله تعالى فظنوا انهم قد وصلوا الى الله فوقفوا وغلطوا فان لله تعالى
سبعين حجاباً من نور لا يصل السالك الى حجاب من تلك الحجب في الطريق الا
ويظن انه قد وصل.
واليه الاشارة بقول ابراهيم عليه السلام اذ قال الله تعالى اخباراً عنه
فلما جن الليل راى كوكباً قال هذا ربي وليس المعنى به هذه الاجسام
المضيئة فانه كان يراها في الصغر ويعلم انها ليست الهة وهي كثيرة وليست
واحداً والجهال يعلمون ان الكوكب ليس باله فمثل ابراهيم عليه السلام لا
يغره الكوكب الذي لا يغر السوادية.
ولكن المراد به انه نور من الانوار التي هي من حجب الله عز وجل وهي على
طريق السالكين ولا يتصور الوصول الى الله تعالى الا بالوصول الى هذه
الحجب وهي حجب من نور بعضها اكبر من بعض واصغر النيرات الكوكب فاستعير له
لفظه واعظمها الشمس وبينهما رتبة القمر فلم يزل ابراهيم عليه السلام لما
راى ملكوت السموات حيث قال تعالى وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات
والارض ويصل الى نور بعد نور ويتخيل اليه في اول ما كان يلقاه انه قد
وصل ثم كان يكشف له ان وراءه امراً فيترقى اليه ويقول قد وصلت فيكشف له
ما وراءه حتى وصل الى الحجاب الاقرب الذي لا وصول الا بعده فقال هذا
اكبر فلما ظهر له انه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص
والانحطاط عن ذروة الكمال قال لا احب الافلين الى ان قال اني وجهت
وجهي للذي فطر السموات والارض وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على
بعض هذه الحجب وقد يغتر بالحجاب الاول واول الحجب بين الله وبين العبد هو
نفسه فانه ايضاً امر رباني وهو نور من انوار الله تعالى اعني سر القلب
الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله حتى انه ليتسع لجملة العالم ويحيط به
وتتجلى فيه صورة الكل وعند ذلك يشرق نوره اشراقاً عظيماً اذ يظهر فيه
الوجود كله على ما هو عليه وهو في اول الامر محجوب بمشكاة هي كالساتر له
فاذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد اشراق نور الله عليه ربما التفت
صاحب القلب الى القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه وربما يسبق لسانه في
هذه الدهشة فيقول انا الحق فان لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به ووقف
عليه وهلك وكان قد اغتر بكوكب صغير من انوار الحضرة الالهية ولم يصل بعد
الى القمر فضلاً عن الشمس فهو مغرور وهذا محل الالتباس اذ المتجلي يلتبس
بالمتجلى فيه كما يلتبس لون ما يتراءى في المراة فيظن انه لون المراة
وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج كما قيل رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها
فتشاكل الامر فكانهما خمر ولا قدح وكانما قدح ولا خمر وبهذه العين نظر
النصارى الى المسيح فراوا اشراق نور الله قد تلالا فيه فغلطوا فيه كمن
يرى كوكباً في مراة او في ماء فيظن ان الكوكب في المراة او في الماء فيمد
يده اليه لياخذه وهو مغرور وانواع الغرور في طريق السلوك الى الله تعالى
لا تحصى في مجلدات ولا تستقصى الا بعد شرح جميع علوم المكاشفة وذلك مما
لا رخصة في ذكره ولعل القدر الذي ذكرناه ايضاً كان الاولى تكره اذ
المسالك لهذا الطريق لا يحتاج الى ان يسمعه من غيره والذي لم يسلكه لا
ينتفع بسماعه بل ربما يستضر به اذ يورثه ذلك دهشة من حيث يسمع ما لا يفهم
ولكن فيه فائدة وهو اخراجه من الغرور الذي هو فيه بل ربما يصدق بان الامر
اعظم مما يظنه ومما يتخيله بذهنه المختصر وخياله القاصر وجدله المزخرف
ويصدق ايضاً بما يحكى له من المكاشفات التي اخبر عنها اولياء الله ومن
عظم غروره ربما اصر مكذباً بما يسمعه الان كما يكذب بما سمعه من قبل.
الصنف الرابع ارباب الاموال
والمغترون منهم فرق ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس
والرباطات والقناطر وما يظهر للناس كافة ويكتبون اساميهم بالاجر عليها
ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت اثرهم وهم يظنون انهم قد استحقوا المغفرة
بذلك.
وقد اغتروا فيه من وجهين احدهما انهم يبنونها من اموال اكتسبوها من
الظلم والنهب والرشا والجهات المحظورة فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها
وتعرضوا لسخطه في انفاقها وكان الواجب عليهم الامتناع عن كسبها فاذن قد
عصوا الله بكسبها فالواجب عليهم التوبة والرجوع الى الله وردها الى
ملاكها اما باعيانها واما برد بدلها عند العجز فان عجزوا عن الملاك كان
الواجب ردها الى الورثة فان لم يبق للمظلوم وارث فالواجب صرفها الى اهم
المصالح وربما يكون الاهم التفرقة على المساكين وهم لا يفعلون ذلك خيفة
من ان لا يظهر ذلك للناس فيبنون الابنية بالاجر وغرضهم من بنائها الرياء
وجلب الثناء وحرصهم على بقاءها لبقاء اسماءهم المكتوبة فيها لا لبقاء
الخير.
والوجه الثاني انهم يظنون بانفسهم الاخلاص وقصد الخير في الانفاق على
الابنية ولو كلف واحد منهم ان ينفق ديناراً ولا يكتب اسمه على الموضع
الذي انفق عليه لشق عليه ذلك ولم تسمح به نفسه والله مطلع عليه كتب اسمه
او لم يكتب ولولا انه يريد به وجه الناس لا وجه الله لما افتقر الى
ذلك.
وفرقة اخرى ربما اكتسبت المال من الحلال وانفقت على المساجد وهي ايضاً
مغرورة من وجهين احدهما الرياء وطلب الثناء فانه ربما يكون في جواره
او بلده فقراء وصرف المال اليهم اهم وافضل واولى من الصرف الى بناء
المساجد وزينتها وانما يخف عليهم الصرف الى المساجد والثاني انه يصرف
الى زخرفة المسجد وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة قلوب المصلين
ومختطفة ابصارهم والمقصود من الصلاة الخشوع وحضور القلب وذلك يفسد قلوب
المصلين ويحبط ثوابهم بذلك ووبال ذلك كله يرجع اليه وهو مع ذلك يغتر به
ويرى انه من الخيرات ويعد ذلك وسيلة الى الله تعالى وهو مع ذلك قد تعرض
لسخط الله تعالى وهو يظن انه مطيع له وممتثل لامره وقد شوش قلوب عباد
الله بما زخرفه من المسجد وربما شوقهم به الى زخارف الدنيا فيشتهون مثل
ذلك في بيوتهم ويشتغلون بطلبه ووبال ذلك كله في رقبته اذ المسجد للتواضع
ولحضور القلب مع الله تعالى.
قال مالك بن دينار اتى رجلان مسجداً فوقف احدهما على الباب وقال مثلي
لا يدخل بيت الله فكتبه الملكان عند الله صديقاً.
فهكذا ينبغي ان تعظم المساجد وهو ان يرى تلويث المسجد بدخوله فيه بنفسه
جناية على المسجد لا ان يرى تلويث المسجد بالحرام او بزخرف الدنيا منة
على الله تعالى.
وقال الحواريون للمسيح عليه السلام انظر الى هذا المسجد ما احسنه!
فقال امتي امتي بحق اقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجراً قائماً
على حجر الا اهلكه بذنوب اهله ان الله لا يعبا بالذهب والفضة ولا بهذه
الحجارة التي تعجبكم شيئاً وان احب الاشياء الى الله تعالى القلوب
الصالحة بها يعمر الله الارض وبها يخرب اذا كانت على غير ذلك وقال ابو
الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا زخفرتم مساجدكم
وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم وقال الحسن ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما اراد ان يبني مسجد المدينة اتاه جبريل عليه السلام فقال له
ابنه سبعة اذرع طولاً في السماء لا تزخرفه ولا تنقشه فغرور هذا من حيث
انه راى المنكر واتكل عليه.
وفرقة اخرى ينفقون الاموال في الصدقات على الفقراء والمساكين ويطلبون به
المحافل الجامعة ومن الفقراء من عادته الشكر والانشاء للمعروف ويكرهون
التصدق في السر ويرون اخفاء الفقير لما ياخذ منهم جناية عليهم وكفراناً
وربما يحرصون على انفاق المال في الحج فيحجون مرة بعد اخرى وربما تركوا
جيرانهم جياعاً ولذلك قال ابن مسعود في اخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب
يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الرزق ويرجعون محرومين مسلوبين يهوى
باحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره ماسور الى جنبه لا يواسيه.
وقال ابو نصر التمار ان رجلاً جاء يودع بشر بن الحارث وقال قد عزمت
على الحج فتامرني بشيء فقال له كم اعددت للنفقة فقال الفي درهم.
قال بشر فاي شيء تبتغي بحجك تزهداً او اشتياقاً الى البيت او ابتغاء
مرضاة الله قال ابتغاء مرضاة الله قال فان اصبت مرضاة الله تعالى
وانت في منزلك وتنفق الفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى اتفعل
ذلك قال نعم قال اذهب فاعطها عشرة انفس مديون يقضي دينه وفقير يرم
شعثه ومعيل يغني عياله ومربي يتيم يفرحه وان قوي قلبك تعطيها واحداً
فافعل فان ادخالك السرور على قلب المسلم واغاثة اللهفان وكشف الضر واعانة
الضعيف افضل من مائة حجة بعد حجة الاسلام قم فاخرجها كما امرناك والا فقل
لنا ما في قلبك فقال يا ابا نصر سفري اقوى في قلبي فتبسم بشر رحمه الله
واقبل عليه وقال له المال اذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت
النفس ان تقضي به وطراً فاظهرت الاعمال الصالحات وقد الى الله على نفسه
ان لا يقبل الا عمل المتقين.
وفرقة اخرى من ارباب الاموال اشتغلوا بها يحفظون الاموال ويمسكونها بحكم
البخل ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها الى نفقة كصيام
النهار وقيام الليل وختم القران وهم مغرورون لان البخل المهلك قد استولى
على بواطنهم فهو يحتاج الى قمعه باخراج المال فقد اشتغل بطلب فضائل هو
مستغن عنها ومثاله مثال من دخل في ثوبه حية وقد اشرف على الهلاك وهو
مشغول بطبخ السكنجبين ليسكن به الصفراء ومن قتلته الحية متى يحتاج الى
السكنجبين ولذلك قيل لبشر ان فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة فقال
المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره وانما حال هذا اطعام الطعام للجياع
والانفاق على المساكين فهذا افضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه من
جمعه للدنيا ومنعه للفقراء.
وفرقة اخرى غلبهم البخل فلا تسمح نفوسهم الا باداء الزكاة فقط ثم انهم
يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه ويطلبون من الفقراء من
يخدمهم ويتردد في حاجاتهم ومن يحتاجون اليه في المستقبل للاستسخار في
خدمة او من لهم فيه على الجملة غرض او يسلمون ذلك الى من يعينه واحد من
الاكابر ممن يستظهر بحشمة لينال بذلك عنده منزلة فيقوم بحاجاته.
وكل ذلك مفسدات للنية ومحبطات للعمل وصاحبه مغرور ويظن انه مطيع لله
تعالى وهو فاجر اذ طلب بعبادة الله عوضاً من غيره فهذا وامثاله من غرور
اصحاب الاموال ايضاً لا يحصى وانما ذكرنا هذا القدر للتنبيه على اجناس
الغرور.
وفرقة اخرى من عوام الخلق وارباب الاموال والفقراء اغتروا بحضور مجالس
الذكر واعتقدوا ان ذلك يغنيهم ويكفيهم واتخذوا ذلك عادة ويظنون ان لهم
على مجرد سماع الوعظ دون العمل ودون الاتعاظ اجراً وهم مغرورون لان فضل
مجلس الذكر لكونه مرغباً في الخير فان لم يهيج الرغبة فلا خير فيه
والرغبة محمودة لانها تبعث على العمل فان ضعفت عن الحمل على فلا خير فيها
وما يراد لغيره فاذا قصر عن الاداء الى ذلك الغير فلا قيمة له وربما يغتر
بما يسمعه من الواعظ من فضل حضور المجلس وفضل البكاء وربما تدخله رقة
كرقة النساء فيبكي ولا عزم وربما يسمع كلاماً مخوفاً فلا يزيد على ان
يصفق بيديه ويقول يا سلام سلم! او نعوذ بالله او سبحان الله! ويظن
انه قد اتى بالخير كله وهو مغرور.
وانما مثاله مثال المريض الذي يحضر مجالس الاطباء فيسمع ما يجري او
الجائع الذي يحضر عنده من يصف له الاطعمة اللذيذة الشهية ثم ينصرف وذلك
لا يغني عنه من مرضه وجوعه شيئاً.
فكذلك سماع وصف الطاعات دون العمل بها لا يغني من الله شيئاً.
فكل وعظ لم يغير منك صفة تغييراً يغير افعالك حتى تقبل على الله تعالى
اقبالاً قوياً او ضعيفاً وتعرض عن الدنيا فذلك الوعظ زيادة حجة عليك فاذا
رايته وسيلة لك كنت مغروراً.
فان قلت فما ذكرته من مداخل الغرور امر لا يتخلص منه احد ولا يمكن
الاحتراز منه وهذا يوجب الياس اذ لا يقوى احد من البشر على الحذر من
خفايا هذه الافات فاقول الانسان اذا افترقت همته في شيء اظهر الياس منه
واستعظم الامر واستوعر الطريق واذا صح منه الهوى اهتدى الى الحيل واستنبط
بدقيق النظر خفايا الطرق في الوصول الى الغرض حتى ان الانسان اذا اراد ان
يستنزل الطير المحلق في جو السماء مع بعده منه استنزله واذا اراد ان يخرج
الحوت من اعماق البحر استخرجه واذا اراد ان يستخرج الذهب او الفضة من تحت
الجبال استخرجه واذا اراد ان يقنص الوحوش المطلقة في البراري والصحاري
اقتنصها واذا اراد ان يستسخر السباع والفيلة وعظيم الحيوانات استسخرها
واذا اراد ان ياخذ الحيات والافاعي ويعبث بها اخذها واستخرج الدرياق من
اجوافها واذا اراد ان يتخذ الديباج الملون المنقش من ورق التوت اتخذه
واذا اراد ان يعرف مقادير الكواكب وطولها وعرضها استخراج بدقيق الهندسة
ذلك وهو مستقر على الارض وكل ذلك باستنباط الحيل واعداد الالات.
فسخر الفرس للركوب والكلب للصيد وسخر البازي لاقتناص الطيور وهيا الشبكة
لاصطياد السمك الى غير ذلك من دقائق حيل الادمي.
كل ذلك لان همه امر دنياه وذلك معين له على دنياه فلو همه امر اخرته فليس
عليه الا شغل واحد وهو تقويم قلبه فعجز عن تقويم قلبه وتخاذل وقال هذا
محال ومن الذي يقدر عليه وليس ذلك بمحال لو اصبح وهمه هذا الهم الواحد بل
هو كما يقال لو صح منك الهوى ارشدت للحيل فهذا شيء لم يعجز عنه السلف
الصالحون ومن اتبعهم باحسان.
فلا يعجز عنه ايضاً من صدقت ارادته وقويت همته بل لا يحتاج الى عشر تعب
الخلق في استنباط حيل الدنيا ونظم اسبابها.
فان قلت قد قربت الامر فيه مع انك اكثرت في ذكر مداخل الغرور فبم ينجو
العبد من الغرور فاعلم انه ينجو منه بثلاثة امور بالفعل والعلم
والمعرفة.
فهذه ثلاثة امور لا بد منها.
اما العقل فاعني به الفطرة الغريزية والنور الاصلي الذي به يدرك
الانسان حقائق الاشياء فالفطنة والكيس فطرة والحمق والبلادة فطرة والبليد
لا يقدر على التحفظ عن الغرور فصفاء العقل وذكاء الفهم لا بد منه في اصل
الفطرة فهذا ان لم يفطر عليه الانسان فاكتسابه غير ممكن.
نعم اذا حصل اصله امكن تقويته بالممارسة فاساس السعادات كلها العقل
والكياسة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تبارك الله الذي قسم العقل
بين عباده اشتاناً ان الرجلين ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما
ولكنهما يتفاوتان في العقل كالذرة في جنب احد وما قسم الله لخلقه حظاً هو
افضل من العقل واليقين.
وعن ابي الدرداء انه قيل يا رسول الله ارايت الرجل يصوم النهار ويقول
الليل ويحج ويعتمر ويتصدق ويغزو في سبيل الله ويعود المريض ويشيع الجنائز
ويعين الضعيف ولا يعلم منزلته عند الله يوم القيامة فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم انما يجزى على قدر عقله وقال انس اثني على رجل عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا خيراً فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم كيف عقله قالوا يا رسول الله
نقول من عبادته وفضله وخلقه فقال كيف عقله فان الاحمق يصيب بحمقه اعظم
من فجور الفاجر.
وانما يقرب الناس يوم القيامة على قدر عقولهم وقال ابو الدرداء كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا بلغه عن رجل شدة عبادة سال عن عقله
فاذا قالوا حسن قال ارجوه وان قالوا غير ذلك قال لن يبلغ وذكر
له شدة عبادة رجل فقال كيف عقله قالوا ليس بشيء قال لن يبلغ
صاحبكم حيث تظنون فالذكاء صحيح وغريزة العقل نعمة من الله تعالى في
اصل الفطر فان فاتت ببلادة وحماقة فلا تدارك لها.
الثاني المعرفة واعني بالمعرفة ان يعرف اربع امور يعرف نفسه ويعرف
ربه ويعرف الدنيا ويعرف الاخرة فيعرف نفسه بالعبودية والذل وبكونه
غريباً في هذا العالم واجنبياً من هذه الشهوات البهيمية وانما الموافق له
طبعاً هو معرفة الله تعالى والنظر الى وجهه فقط فلا يتصور ان يعرف هذا ما
لم يعرف نفسه ولم يعرف ربه فليستعن على هذا بما ذكرناه في كتاب المحبة
وفي كتاب شرح عجائب القلب وكتاب التفكر وكتاب الشكر اذ فيها اشارات الى
وصف النفس والى وصف جلال الله ويحصل به التنبيه على الجملة وكمال المعرفة
وراءه فان هذا من علوم المكاشفة ولم نطنب في هذا الكتاب الا في علوم
المعاملة.
واما معرفة الدنيا والاخرة فيستعين عليها بما ذكرنا في كتاب ذم الدنيا
وكتاب ذكر الموت ليتبين له ان لا نسبة للدنيا الى الاخرة فاذا عرف نفسه
وربه وعرف الدنيا والاخرة ثار من قلبه بمعرفة الله حب الله وبمعرفة
الاخرة شدة الرغبة فيها وبمعرفة الدنيا الرغبة عنها ويصير اهم اموره ما
يوصله الى الله تعالى وينفعه في الاخرة واذا غلبت هذه الارادة على قلبه
صحت نيته في الامور كلها فان اكل مثلاً او اشتغل
بقضاء الحاجة كان قصده منه الاستعانة على سلوك طريق الاخرة.
وصحت نيته واندفع عنه كل غرور منشؤه تجاذب الاغراض والنزوع الى الدنيا
والجاه والمال فان ذلك هو المفسد للنية.
وما دامت الدنيا احب اليه من الاخرة وهوى نفسه احب اليه من رضا الله
تعالى فلا يمكنه الخلاص فاذا غلب حب الله على قلبه بمعرفته بالله وبنفسه
الصادرة عن كمال عقله فيحتاج الى المعنى الثالث وهو العلم اعني العلم
بمعرفة كيفية سلوك الطريق الى الله والعلم بما يقربه من الله وما يبعده
عنه والعلم بافات الطريق وعقباته وغوائله وجميع ذلك قد اودعناه كتب
احياء علوم الدين فيعرف من ربع العبادات شروطها فيراعيها وافاتها فيتقيها
ومن ربع العادات اسرار المعايش وما هو مضطر اليه فياخذه بادب الشرع وما
هو مستغن عنه فيعرض عنه ومن ربع المهلكات يعلم جميع العقبات المانعة في
طريق الله فان المانع من الله الصفات المذمومة في الخلق فيعلم المذموم
ويعلم طريق علاجه ويعرف من ربع المنجيات الصفات المحمودة التي لا بد وان
توضع خلفاً عن المذمومة بعد محوها فاذا احاط بجميع ذلك امكنه الحذر من
الانواع التي اشرنا اليها من الغرور واصل ذلك كله ان يغلب حب الله على
القلب ويسقط حب الدنيا منه حتى تقوى به الارادة وتصح به النية ولا يحصل
ذلك الا بالمعرفة التي ذكرناها.
فان قلت فاذا فعل جميع ذلك فما الذي يخاف عليه فاقول يخاف عليه ان
يخدعه الشيطان ويدعوه الى نصح الخلق او نشر العلم ودعوته الناس الى ما
عرفه من دين الله فان المريد المخلص اذا فرغ من تهذيب نفسه واخلاقه وراقب
القلب حتى صفاه من جميع المكدرات واستوى على الصراط المستقيم وصغرت
الدنيا في عينه فتركها وانقطع طمعه عن الخلق فلم يلتفت اليهم ولم يبق الا
هم واحد وهو الله تعالى والتلذذ بذكره ومناجاته والشوق الى لقائه وقد عجز
الشيطان عن اغرائه اذ ياتيه من جهة الدنيا وشهوات النفس فلا يطيعه فياتيه
من جهة الدين ويدعوه الى الرحمة على خلق الله والشفقة على دينهم والنصح
لهم والدعاء الى الله فينظر العبد برحمته الى العبيد فيراهم حيارى في
امرهم سكارى في دينهم صماً عمياً قد استولى عليهم المرض وهم لا يشعرون
وفقدوا الطبيب واشرفوا على العطب فغلب على قلبه الرحمة لهم وقد كان عنده
حقيقة المعرفة بما يهديهم ويبين لهم ضلالهم ويرشدهم الى سعادتهم وهو يقدر
على ذكرها من غير تعب ومؤنة ولزوم غرامة فكان مثله كمثل رجل كان به داء
عظيم لا يطاق المه وقد كان لذلك يسهر ليله ويقلق نهاره لا ياكل ولا يشرب
ولا يتحرك ولا يتصرف لشدة ضربان الالم فوجد له دواء عفواً صفواً من غير
ثمن ولا تعب ولا مرارة في تناوله فاستعمله فبرئ وصح فطاب نومه بالليل بعد
طول سهره وهدا بالنهار بعد شدة القلق وطاب عيشه بعد نهاية الكدر واصاب
لذة العافية بعد طول السقام ثم نظر الى عدد كثير من المسلمين واذا به تلك
العلة بعينها وقد طال سهرهم واشتد قلقهم وارتفع الى السماء انينهم فتذكر
ان دواءهم هو الذي يعرفه ويقدر على شفائهم باسهل ما يكون وفي ارجى زمان
فاخذته الرحمة والرافة ولم يجد فسحة من نفسه في التراخي عن الاشتغال
بعلاجهم فكذلك العبد المخلص بعد ان اهتدى الى الطريق وشفي من امراض
القلوب شاهد الخلق وقد مرضت قلوبهم واعضل داؤهم وقرب هلاكهم واشفاؤهم
وسهل عليه دواؤهم فانبعث من ذات نفسه عزم جازم في الاشتغال بنصحهم وحرضه
الشيطان على ذلك رجاء ان يجد مجالاً للفتنة فلما اشتغل بذلك وجد الشيطان
مجالاً للفتنة فدعاه الى الرياسة دعاء خفياً اخفى من دبيب النمل لا يشعر
به المريد فلم يزل ذلك الدبيب في قلبه حتى دعاه الى التصنع والتزين للخلق
بتحسين الالفاظ والنغمات والحركات والتصنع في الزي والهيئة فاقبل الناس
اليه يعظمونه ويبجلونه ويوقرونه توقيراً يزيد على توقير الملوك اذ راوه
شافياً لادوائهم بمحض الشفقة والرحمة من غير طمع فصار احب اليهم من
ابائهم وامهاتهم واقاربهم فاثروه بابدانهم واموالهم وصاروا له خولاً
كالعبيد والخدم فخدموه وقدموه في المحافل وحكموه على الملوك والسلاطين
فعند ذلك انتشر الطبع وارتاحت النفس وذاقت لذة يا لها من لذة اصابت من
الدنيا شهوة يستحقر معها كل شهوة فكان قد ترك الدنيا فوقع في اعظم لذاتها
فعند ذلك وجد الشيطان فرصة وامتدت الى قلبه يده فهو يستعمله في كل ما
يحفظ عليه تلك اللذة وامارة انتشار الطبع وركون النفس الى الشيطان انه لو
اخطا فرد عليه بين يدي الخلق غضب فاذا انكر على نفسه ما وجده من الغضب
بادر الشيطان فخيل اليه ان ذلك غضب لله لانه اذا لم يحسن اعتقاد المريدين
فيه انقطعوا عن طريق الله فوقع في الغرور فربما اخرجه ذلك الى الوقيعة
فيمن رد عليه فوقع في الغيبة المحظورة بعد تركه الحلال المتسع ووقع في
الكبر الذي هو تمرد عن قبول الحق والشكر عليه بعد ان يحذر من طوارق
الخطرات وكذلك الى سبقه الضحك او فتر عن بعض الاوراد جزعت النفس ان يطلع
عليه فيسقط قبوله فاتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وربما زاد في
الاعمال والاوراد لاجل ذلك والشيطان يخيل اليه انك انما تفعل ذلك كيلا
يفتر رايهم عن طريق الله فيتركون الطريق بتركه وانما ذلك خدعة وغرور بل
هو جزع من النفس خيفة فوت الرياسة ولذلك لا تجزع نفسه من اطلاع الناس على
مثل ذلك من اقرانه بل ربما يحب ذلك ويستبشر به ولو ظهر من اقرانه من مالت
القلوب الى قبوله وزاد اثر كلامه في القبول على كلامه شق ذلك عليه ولولا
ان النفس قد استبشرت واستلذت الرياسة لكان يغتنم ذلك اذ مثاله ان يرى
الرجل جماعة من اخوانه قد وقعوا في بئر وتغطى راس البئر بحجر كبير فعجزوا
عن المرقى من البئر بسببه فرق قلبه لاخوانه فجاء ليرفع الحجر من راس
البئر فشق عليه فجاءه من اعانه على ذلك حتى تيسر عليه او كفاه ذلك ونحاه
بنفسه فيعظم بذلك فرحه لا محالة اذ غرضه خلاص اخوانه من البئر فان كان
غرض الناصح خلاص اخوانه المسلمين من النار فاذا ظهر من اعانه او كفاه ذلك
لم يثقل عليه ارايت لو اهتدوا جميعهم من انفسهم اكان ينبغي انه يثقل ذلك
عليه ان كان غرضه هدايتهم فاذا اهتدوا بغيره فلم يثقل عليه ومهما وجد ذلك
في نفسه دعاه الشيطان الى جميع كبائر القلوب وفواحش الجوارح واهلكه فنعوذ
بالله من زيغ القلوب بعد الهدى ومن اعوجاج النفس بعد الاستواء.
فان قلت فمتى يصح له ان يشتغل بنصح الناس فاقول اذا لم يكن له قصد الا
هدايتهم لله
تعالى وكان يود لو وجد من يعينه او لو اهتدوا بانفسهم وانقطع بالكلية
طمعه عن ثنائهم وعن اموالهم فاستوى عنده حمدهم وذمهم فلم يبال بذمهم اذا
كان الله يحمده ولم يفرح بحمدهم اذا لم يقترن به حمد الله تعالى ونظر
اليهم كما ينظر الى السادات والى البهائم.
اما الى السادات فمن حيث انه لا يتكبر عليهم ويرى كلهم خيراً منه لجهله
بالخاتمة.
واما الى البهائم فمن حيث انقطاع طمعه عن طلب المنزلة في قلوبهم فانه لا
يبالي كيف تراه البهائم فلا يتزين لها ولا يتصنع! بل راعي الماشية انما
غرضه رعاية الماشية ودفع الذئب عنها دون نظر الماشية اليه.
فما لم ير سائر الناس كالماشية التي لا يلتفت الى نظرها ولا يبالي بها لا
يسلم من الاشتغال باصلاحهم.
نعم ربما يصلحهم ولكن يفسد نفسه باصلاحهم فيكون كالسراج يضيء لغيره
ويحترق في نفسه.
فان قلت فلو ترك الوعاظ الوعظ الا عند نيل هذه الدرجة لخلت الدنيا عن
الوعظ خربت القلوب فاقول قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حب
الدنيا راس كل خطيئة ولو لم يحب الناس الدنيا لهلك العالم وبطلت المعايش
وهلكت القلوب والابدان جميعاً الا انه صلى الله عليه وسلم علم ان حب
الدنيا مهلك وان ذكر كونه مهلكاً لا ينزع الحب من قلوب الاكثرين لا
الاقلين الذين لا تخرب الدنيا بتركهم فلم يترك النصح وذكر ما في حب
الدنيا من الخطر ولم يترك ذكره خوفاً من ان يترك نفسه بالشهوات المهلكة
التي سلطها الله على عباده ليسوقهم بها الى جهنم تصديقاً لقوله تعالى
ولكن حق القول مني لاملان جهنم من الجنة والناس اجمعين فكذلك لا تزال
السنة الوعاظ مطلقة لحب الرياسة ولا يدعونها بقول من يقول ان الوعظ لحب
الرياسة حرام كما لا يدع الخلق الشرب والزنا والسرقة والرياء والظلم
وسائر المعاصي بقول الله تعالى ورسوله ان ذلك حرام فانظر لنفسك وكن فارغ
القلب من حديث الناس فان الله تعالى يصلح خلقاً كثيراً بافساد شخص واحد
واشخاص ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض وان الله يؤيد
هذا الدين باقوام لا خلاق لهم فانما يخشى ان يفسد طريق الاتعاظ فاما تخرس
السنة الوعاظ ووراءهم باعث الرياسة وحب الدنيا فلا يكون ذلك ابداً.
فان قلت فان علم المريد هذه المكيدة من الشيطان فاشتغل بنفسه وترك
النصح او نصح وراعى شرط الصدق والاخلاص فيه فما الذي يخالف عليه وما الذي
بقي بين يديه من الاخطار وحبائل الاغترار فاعلم انه بقي عليه اعظمه وهو
ان الشيطان يقول له قد اعجزتني وافلت مني بذكائك وكمال عقلك وقد قدرت
على جملة من الاولياء والكبراء وما قدرت عليك فما اصبرك! وما اعظم عند
الله قدرك ومحلك اذ قواك على قهري ومكنك من التفطن لجميع مداخل غروري!
فيصغي اليه ويصدقه ويعجب بنفسه في فراره من الغرور كله فيكون اعجابه
بنفسه غاية الغرور وهو المهلك الاكبر فالعجب اعظم من كل ذنب ولذلك قال
الشيطان يا ابن ادم اذا ظننت انك بعلمك تخلصت مني فبجهلك قد وقعت في
حبائلي.
فان قلت فلو لم يعجب بنفسه اذ علم ان ذلك من الله تعالى لا منه وان
مثله لا يقوى على دفع الشيطان الا بتوفيق الله ومعونته ومن عرف ضعف نفسه
وعجزه عن اقل القليل فاذا قدر على مثل هذا الامر العظيم علم انه لم يقو
عليه بنفسه بل بالله تعالى فما الذي يخاف عليه بعد نفي العجب فاقول
يخاف عليه الغرور بفضل الله والثقة بكرمه والامن من مكره حتى يظن انه
يبقى على هذه الوتيرة في المستقبل ولا يخاف من الفترة والانقلاب فيكون
حاله الاتكال على فضل الله فقط دون ان يقارنه الخوف من مكره ومن امن مكر
الله فهو خاسر جداً بل سبيله ان يكون مشاهداً جملة ذلك من فضل الله ثم
خائفاً على نفسه ان يكون قد سدت عليه صفة من صفات قلبه من حب دنيا ورياء
وسوء خلق والتفات الى عز وهو غافل عنه ويكون خائفاً ان يسلب حاله في كل
طرفة عين غير امن من مكر الله ولا غافل عن خطر الخاتمة.
وهذا خطر لا محيص عنه وخوف لا نجاة منه الا بعد مجاوزة الصراط.
ولذلك لما ظهر الشيطان لبعض الاولياء في وقت النزع وكان قد بقي له نفس
فقال افلت مني يا فلان فقال لا بعد.
ولذلك قيل الناس كلهم هلكى الا العالمون والعالمون كلهم هلكى الا
العاملون والعاملون كلهم هلكى الا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم.
فاذن المغرور هالك والمخلص الفار من الغرور على خطر فلذلك لا يفارق الخوف
والحذر قلوب اولياء الله ابداً.
فنسال الله تعالى العون والتوفيق وحسن الخاتمة فان الامور بخواتيمها.
تم كتاب ذم الغرور وبه تم ربع المهلكات ويتلوه في اول ربع المنجيات
كتاب التوبة والحمد لله اولاً واخراً وصلى الله وسلم على من لا نبي
بعده وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.