جلسة 9/6/2020.
بسم الله الرحمن الرحيم
قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴿11﴾
حصل نقاش في الجلسة الماضية حول النبي يعقوب عليه السلام وهل هو إسرائيل الذي سمي بنو إسرائيل باسمه أم هو شخص أو نبي آخر. في الواقع ما كنت راغبا في بحث الموضوع وكنت أفضل عدم الخوض فيه ولكن الإخوة في الواحة أدخلوني فيه ولعل ذلك خير. موضوع حقيقة إسرائيل مدار بحث واسع بين المحققين قديما وحديثا ولكن في النهاية فإن غالبية المفسرين إن لم يكن كلهم يعتقدون بأن يعقوب هو إسرائيل. وأنا أظن ذلك أيضا. وسوف أمر إجمالا على الآراء المتباينة ثم أوضح ما أفهمه من القرآن الكريم.
1. التوراة كما حقق فيها أخي المهندس عبد الرضا الصباغ يقر بأن إسرائيل هو يعقوب. إنهم يعتقدون بأن يعقوب رأى ذات ليلة شخصا يسعى للمصارعة معه بغية إلقائه على الأرض. تصارعا طيلة الليل وفي الفجر أو قبله أسقط يعقوب ذلك المصارع فقال له بهذا المعنى: ما الذي فعلت أنا ربك فكيف تسقطني في المصارعة؟ من هنا أسموه أو أسماه ربه كما زعموا إسرائيل، باعتبار أن إسر أو أسر يعني غلب وإيل يعني الله تعالى فهو الذي غلب ربه ولذلك فهو إسرائيل. معاذ الله.
ومع احترامي لإخواننا من أهل الكتاب فإن القصة في منتهى السخافة ولا ينطبق مع منطق العقل السليم ولا مع منطق الذوق السليم. فهل يصارع الله تعالى أحدا وهل هو سبحانه جسم يمكن لأحد مصارعته؟ ولماذا يصارع الرب عبده يعقوب؟ هل هو جل جلاله يلعب؟ تلك مساس واضح بالساحة القدسية جل جلاله ومن خير المسيحيين واليهود اليوم أن يحذفوها من العهد القديم.
أنا لا أعرف العبرية ولكن لو كان معنى إسرا أو أسر هو الغلبة فالكلمة تعني قهر الله تعالى ليعقوب وليس العكس. يعقوب عبد من عبيد الرحمن ليس أكثر، ولكنه عليه السلام عبد طيب وإنسان مخلص وعابد يخشى ربه. الله تعالى هو القاهر فوق عباده.
ولكن بالمناسبة أقول لكم بأن الله تعالى يستعمل الأسماء التي يطلقها الآباء على أولادهم فيما عدا من سماهم سبحانه بنفسه مثل يحيى أو المسيح. فمثلا محمد هو ليس اسما مناسبا لنبينا عليه السلام والأنسب هو أحمد. باعتبار أن أحمد يعني كثير الحمد فهو الذي تسلم أعظم كتاب في هذا الكوكب فهو كثير الحمد لنعمة ربه طبعا. ولكن محمد قبل أن يكون اسما جامدا فهو مشتق من حمد يحمد وهو اسم مفعول للحمد ومعناه الذي يُحمد كثيرا وليس الذي يَحمد كثيرا. ولعلكم تعرفون بأن الحمد في العربية تدل على الثناء على الجميل الاختياري كما قال أهل المنطق وبرأيي الحمد هو الثناء على الجميل الذي لا يستفيد منه صاحبه. وعلى كلا المعنيين فالله تعالى يستحق أن يُوصف بالمحمد وليس نبينا الفقير إلى الله تعالى. بالطبع أننا كبشر لا نصفه بما لم يصف سبحانه به نفسه ولكنني قلت ذلك من باب عدم صلاحية الاسم لرسولنا المصطفى عليه السلام.
2. يعتقد بعض المحققين المسلمين قديما وحديثا أيضا بأن إسرائيل من أبناء آدم وهو قبل نوح. ولعل بعضهم يظن بأنه على كل حال قبل يعقوب. ظنوا ظنا خاطئا في فهم الآيات التالية من سورة المائدة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ َلأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
إلى قوله تعالى:
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32).
ظنوا ظنا خاطئا بأن الحكم التشريعي نزل مباشرة بعد جريمة القتل الأولى بين ولدي آدم. ليس في القرآن الكريم أي ذكر لأي تشريع سماوي قبل موسى عليه السلام. صحف إبراهيم وهن أول الصحف السماوية ليست صحفا لعامة الناس. وحينما وصل يوسف إلى السلطة فإنه تحدث كالأنبياء السابقين عن ترك عبادة الأوثان والتعويض عنها بعبادة الرحمن. لم يتحدث يوسف عن أي تشريع لأهل مصر ولم يقل لهم بأنه استلم كتابا سماويا لهم كما حصل لموسى بعد فترة من رسالته. لو كان مثل تلك الرسالة الكتابية موجودة لكان من واجب موسى أن ينشرها بين بني إسرائيل. لكن الله تعالى استند إلى ذلك القتل ليشرع لبني إسرائيل تحريم قتل النفس الإنسانية وبأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا. التشريع يُعلل بكامل حكاية ولدي آدم من المناقشة والمخاصمة والقتل ثم الدفن والندم بعد كل ذلك. وليس لدينا وقت لنشرح الموضوع في هذه الجلسة.
3.
ظن البعض بأن إسماعيل ليس هو ابن إبراهيم باعتبار أنه سبحانه ذكر عدة مرات بأنه وهب له إسحاق ويعقوب. والواقع أن إسماعيل هو استجابة دعاء إبراهيم ولكن الله تعالى بعد ذلك منحه من عنده إسحاق ويعقوب. قال تعالى في سورة الصافات: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113).
والله تعالى وصف إسماعيل بالغلام الحليم. ولكنه سبحانه وصف إسحاق بالغلام العليم كما في سورة الحجر: قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53). وفي سورة الذاريات: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28).
ولعل من يظن بأن وهب لا يعني منح الأولاد بل يعني منح الأصدقاء أو الأتباع. وهو غير صحيح طبعا. قالوا ذلك ليقولوا بأن قول إبراهيم كما في سورة إبراهيم لا يدل على أن إسماعيل ابنه: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39). قولهم ذلك يدل فقط على أن لديهم حكما مسبقا بأن إسماعيل ليس هو ابن إبراهيم ويسعون لتوجيه الآيات الكريمة. يستدلون على قولهم الخاطئ بالآية التالية من سورة مريم: وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53). آية سورة مريم تصرح بأن الموهبة تتعلق بنبوة أخيه وليس ببنوة شخص لموسى. ولكن الهبة بالنسبة لشخص بصورة عامة تعني الأولاد قطعا. هذا ما يمكن ملاحظته من كيفية استعمال جذر الهبة في القرآن الكريم.
ثم إن إبراهيم حمد ربه على أن وهبه إسماعيل وإسحاق فكيف يمكن الفصل بينهما بأن الأول صديقه والثاني ابنه؟ وهل الصديق أو التابع الديني مملوك أو موهوب أبديا للشخص. إنه قد يكفر به في المستقبل ولكن هبة الولد لا يمكن التخلي عنها إطلاقا.
4.
ظن البعض بأن إسرائيل ليس فقط محروما من النبوة بل هو إنسان عاص اعتمادا على الآية التالية من سورة آل عمران: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93). والواقع أن إسرائيل لم يحرم حلالا كما ظن المحقق المخطئ ولكنه حرمه على نفسه. ذلك يعني بأنه كان يكره لحم الجمل فامتنع منه. تشير الآية بأن بني إسرائيل كان يكرهون لحم الجمل مثل أبيهم فحرموه وأضافوا التحريم إلى التوراة. والتوراة كتاب تشريع سماوي عام للإنس والجن أُنزل بعد حوالي ألف سنة من وفاة يعقوب. والتوراة غير المحرفة التي كانت موجودة لدى بني إسرائيل وهم يخفونها لم تحرم لحم الجمل. فتحريم إسرائيل لحم الجمل على نفسه ليس إثما ولا ذنبا ولا خطأ ولا ترك أولى، ولكن تحريف التوراة من قبل بني إسرائيل إثم قطعا.
5. آيات سورة الأنعام التالية لا تدل على أن المذكورين أبناء إبراهيم بل هم أبناء نوح فيما عدا إسحاق ويعقوب: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86).
6.
وأما قولهم بأن إسماعيل هو ابن الأمَة هاجر ولكن إسحاق هو ابن الحرة سارة فهو من الإسرائيليات، وأظن بأن بني إسرائيل أرادوا أن يعيرونا نحن الذين انحدرنا من إسماعيل بأبناء الإماء وبأنهم أبناء الحرائر، اختلقوا تلك القصص الوهمية. لا يجوز لإبراهيم شرعا أن ينام مع أمة وهو متزوج من حرة. ذلك لأن الله تعالى أباح الزواج من أمة فقط لمن خشي العنت وإبراهيم كان متزوجا من سارة ولا مجال للعنت وهو لم يكن في سن الشباب بنص القرآن الكريم. قال تعالى في سورة النساء: وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (25).
فلا توجد امرأة اسمها هاجر في حياة إبراهيم. إن إسماعيل وإسحق ولدان لإبراهيم وسارة كما أظن والعلم عند الله تعالى. ولعلكم تعلمون بأن الدين واحد عند الله تعالى ومعلوم عند رسله جميعا. قال تعالى في سورة فصلت: مَا يُقَالُ لَكَ إِلاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43).
7.
الخلاصة بأننا لا نجد في القرآن الكريم أي تصريح بأن إسرائيل هو يعقوب. لكن كل المفسرين تقريبا وكل اليهود تقريبا يقرون بأن إسرائيل هو نفس يعقوب. ولا ننس المسيحيين الذين يؤمنون بأن بني إسرائيل هم أولاد يعقوب. فمن الصعب أن يتشبث أحد بالاحتمالات ويقول بأن إسرائيل هو شخص آخر غير يعقوب.
ولنا في الآية التالية من سورة آل عمران دليل واضح على أن إسرائيل هو نفس يعقوب: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93). اليهود حتى يومنا هذا لا يأكلون لحم الجمل. ولقد غيروا التوراة الأصلية ليثبتوا فيها حرمة لحم الجمل. ويقول لهم الله تعالى بأن تحريم لحم الجمل غير مثبت في التوراة الأصلية المنزلة من عند الله تعالى. ونرى وجدانا من القرآن ومن تاريخ اليهود بأنهم تعاملوا مع أبيهم يعقوب تعامل القطيع مع الراعي. فهل من المعقول القول بأن بني إسرائيل كرهوا لحم الجمل باعتبار يعقوب أم باعتبار شخص آخر قديم قدم نوح أو ما قبل نوح؟ نحن نجهل طعام الأقدمين في الواقع. ومسألة أن يكون يعقوب هو إسرائيل مظنون على الأقل ولكن شخصا قبله غير مظنون بل هو مجرد افتراض من بعض الذين يكتبون دون تقديم أي دليل على ادعائهم.
قال تعالى في سورة مريم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58). لو قرضنا بأن هناك ترتيبا خاصا للآية تبدأ من المتقدم وتنتهي بالمتأخر فهي حينئذ تدل على أن إسرائيل بعد إبراهيم. فهو تواجد بعد إبراهيم عليه السلام وليس قبله. آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم إسرائيل.
تذرع أحد المحتجين بالآية التالية من سورة الإسراء لإثبات أنهم متفرقون جينيا: وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104). والواقع أن الآية الكريمة تسند وجود دولة إسرائيل وتخبر بها. ذلك لأن اللفيف تعني المضموم بعضه إلى بعض، وهذا ما فعله بنو إسرائيل حيث جمعوا شتاتهم من أطراف الأرض إلى أرض فلسطين ومنحوهم جنسيات أو جوازات إسرائيلية.
وجدير بالذكر أن القرآن الكريم يخبرنا عن تجمع بني إسرائيل في مكان ما أخيرا كما في الآية أعلاه وقد حصل فعلا. وتخبر بأن هناك ترويع لهم من قبل كما في الآيتين التاليتين من نفس سورة الإسراء: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5). وقد حصل فسادهم ولا سيما في ألمانيا كما حصل ترويعهم وقتل الكثير منهم على يد المجرم هتلر. ويقول تعالى في نفس سورة الإسراء بأنهم سوف يحصلون على مال وأولاد ثم يدخل غيرهم المسجد: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ ِلأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7). هذا الغير هم المسلمون باعتبار أنه تعالى يقول: كما دخلوه أول مرة. والمسلمون دخلوا المسجد الأقصى أيام الخليفة عمر رضي الله عنه. ومن الغريب أن اليهود كانوا مطرودين من القدس طيلة الحكم البيزنطي ولكن المسلمين فتحوا الباب لبني إسرائيل واليهود عامة ليصلوا في القدس بعد أن دخلوه أول مرة. والله تعالى يخبرنا كما أظن بأن المسلمين سوف يفتحون المسجد من جديد بعد أن يأتي ببني إسرائيل لفيفا من كل مكان وبعد أن يفتحوه سوف يسمحوا لليهود بإقامة شعائرهم بكل حرية وهذا قد يكون وجه التماثل بين الدخول الأول والدخول الثاني للمسلمين. كما دخلوه أول مرة قد تشير إلى هذا الاحتمال.
والآن نعود إلى الآية الكريمة لنبدأ بشرحها:
قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12). يفتخر بنو إسرائيل اليوم بأنهم من أولاد يعقوب وكأن بنوة يعقوب فخر لا يعادله أي فخر. أو أن بنوة يعقوب دليل على صحة المرء وسلامته وشرفه على الآخرين. بالطبع أن أسرة بني إسرائيل قائمة على هذا الأساس. ولكن لا يوسف ولا يعقوب كانا مهتمين بتلك الفكرة الخاطئة التي ملأت أفكار إخوان يوسف من غير أمه. إن لحنهم مع أبيهم يوضح لنا بأن الأب العجوز ما كان يثق في آباء بني إسرائيل. إنهم أحفاد إبراهيم وإسحق بصورة مباشرة فلو كان لبنوة الطيبين فضل لما رأينا الإخوة يتآمرون ضد أخيهم. يفصل الله تعالى لنا حكاية تلك الأسرة العريقة المعروفة ليقول لبني إسرائيل وللمسلمين بأن الرادع العائلي ليس قويا بحيث يمنع الأبناء من القيام بأبشع الأعمال.
والمشكلة بأن ذلك الداء المستشري لم يبق في أسرة إسرائيل عليه السلام بل انتقل العدوى إلى أسرة محمد عليه السلام. نحن أيضا نقول أهل بيت النبي، سلالة الرسول، السادة العلويون والحسنيون والحسينيون والموسويون وغيرها. لقد صدق الشاعر العربي:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي
واضح جدا بأن المتآمرين في شك من أن أباهم يثق فيهم. أين أسرة الرسالة وأين أحفاد إبراهيم يا إسرائيل؟ قالوا: مالك لا تأمنا. تعني الجملة بأنك لا تأمنا ولكن لِمَ لا تأمنا؟ تأمن تعني تثق في أن المقابل أمين يحافظ على الأمانة إلى أقصى الحدود باعتباره أمانة مودعة عنده. ثم أضافوا: وإنا له لحافظون. بمعنى أنهم سوف يحرصون على وقايته وحفظه من كل ما يمكن أن يضر به. اللام للتأكيد واسم الفاعل لإثبات أن شيمتهم ذلك فلا يمكن أن يفرطوا فيه إلا إذا تخلوا عن الشرف والعزة العائلية كاملة.
أرسله معنا دليل على أن يوسف لم يبلغ الحلم ولم يكن قادرا على حماية نفسه أو التفكر بعمق فيما يُعرض عليه. ولذلك فإن أباه وصي عليه وصاية طبيعية. وأحتمل بأنهم قد تحدثوا مع يوسف وشجعوه على مصاحبتهم ولكن يوسف أحال موافقته إلى والده إذ ليس من حقه أن يأخذ قرارا بالسفر مهما كان قصيرا بدون إذن أبيه. ثم أضافوا:
وإنا له لناصحون. بمعنى أنهم يريدون مصلحة يوسف ليتمتع في التنزه واللعب ويزداد نشاطا بالسفر إلى البرية. وبعد أن رأى المتآمرون بأن يعقوب أصبح مستعدا ليستمع إلى اقتراحهم محددة بالزمن قالوا:
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿12﴾.
الرتع يعني يأكل من نبات الأرض أو من النباتات الطبيعية التي تنمو في البرية ولذلك يُستعمل غالبا في الماشية ولكن يجوز استعماله في الإنسان. والأرض الفلسطينية كانت ولا زالت خصبة مليئة بخيرات الطبيعة.
يبدو بأن يعقوب أظهر بعض الرضا ولكنهم رأوا بأن قلب يعقوب مرعوب من العملية خوفا على يوسف. ولذلك عطفوا على طلب إرساله معهم بأنهم له لحافظون. بمعنى أنهم سوف يبذلوا جهدا كاملا في حمايته ورعايته.
يظهر لي من مقولاتهم بأنهم طيلة الفترة التي بدأوا فيها بالحديث عن التخلص من يوسف فإنهم كانوا يسعون لإدخال الثقة في قلب أبيهم بأنهم جادون متعاضدون يحبون أسرتهم ويتفانون في سبيل إسعاد الأسرة. فما حدا بيعقوب أن يقول التالي:
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴿13﴾. الحزن مسألة نفسية تعبر عن حالة نفسية لا يمكن تفاديه إلا بإزالة أسبابه. فالحزن يعم الهم وكل مظاهر الفرح في القلب. أراد يعقوب إثبات أن الحزن والكآبة حاصلة إذا غاب يوسف عن عينه إضافة إلى خوفه عليه.
أليست تلك الجملة مشعرة بالمزيد من الاهتمام بشأن يوسف وفي المقابل مشعلة لنار الحقد والحسد في قلوب الإخوة المتآمرين؟
واقع الأمر أن يعقوب كان على علم كامل بأن يوسف في أمان من الموت. فلا يهمه أن يخفي حبه الخاص ليوسف أمام إخوانه. ثم إنه في صدد إثبات اهتمامه بيوسف لعلهم يخافوا من المساس بيوسف بأي سوء. ثم إنه عليه السلام في صدد اختبار أولاده قبل أن يقدموا على أمر خطير يؤثر في آخرتهم وفي لقائهم مع الله تعالى.
وبالنتيجة ما الذي يريده الإخوة من يعقوب بعد يوسف. إنهم يريدون أن يروا يعقوب مقبلاً إليهم أكثر من ذي قبل. ولذلك قال لهم بأن غياب يوسف سوف يحزنه فلا ينتظر أحد منه أن يرى وجها ضاحكا من يعقوب إذا ما غاب يوسف.
لم يكتف يعقوب ببيان ما يصيبه من ألم بل أراد أن يلقي في أذهانهم بأن أباهم غير واثق من تعهدهم في حماية يوسف. فقال بأنه يخاف من أن يأكله الذئب واتهمهم بأنهم قد يغفلوا عنه بل سيغفلون عنه. والذئب من الحيوانات المفترسة القديمة التي سكنت فلسطين منذ 300000 عاما كما يقول المحققون الأجانب. ولعل الذئاب كانت قادمة من الهند في الأيام الخالية، ولو أنها تسمى الذئاب العربية. ولذلك فإن البرية الفلسطينية لم تكن آمنة للصغار.
وحينما نمعن في المناقشة بين يعقوب وأولاده نستيقن بأن الأبناء كانوا حمقاء فعلا. يبدو لي بأن غالبية الإسرائيليين على الرغم من تفوق بعضهم علميا فإنهم حمقاء أيضا. كان المفروض عليهم أن يتوقفوا عن تنفيذ المؤامرة لأن يعقوب قد أخبرهم بما يمكن أن يصدر منهم في النهاية. إنهم من حمقهم لم يتمكنوا من إيجاد مخرج آخر للقضية ولكنهم كرروا نفس القضية كما توصلوا إليه ولم يغيروا المؤامرة.
قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴿14﴾. مرة أخرى أظهروا لأبيهم بأنهم عصبة متعاضدون. بمعنى أن ما يصدر منهم لا يمكن أن يكون نتيجة خطأٍ أو قلة حيلة لأنهم يتكاتفون في كل أمورهم. بمعنى أنهم ألقوا في ذهن أبيهم بأن الغفلة قد تنتاب فردا أو فردين ولا يمكن أن تنتاب عصبة قوية متعاضدة متعاونة. إنهم عمليا أثبتوا بأن بني إسرائيل لا يحملون أي نوع من مكارم الأخلاق. إنهم لأبسط مصلحة يتكاتفون ضد أضعف إنسان أو أضعف حيوان. فلا شيمة عندهم. فقولهم صحيح جدا بأنهم في حال حدوث ضرر ليوسف سيُعتبروا خاسرين باعتبار أنهم مجموعة متلاحمة متعاونة.
هذه صفة رذيلة نراها كثيرا عند بني إسرائيل وعند من يسير بمشورتهم. نرى اليوم بأن السياسة الأمريكية الفاشلة تتبع سياسة شرذمة فاسدة من بني إسرائيل فنرى دولة تُظهر قوة ضد فرد ضعيف ونرى النظام الفاسد يؤيد تلك الخطوة الحقيرة. فما نراه في إسرائيل ضد أصحاب الأرض هو عينا ما نراه في أمريكا ضد أصحاب الأرض الأصليين. وما سمعناه عن القومين في ماضي الأيام من القسوة البالغة ضد الشعب الفلسطيني وضد الهنود الحمر من سعي للإبادة الجماعية تُظهر لنا خساسة القومين الفاسدين. أنا لا أريد المساس بكرامة بعض اليهود الطيبين فيوسف ويعقوب والأخ الأكبر كانوا طيبين فعلا كما لا أريد أن أمس كرامة كل الأمريكيين فنرى بعض البيض اليوم يتظاهرون حماية للسود المظلومين. لكنني أتحدث عن النظامين القاسيين البعيدين عن القيم الإنسانية والتي نراهم يتبجحون إعلاميا بأنهم من أصحاب القيم والشيم. لقد كذبوا ويكذبون كما كذب إخوان يوسف.
نهاية جلسة 9/6/2020.
احمد المُهري