|
|
|
| | |
|
|
|
| |
العلاج بسورة يس 7 أسرار جربها الآن وراقب النتيجة
|
|
|
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله حمداً كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، والصلاة والسلام على رسوله الذي أرسله بالحق شاهداً ومبشراً ونذيرا، وهادياً بإذنه وسراجاً منيرا، وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
تفسير سورة الفاتحة المباركة
مقدمة الناشر
أما بعد .
فها نحن نقدم للقارئ العزيز، الطبعة الثانية البيروتية من "تفسير سورة الفاتحة" بعد طبعته الأولى في مدينة قم المقدسة، والتي بات من الواضح أنها عبارة عن دروس يقدمها سماحة العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي (دام ظله) في درسه التفسيري الأسبوعي.
وتفسير هذه السورة هي أول إصدارات هذه السلسلة، لكن لما كانت الطبعة الأولى قد صدرت في قم المقدسة، وحيث أن المركز الإسلامي للدراسات قد ارتأى نشر جميع هذه السلسلة في بيروت ، فقد بات من الضروري إعادة طبع هذا الكتاب في بيروت أيضاً ليتسنى للقارئ العزيز الحصول عليها، لا سيما وأن العلامة المحقق يحيل في بعض الأحيان إلى ما ذكره في تفسير هذه السورة.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن المركز الإسلامي للدراسات، قام وبالتنسيق مع سماحته (حفظه المولى) بإجراء بعض الإضافات الضرورية التي كان لابد منها في بعض الموارد لزيادة البيان وإيضاح المقصود.
فضلاً عن القيام بتصحيح ما كانت قد عانت منه الطبعة الأولى من أخطاء.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتولانا بلطفه ويوفقنا لما يحب ويرضى، إنه نعم المولى ونعم النصير.
المركز الإسلامي للدراسات
تقديم:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، وبعد.
فهذه دروس حول آيات سورة الفاتحة خصصت لبعض الاخوة الأعزاء من شبابنا الأكارم في بلدة عدشيت. وقد استخرجها ـ مشكوراً
الأخ وفيق سعد من أشرطة التسجيل، وبذل في سبيل ذلك جهداً ووقتاً ، على أمل أن يتم تكثيرها، وتوزيعها على بعض الإخوة الراغبين.
ثم تأكدت الرغبة في نشرها، فلحقها بعض الإصلاحات لعباراتها،والتنظيم لفقراتها، الذي يؤهلها لأن تكون مفهومة لمن يريد الإطلاع عليها.
ونريد أن نذكر القارئ الكريم هنا بأننا لم نستفد من كتب التفسير كثيراً . بل إن مراجعتنا لها تكاد لا تستحق التنويه بها؛ ولأجل ذلك فإن القارئ لن يستفيد كثيراً من هذه الدروس، إذا كان يرغب في الإطلاع عل أقوال المفسرين، وعلى الأمور التي اعتادوا التركيز عليها، والإهتمام بها.
وبعد، فإنني لا أستطيع أن أطلق على هذه الدروس اسم (تفسير). وإنما هي مجرد مشاعر وخواطر، يمكن تلمس مناشئها وتداعياتها في دلالات سورة الفاتحة، التي هي أم الكتاب العزيز، والسبع المثاني.
وأرجو أن أكون قد وفقت في هذه المحاولة، التي سوف يلمس فيها القارئ الكريم إصراراً على الإلتزام بالأجواء القرآنية، وعدم الإنسياق، في رحاب المعاني إلى درجة تجاوز حدود المداليل والإيحاءات للآيات الكريمة. كما قد يحدث أو حدث ذلك بالفعل لبعض من تصدى لتفسير القرآن الكريم، أو لتفسير بعض سوره.
ومهما يكن من أمر، فعلى الأقل لا يمكن أن يعتبر هذا الإنجاز هو النموذج الأفضل للتفسير. فقد يحتاج إلى الكثير من التقليم والتطعيم.وقد نستفيد كثيراً من ملاحظات الإخوة الأعزاء حفظهم الله تعالى، ونحن لهم سلفاً من الشاكرين.
وفقنا الله جميعاً لصواب القول، وصلاح الفعل، وخلوص القصد.
والحمد لله، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.
20 شهر رمضان المبارك 1516 هـ.ق.
جعفـر مرتضى العاملي
تمهيد:
أحببت هذه المرة أن أخالف المألوف، وأتمرد على ما هو معروف، حيث إنني لا أريد أن أكتب في هذا التمهيد شيئاً من عند نفسي، بل أريد فقط أن أورد بضع روايات عن أهل بيت العصمة توضح لنا التفسير، وشرائطه، ومناهجه.
والذي زاد من رغبتي في ذلك هو أنني لم أر أحداً من المفسرين حاول أن يركز اهتمامه على هذه الروايات، رغم أنها من الأهمية بمكان.
وهذه الروايات التي اخترتها هي التالية:
1 _ روي عن الإمام الصادق، وكذا عن الإمام الحسين عليهما السلام: أنه قال:
(كتاب الله على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة،واللطائف، والحقائق. فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء) [1].
2_ لقد أوضح أهل بيت العصمة: أن على المفسر أن يبحث عن معنى الكلمات والتراكيب في الاستعمالات المتداولة بين الناس من مختلف الفئات والقبائل، ليعثر على القاسم المشترك الذي يمكن للجميع من خلاله أن يتلمسوا المعنى المراد، لأن الاقتصار على لغة فريق معين، أو قبيلة بعينها، ربما لا يكون مجدياً أن لم يكن سبباً في الإبتعاد عن المعنى الحقيقي والمراد أحياناً.
والمثال الذي نورده هنا: هو أنه قد روي أن بعضهم كان في مجلس الإمام السجاد عليه السلام، فقال له: يا ابن رسول الله، كيف يعاقب الله ويوبخ هؤلاء الأجلاف على قبائح أتى بها أسلافهم، وهو يقول: }ولا تزر وازرة وزر أخرى{ [2]؟!.
فقال عليه السلام: (إن القرآن نزل بلغة العرب، فهو يخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميمي ـ قد أغار قومه على بلد ، وقتلوا من فيه: أغرتم على بلد كذا، وفعلتم كذا.
ويقول العربي: نحن فعلنا ببني فلان، ونحن سبينا آل فلان، ونحن خربنا بلد كذا.
لا يريد أنهم باشروا ذلك. ولكن يريد هؤلاء بالعذل، وأولئك بالامتحان (الافتخار) أن قومهم فعلوا كذا.
وقول الله عز وجل في هذه الآيات إنما هو توبيخ لأسلافهم، وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين، لأن ذلك هو اللغة التي نزل بها القرآن، ولأن هؤلاء الأخلاف أيضاً راضون بما فعل أسلافهم، مصوبون ذلك لهم؛ فجاز أن يقال لهم: أنتم فعلتم، إذ رضيتم قبيح فعلهم) [3].
وعن الصادق عليه السلام: }نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة{ [4].
3_ قد أشاروا عليهم السلام إلى ضرورة معرفة خصوصيات كل لفظ، وسر اختياره لموقعه دون سواه، فقد روي: أنه لما نزل قوله تعالى: }إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم{ [5] قال ابن الزبعرى:فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى (عليه السلام).
فأُخبر النبي(ص) فقال: يا ويل أمّهِ! أما علم أن (ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعقل الخ [6] .
وحينما سأل بعضهم الإمام الصادق ـ أو الباقر ـ عليهما السلام عن المسح في الوضوء، فقال له: من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟! وبعض الرجلين ؟! قال عليه السلام: لمكان الباء [7]. أي في قوله تعالى:
}وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين{ [8] .
4_ إن الطهارة من الذنوب أيضاً تعين على فهم القرآن؛ ففي دعاء ختم القرآن المروي عن السجاد عليه السلام: (واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً. ومن نزعات الشيطان، وخطرات الوسواس حارساً. ولأقدامنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً. ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً. ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً).
ولما طوت الغفلة عنا من تصفح الاعتبار ناشراً. حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه، وزواجر أمثاله الخ. [9].
5_ وثمة رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يذم فيها الغاصبين، ذكر فيها(ع) أصول التفسير، وشروطه التي لابد من الوقوف عندها، والانتهاء إليها، والانطلاق منها. وهي رواية مهمة جداً، نذكر إحدى فقراتها، وهي التالية:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام:أنه قال في جملة حديث له:
(وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ، وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالمتشابه، وهم يرونه أنه المحكم، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام، واحتجوا بأول الآية، وتركوا السبب في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام والى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره، إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلّوا وأضلّوا.
واعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ، والخاص من العام والمحكم من المتشابه، والرُّخص من العزائم والمكي من المدني، وأسباب التنـزيل، والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة، وما فيه من علم القضاء والقدر، والتقديم والتأخير، والمبين والعميق، والظاهر والباطن والابتداء والانتهاء، والسؤال والجواب، والقطع والوصل، والمستثنى منه والجاري فيه، والصفة لما قبل مما يدل على ما بعد، والمؤكد منه، والمفصّل، وعزائمه ورخصه، ومواضع فرائضه وأحكامه ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون، والموصول من الألفاظ، والمحمول على ماقبله، وعلى ما بعده، فليس بعالم بالقرآن، ولا هو من أهله، ومتى ما ادّعى معرفة هذه الأقسام مدّع بغير دليل، فهو كاذب مرتاب، مفتر على الله الكذب ورسوله، ومأواه جهنم وبئس المصير [10].
هذه هي الروايات التي أحببت أن أقدمها أمام تفسير سورة الفاتحة، (إن صح إطلاق اسم التفسير على هذه المطالب). ولا أريد أن أضيف عليها شيئاً.
إلفات نظر لا بد منه
إننا نذكر القارئ الكريم بالأمور التالية:
الأول: إن مراجعتنا لكتب اللغة أحياناً، إنما كانت من أجل الاطلاع على موارد استعمالات الألفاظ أو التراكيب، وذلك للتعرف على آفاق المعنى وحدوده، وإلماحته، وإشاراته، وإيحاءاته. لأن ذلك مهم جداً في نيل المعاني القرآنية، وتحديد مدلولات مفرداتها، وتراكيبها على حد سواء.
هذا. إلى جانب لزوم ملاحظة الاستعمالات القرآنية، والتوفر التام على مناحي وجهات الاستعمالات فيه للفظ، أو للتركيب الذي هو محط النظر، بهدف اكتشاف الحدود والقيود أو حتى المنحى القرآني الخاص، بما له من مزايا وحالات، قد تختلف في مراميها ومغازيها عن غيرها مما هو معروف ومألوف، ومتداول.
الثاني: إننا قد حاولنا: أن نقوم ببعض المقارنات فيما بين البدائل اللفظية، التي يمكن اقتراحها، أو الإلتجاء إليها، ثم تحديد الفوارق التي يمكن تلمسها بين اللفظ المختار،وبين اللفظ الآخر، الذي يفترض كونه بديلاً.
وقد شعرنا من خلال ذلك: أن هذه المحاولة تسهم في وضوح وتحديد المعنى القرآني بصورة ظاهرة، من حيث انها تساعد على اكتشاف الخصوصيات التي لها مساس بالمعنى المدلول،وتؤثر في معرفة حدوده وآفاقه.بل وقد تساعد على تحديد مناشئه وغاياته. هذا ان لم تكن قد ساعدت على انتاج معانٍ جديدة من خلال إيحاءاتها المختلفة، ودلالاتها، التي تستند الى وسائل تعبيرية لم يسبق أن خضعت للتحديد في معاجم اللغة، ولا في علومها المتداولة.
الثالث: إننا نتمنى على القارئ الكريم أن يتابع فصول الحديث عن سورة الفاتحة الى نهايته، لأن هذه السورة المباركة كل لا يتجزأ، يسهم آخره في فهم أوله، وأوله يساعد على فهم واستكناه حقيقة المراد من آخره.
فقد حددت هذه السورة المباركة كل الملامح لحياة هذا الإنسان بكل فصولها وأبعادها، من البداية الى النهاية، وأختصرت كل الخطة الإلهية في هدايته لهذا الإنسان ليقوم بدوره على النحو الأكمل والأمثل والأفضل في هذا العالم العتيد.
علي (ع) وتفسير سورة الفاتحة، والبسملة:
عن علي عليه السلام : }لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب{[11].
وعنه عليه السلام: }لو شئت لأوقرت بعيراً من تفسير بسم الله الرحمن الرحيم{[12].
وفي حديث آخر عنه: }لو شئت لأوقرت أربعين بعيراً من شرح : بسم الله{[13]
وفي نص ثالث عنه عليه السلام: (لو شئت لأوقرت ثمانين بعيراً من معنى الباء [14] .
وعن ابن عباس قال: (يشرح لنا علي(ع) نقطة الباء من "بسم الله الرحمن الرحيم" ليلة؛ فانفلق عمود الصبح، وهو بعد لم يفرغ) [15] .
ونقول:
1_ انه قد لا يكون ثمة منافاة بين البعير الواحد، والأربعين والثمانين بعيراً؛ إذا كان(ع) قد قال ذلك في مجالس ومناسبات مختلفة، اقتضت كل مناسبة منها أن يشير الى مستوى معين من المعاني والمعارف بل وحتى في مجلس واحد، فإن ذكر الأقل لا ينافي ذكر الأكثر ولا يناقضه. فهو لو شاء لأوقر بعيراً، ولو شاء لأوقر أكثر من ذلك الى أربعين. بل لو شاء لأوقر ثمانين أيضاً.
2_ إن سعة علم علي عليه السلام وغزارته مما لا يختلف فيه اثنان. وقد أثبت عليه السلام عملاً ما يقرِّب إلى الأذهان معقولية تلك الأقوال وواقعيتها.
3_ إنه عليه السلام بقوله هذا يريد أن يفتح الآفاق الرحبة أمام فكر الإنسان لينطلق فيها، ويكتشف أسرار الكون والحياة، ويتعامل معها من موقع العلم والمعرفة ويقود مسيرة الحياة فيها من موقع الطموح والهيمنة الواعية والمسؤولة.
4_ إن هذه الأرقام ليست خيالية بالنسبة لسورة الفاتحة، التي هي أم القرآن، وهي السبع المثاني التي جعلت عدلاً للقرآن العظيم في قوله تعالى: }ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم{ [16] كما روي[17].
كما أن ذلك ليس بعيداً عن بسم الله الرحمن الرحيم، أعظم آية في كتاب الله العزيز. كما روي عن الإمامين الصادق وأبي الحسن الكاظم عليهما السلام [18] .
5_ أما بالنسبة لحديث نقطة الباء فلا ندري مدى صحته، بعد أن كان المؤرخون يذكرون أن تنقيط الحروف قد تأخر عن عهد علي عليه السلام بعدة عقود من الزمن. إلا أن يكون ثمة نقط لبعض الحروف في أول الأمر، ثم استوفي النقط لسائرها بعد ذلك.
مناوئوا علي عليه السلام وحساده:
وحين رأى حساد علي عليه السلام ومناوئوه المتسترون: أن علياً عليه السلام قد ذهب بها فخراً ومجداً وسؤدداً في جميع المواقع، وفي مختلف الجهات انبروا ليدعوا لأنفسهم ما هو أعظم من علي ومن علم علي عليه السلام. رغم أن كل أحد يعرف مبلغهم من العلم. ويعرف نوع ومستوى ما يتداولونه من أمور عادية ومبتذلة، أطلقوا عليها اسم العلم، وهي أبعد ما يكون عنه. وذلك بسبب ما فيها من شوائب، وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.
فلنقرأ ما يقوله هؤلاء عن أنفسهم في انتفاخات وادعاءات استعراضية خاوية.
فقد ادعى أعظم مفسريهم الفخر الرازي: أنه يمكن أن يستنبط من فوائد سورة الفاتحة عشرة آلاف مسألة [19] .
ما ويدعون أن أبا بكر ابن العربي قد استنبط من القرآن بضعاً وسبعين ألف علم [20] .
أما البكري، فقد تكلم عن بعض علوم البسملة في سنين بكرة كل يوم في الأشهر الثلاثة منها. وقال في بعض مجالسه: لو أردت التكلم على ذلك العمر كله لم يف، أوكما قال [21] .
بل إن البكري قد تكلم في نقطة البسملةفي ألفي مجلس ومائتي مجلس [22] .
ونقول:
حدث العاقل بما لا يليق له، فإن لاق له فلا عقل له:
ونحن لا ندري كيف لم تظهر فرق ومذاهب من الغلاة في البكري يقدسونه، بل ويؤلهونه، كما غلا بعض الناس في علي عليه السلام حتى ألهوه؟!!
ولا ندري أيضاً كيف ضاعت تلك العلوم التي نشرها البكري في محاضراته تلك؟! وكيف لم يحفظها تلاميذه وينشروها في سائر الأقطار والأمصار، ليستفيد منها الناس، في أمور معاشهم ومعادهم؟!!
وليت الناس قد نقلوا لنا ولو أسماء وهمية للعلوم التي استنبطها أبو بكر ابن العربي من القرآن. وتلك هي مؤلفات هذا الرجل متداولة بين الناس، ولا نجد فيها أي رائحة لهذه العلوم. بل لا نجد فيها أي تميز لها عما سواها من مؤلفات أقرانه، ومن هم على شاكلته، إن لم نقل: إن الآخرين أكثر براعة منه، وأدق نظراً.
تفسير قوله تعالى : }بسم الله الرحمن الرحيم{
بداية وتمهيد:
قد عرفنا: أن البسملة هي أعظم آية في القرآن الكريم، وعرفنا ما نقل عن علي أمير المؤمنين عليه السلام حول تفسيرها، وما يمكن أن يقدمه للأمة من شرح قد تنامى واتسع حتى يمكن كتابة الأسفار التي تنوء بحملها العشرات من وسائل الحمل التي كانت متوفرة آنئذٍ.
وقد تحدث المفسرون عن أمور كثيرة ومتنوعة حول الآية الكريمة التي نرددها عشرات المرات يومياً، وفقاً لما ورد عن الشرع الشريف في ذلك، وأكثر ما ذكروه يدخل في السياق اللغوي والتركيبي وطبيعته ومناشئه وغير ذلك.
ونحن هنا نحيل القارئ على ما كتبوه، إن أحب الإطلاع عليه، أما نحن فنتجه إلى منحى آخر فيما نريد أن نثيره من دلالات وإيماءات هذه الآية المباركة.
فنقول:
البدء باسم الله:
لقد ورد في الحديث الشريف، عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: كل أمر ذي بال لم يذكر فيه "اسم الله" أو "بسم الله" فهو أبتر[23].
في حديث آخر: كل امر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر[24].
عن أبي هريرة عنه(ص): كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر . أو قال: أقطع[25].
والسؤال هنا هو: لماذا يطلب منا أن ننظر إلى البسملة، أو فقل: أن نتعامل مع بسم الله الرحمن الرحيم، على أنها جزء من كل أمر ذي بال (أي شأن)؟.
ثم ما هي المعاني التي يريد الله أن يلقننا إياها من خلال التركيز على البسملة، ويطلب منا أن نعيشها الى درجة أن تصبح جزءاً من حياتنا وممارساتنا؟
إن مما لا شك فيه أن ثمة معانٍ جميلة ومميزة ولطائف ومعارف في بسم الله الرحمن الرحيم، يريد تعالى منا أن ندركها بعمق، وأن نتفاعل معها بوعي ومسؤولية، فما هي تلك المعاني؟ ، وهل يمكننا نيلها أو نيل بعضها ولو بدرجة متواضعة؟.
إننا قبل كل شئ نشير الى ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله من أن الناس ربما يبدءون في عمل، أو يحققون إنجازاً فيقرنونه باسم عزيز على قلوبهم، أو كبير من كبرائهم، ليكتسب عملهم بذلك شرفاً، أو بركة، أو ليخلدوا اسم ذلك العزيز، أو الكبير ويبقى ببقاء ذلك العمل. ومن هنا نجدهم يسمون انساناً أو مؤسسة، أو غير ذلك بإسم من يحبونه، أو يعظمونه ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد. لأن بقاء المسمى ـ والحالة هذه ـ نوع بقاء للاسم ثم لصاحب الإسم الحقيقي، ومن هذا القبيل من يسمي ولده باسم والده تكريماً لذلك الوالد[26].
ونقول:
إننا لا ننكر: أن الأمر ينتهي إلى التشريف، والتكريم والبركة. ولكن الأمر بالنسبة لإعتبار البسملة جزءاً من كل أمر لا يقتصر على هذه الاعتبارات التي يتعامل معها الناس بالطريقة العامية والسطحية، بل هو يتجاوزه ليكون على مستوى الطريقة الإلهية، التي تمثل العمق والأصالة والدقة.
وذلك لأن كلاّ منا يريد البركة ويتطلبها. وهي تعني الزيادة والنمو والتكامل المعنوي والمادي. ولكننا حين نجد أنهم عليهم السلام قد طلبوا منا أن لا ندع البسملة في أي شيء صغيراً كان أو كبيراً [27]، وبدونها سيكون مبتوراً وناقصاً. فإن ذلك يعني أن الأمر ليس مجد بركة وشرف وتكريم، بل هو أكبر من ذلك وأهم.
ويلفت نظرنا هنا قوله (ص): "لا يبدأ فيه" ولم يقل: ليس معه، أو: لم يسبقه.
النقص في البداية وفي النهاية:
ولا بد أيضاً من التوقف والتأمل في هذا التقابل الذي يقرره هذا الحديث؛ حيث فرض أن البدء من جهة هو نفسه الذي يوجب النقص أو الكمال في الجهة المقابلة.
مع أنك إذا قلت: إذا لم تفعل الأمر الفلاني، فان عملك سيكون ناقصاً، فان نقصه إنما يكون من جهة نفس عدم فعلك للأمر الفلاني المشار إليه آنفاً. ولكن الأمر هنا ليس كذلك، فإن النقص للبسملة إنما جاء في جهة أول الفعل ، والبتر والنقص قد جاء في آخره؛ لأن المبتور هو مقطوع الآخر أو الذنب، والأقطع هو مبتور اليد.
ونقول:
إن نقصان آخره إنما هو من حيث إنقطاعه عن البقاء والدوام، فهو أبتر لانقطاع آخره.
ولعلنا نستطيع أن نفهم مبرر هذا الأمر في ذكر مثال تقريبي هو:
إن الله تعالى يقول: }كل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام{[28]. وقال تعالى: }فأينما تولوا فثم وجه الله{[29].
فقد يقول قائل: ان المراد بوجه الله هو الله تعالى نفسه، فكأنه قال: ويبقى الله ذو الجلال والإكرام. وكأنه قال: أينما تولوا فثم الله تعالى نفسه.
ولكن هذا التفسير يبقى غير كاف ولا واف بالمقصود. وذلك للأمور التالية:
1_ إنه لا مجال لأن يضاف الشيء إلى نفسه. فالإضافة والنسبة دليل المغايرة بين المضاف والمنسوب وهو "وجه" وبين المنسوب والمضاف إليه ، وهو "الله".
2_ هذا، بالإضافة إلى ما ورد من أن أهل البيت عليهم السلام هم وجه الله، فهل يعني ذلك أنهم عليهم السلام هم الذات الإلهية نفسها؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
3_ وإذا كان كل شيء هالك إلا نفس الذات الإلهية، فعلى الإسلام، وكل أعمال الخير والبر والصلاح السلام، لأنها كلها أيضاً أشياء، فهل هي هالكة أيضاً؟
4_ قال تعالى: }ما عندكم ينفد، وما عند الله باق{[30] ولا معنى لفناء كل شيء مع بقاء الأشياء التي عند الله أيضاً.
والتفسير الصحيح لهذه الآية، ولآيتي سورة الرحمان والبقرة هو أن كل شيء من حيث الوجود المادي يفنى، ولكنه من حيث الوجود المعنوي باق، إذا كانت وجهته إلى الله سبحانه، لأن نسبته إليه، وكونه باتجاهه تعالى تكسبه حالة من نوع ما تجعله يبقى ويستمر بسببها، ويشهد لذلك آيات وأحاديث كثيرة. فلنقرأ قوله تعالى: }وقدمنا إلى ما عملوا من عمل، فجعلناه هباء منثوراً{[31]. إذ لو كان لوجه الله لما جعله كذلك. وقوله تعالى: }أعمالهم كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده، فوفاه حسابه{[32].
إذن، فكل شيء وجهته إلى الله سبحانه يكون فيه جهة بقاء، ودوام، وخلود. والذي لا يكون كذلك فهو هباء منثور، كسراب بقيعة، أبتر.
وكمثال على ما نقول: إذا تبرع أحدهم بمبلغ من المال لغير وجه الله. فمن جهة الحدوث لا شك في أن ذلك قد حدث. ولكن من جهة البقاء فليس ثمة ما يوجب بقاءه؛ لأنه يفقد عنصر البقاء. وذلك مثل العدالة التي هي شرط في إمام الجماعة. ولكن مجرد حدوثها فيه لا يكفي بل لابد من بقاء تلك العدالة واستمرارها، بحيث لو فسق في آخر جزء من الصلاة، فان الصلاة تبطل بجميع أجزائها.
الباء للاستعانة أم للملابسة:
وعن سؤال: هل الباء للمصاحبة؟ أم للاستعانة، أم للتعدية، أم لمجرد الملابسة؟ أم لغير ذلك؟
نجيب: أن بعض المفسرين رجحوا أنها للاستعانة، وذلك لأن الإنسان مفتقر بذاته، محتاج إلى الغني بذاته. ونحن نرجح أنها للملابسة، وذلك لأننا إذا رجعنا إلى حديث: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر ، فإننا ندرك: أن الباء ليست للمصاحبة، أو الاستعانة، أو لغير ذلك وإنما هي لمجرد الملابسة، لأن قوله: لا يبدأ فيه، إنما يعني أن البسملة جزء من الأمر الذي نعمله، وإلا لكان اللازم أن يقال: كل أمر ذي بال لا يستعان فيه أو لا تصاحبه. وجزئية البسملة هذه لا تتلاءم إلا مع كون الباء لمجرد الملابسة.
لماذا التركيز على الاسم؟
ومن الملاحظ: أن الحديث هنا قد جاء عن الاسم.
وأيضاً: ان الآيات القرآنية، تهتم بالاسم وتسلط الضوء على الأسماء، باستثناء البعض من تلك الآيات التي تعدت ذلك إلى الحديث عن الذات الإلهية المقدسة.
فاقرأ مثلاً قوله تعالى: }اقرأ باسم ربك الذي خلق{[33] و}فسبح باسم ربك العظيم{[34]
و}ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها{[35].
فلماذا هذا التركيز والاهتمام بالاسم والأسماء؟
ونجيب بسؤال: هل نحن قادرون ـ بالنسبة للذات الإلهية ـ على استكناه حقيقة المسمى وتصوره؟
بل هل نستطيع: أن نتصور كنه أسمائه تعالى، فضلاً عن المسمى؟
الجواب: طبعاً، لا.
ان غاية ما نتصوره هو الحد الأدنى والجانب الميسور والقريب من الاسم والقادر على أن يشير إلى المسمى إشارة خفيفة وبسيطة تكفي لأن تجعلنا نتضرع إلى الله به، لأنه يعطينا هذا المستوى من الإدراك. وهو سبحانه يقبل ذلك منا: لأننا غير قادرين على أكثر منه. وقد أمرنا بالابتعاد عن التعمق في التفكير في ذات الله سبحانه[36] لأنه أمر فوق العقل.
وهكذا يتضح: أنه لا مبرر لما يقوله بعضهم من أن الاسم هو عين المسمى، وكذلك العكس. ويزيد من وضوح عدم صحة ذلك أنه لا ينسجم مع قوله تعالى: }ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها{[37] حيث جعل الله الأسماء الحسنى وسيلة إلى ندائه تعالى ـ ان كان المعنى: نادوه بها ـ أو وسيلة للتوصل إلى نيل رضاه سبحانه، فلو كان الاسم عين المسمى لم يصح الأمر بدعاء الله بها، ولم يصح إضافتها ونسبتها إليه تعالى.
الأسماء الحسنى وسيلة الدعاء
أما لماذا طلب منا سبحانه أن نجعل أسماءه الحسنى وسيلة دعائنا له؟ أو لماذا طلب منا أن ننادي الله بواسطة أسمائه الحسنى ؟ كقولك خاطب زيداً باسمه، مقابل خطابه بلقبه مثلاً.
فلأن الاسم قد وضع لمعان حسية، أو قريبة من الحس. أريد منها هنا أن تعبر عن معان راقية وعالية، وبمقدار ما تترقى مدارك واستعدادات البشر وتتنامى، فان ذلك يؤثر على مستوى ودرجات فهمهم ونيلهم لتلك المعاني السامية، وتتفاوت درجات انكشافها لهم. فإذا سمعنا كلمة رؤوف، رحيم، كريم، قوي، الخ. مضافة إلى الذات الإلهية فإن كلاً منا يفهم درجة من تلك الرأفة والرحمة و. أما حقيقة رحمته تعالى وكرمه وقوته، فلا يمكن لنا إدراكها.
ومن جهة أخرى: إننا نتعامل مع هذه الأسماء من خلال مزيج من الإدراكات العقلية، والفطرية، مع الأحاسيس والمشاعر الفطرية والوجدانية. فهي ليست أسماء ذات طابع عقلي فلسفي محض.
فصفات العزيز الجبار، الرحيم الشافي، التواب، الحنان الخ. هي أسماء تحاكي الفطرة وتناجيها، وتناغيها، وتلامس الضمير والوجدان، وتثيره، وتشعر من خلالها بأنك قريب من الله، مع انك لا تستطيع أن تدرك نفس الذات.
ومن هنا نعرف السر في أنه تعالى قد أمرنا أن ندعوه بواسطة تلك الأسماء، وأن نجعلها وسيلتنا في الدعاء، لأننا حينما نتوجه إليه بالدعاء نكون بأمّس الحاجة إلى الإحساس والشعور به عز وجل. لا أن ندركه ونتصوره، فان ذلك ليس هو المهم. وتلك الأسماء توفر لنا ذلك الشعور العميق المفعم بالمعاني الحية، والمثيرة لكوامن الإحساس به وبوجوده، وبالحاجة إليه، وبالضعف أمامه، وغير ذلك من معان توحي لنا بها تلك الأسماء. انها تجعلنا نتفاعل معه، ونعيش في رحابه، وننطلق في آفاقه، وتترك آثارها على كل وجداننا، وعلى حياتنا العملية، على حركتنا وموقفنا وسلوكنا مع الناس، ومع أنفسنا، انها تحل مشاكلنا النفسية، والروحية، من حيث انها توحي إلينا بالمعاني التي نشعر أننا بحاجة لأن نتلمسها ونعيشها، ونشعر أنها أدواتنا التي توصلنا إلى ما نطمح إليه، وتحقق لنا ما نريد من دون حاجة إلى دليل عقلي أو فلسفي، أو منطقي برهاني.
ان كل ذلك لا يمكن أن تحققه لنا قناعات فكرية، أو معادلات رياضية، أو براهين فلسفية.
فهذه الأسماء إذن توصلنا في موضع الخوف ، والرجاء، والضعف والحاجة إلى الله سبحانه، وتصلنا به من أقرب طريق، وأصفاه.
الله :
أما بالنسبة للفظ الجلالة "الله" فهو اسم علم للذات الإلهية المقدسة.
وقد أخطأ من قال: انه اسم لشيء عام كلي هو (واجب الوجود بالذات)، أو اسم (للمعبود بالحق) أو ما إلى ذلك.
اذ لو كان كذلك لكان المراد من كلمة "لا اله إلا الله" لا واجب الوجود، إلا واجب الوجود، أو لا معبود بالحق إلا المعبود بالحق.
ويدل على ذلك أيضاً ما أشار إليه السيد العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى، من أن لفظ الجلالة يوصف بجميع الأسماء الحسنى، ولا يصح أن يقع هو وصفاً لأي واحدة منها.
الأصنام عند العرب:
وواضح: أن العرب كانوا يستعملون لفظ الجلالة في معناه. أما الأصنام فكانوا يعتقدون: أنها تقربهم إلى الله تعالى زلفى، وأن لها نوعاً من التأثير في حياتهم: في الشفاء، والرزق، وحل المشاكل، وما إلى ذلك. فيعطونها نوعاً من الشراكة مع الله سبحانه بهذا المعنى. وقد كانوا يعظمونها ـ في الأساس ـ لأنها تمثل بعض الصلحاء، أو غير ذلك. ثم تطور هذا التعظيم ليصبح تقديساً ، ثم تطور ليصبح اعتقاداً ببعض التأثير، وتعاظم ونما حتى بلغ درجة الشرك الذي هو ظلم عظيم. فجاء الانحراف عن مقتضيات الفطرة تدريجياً، كما ترى.
الرحمن الرحيم
إننا قبل أن نتكلم عن المقصود من هاتين الكلمتين ، نشير إلى أمر هام يرتبط بمعناهما ، بل هو يرتبط بسائر صفاته وأسمائه تعالى ، وهو : أن الرحمة لدى بني الإنسان عبارة عن انفعال نفساني ذي طابع خاص ، يحصل بسبب رؤية العجز أو الضعف أو النقص لدى إنسان أو أي مخلوق آخر ذي روح . فإذا رأينا طفلاً عمره شهر تحت أشعة الشمس ، أو جريحاً ، أو رجلاً تحت الأنقاض يحصل في داخلنا انفعال معيّن بطريقة عفوية وفطرية ، يدفعنا إلى العمل ومد يد المساعدة لذلك العاجز والمنكوب .
لكن حينما نصف الذات الإلهية المقدّسة المنـزّهة بصفة الرحمانية والرحيمية ، فإن نحو وكيفية تلبسها بصفة الرحمة ، أو انتساب الرحمة إليها يختلف عن نحو وكيفية تلبسها بالإنسان وانتسابها إليه . ونحن نجهل تماماً حقيقة الرحمة التي ننسبها إليه تعالى، ولا نستطيع حتى أن نتصوّر حقيقتها ، ونجهل أيضاً كيفيتها لديه تعالى .
وقد ورد النهي عن المعصومين عليهم السلام عن التعمق في التفكير في حقيقة الذات الإلهية [38] .
غاية الأمر أننا حينما نلاحظ كثرة صدور الرحمات، أو فقل : الأمور التي هي من لوازم الرحمة بزعمنا ، أو بحسب تصورنا، منه تعالى ؛ فإن ذلك يجعلنا ننسب إليه تعالى صفة : رحمان، أو رحيم .
تحديد معنى الرحمان الرحيم :
وأما بالنسبة لمعنى هذين اللفظين ، فإننا نقول :
قالوا : إن كلمة الرحمان ، تفيد المبالغة ، أي الذي يفيض الرحمة وتصدر عنه كثيراً ، ومن كل جهة . ومعنى ذلك :
أنها وصف لا يختص بالمؤمن ، بل يعم الكافر أيضاً .
أنها – والحالة هذه – إنما تناسب الحياة الدنيا ، إذ ليس للكافر منها في الآخرة من نصيب .
وقالوا : إن كلمة "الرحيم" صفة مشبهة ، أي أنها تدل على وجود الصفة في الموصوف بصورة ثابتة ودائمة ، ومعنى ذلك:
أن هذا إنما يناسب المؤمن دون الكافر ، لأن المؤمن هو الذي يستحق الرحمة الدائمة .
إن هذا الوصف يمتد إلى الآخرة أيضاً ، ليكون المؤمن مرحوماً فيها . وليناسب ذلك معنى الثبات والدوام فيها .
ولأجل ما تقدم نجدهم يقولون : رحمان الدنيا ورحيم الآخرة.
ونحن بدورنا نقول :
إن ما ذكروه مشكوك فيه ، بل الله سبحانه رحمان في الدنيا والآخرة ، ورحيم فيهما معاً أيضاً . وقد ورد في الحديث الشريف : "رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما"[39] . وقال تعالى : }يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً{ [40] وقال سبحانه: }الملك يومئذ الحق للرحمان{ [41] واستعملت "الرحيم" للحديث عن رحمته تعالى في الدنيا ، قال تعالى : }ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً{ [42] .
وهذا هو السر في التركيز على هاتين الصفتين في أعظم آية في القرآن الكريم ، وذلك لأن كلمة رحمان تساوي كلمة غضبان أو شبعان أو نعسان أو يقظان . وهذه الصفات بهذه الصيغة ليست من صيغ المبالغة ، وإنما هي تدل على وجود الصفة في موصوفها على نحو التمام والكمال ، فكلمة "غضبان" مثلاً كما يقول أهل اللغة معناها الشخص الممتلئ غضباً [43] أو "الذي يغضب سريعاً . وقيل : شديد الغضب"[44].
فإذا كان المراد بالرحمن هو أنه عز وجل ممتلئ رحمة، فلازم ذلك أن تصدر عنه الرحمات بكثرة ، فيرحم سبحانه المؤمن والكافر ، والعالم والجاهل ، والكبير والصغير ، والغني والفقير ، وما إلى ذلك .
فما قاله الطبرسي وغيره : "الرحمان الرحيم : اسمان وضعا للمبالغة ، واشتقا من الرحمة وهي النعمة إلا أن فعلان أشد مبالغة من فعيل" [45] .
وقال ابن منظور عن كلمة رحمان : "معناه الكثرة". وقال: فعلان من أبنية ما يبالغ في وصفه [46] .
هذا القول فيه نوع من التوسع ، فلعل الطبرسي وغيره من المفسرين وأهل اللغة ، ذكروا لازم المعنى ، فصوروه لنا على أنه هو المعنى نفسه ، بنوع من التوسع أو التسامح .
أما بالنسبة لكلمة : "الرحيم" فيمكن أن تكون للمبالغة مثل عليم ، بمعنى كثير العلم . وقد تكون صفة مشبهة لمجرد إفادة ثبوت الوصف من دون أي مبالغة أو تكثير ، مثل مريض ، وقديم وكبير وصغير .
ولكننا إذا رجعنا إلى الآيات القرآنية ، فإننا نجد أنها في الأكثر قد وردت وإلى جانبها كلمات هي : غفور ، تواب ، رؤوف ، ودود ، بر عزيز .
وهذه الصيغ إما هي للمبالغة ، كالأربعة الأول ، وهي واقعة في عشرات الآيات ، أو أنها صفة مشبهة كالكلمتين الأخيرتين ، اللتين وردتا في موارد قليلة جداً ، والصفة المشبهة تدل على نسبة الصفة للموصوف ، وقيامها فيه فعلاً ، من دون إشارة إلى معنى الحدوث . فاقتران كلمة الرحيم بصيغ المبالغة يشير إلى أنها صيغة مبالغة مثلها ككلمة : عليم . إذ المفروض وجود تجانس فيما بين الصفتين سوّغ للذوق أن يعقب إحداهما بالأخرى . إذ لو كانت إحداهما للمبالغة دون الأخرى ، فإن مستوى الانسجام والتجانس سوف يضعف ، وسيشعر القارئ بوجود نقلة غير طبيعية ، بعيدة عن السهولة بصورة عامة .
كما أنها حين جعلت إلى جانب الصفة المشبهة ، مثل كلمة عزيز ، فإنها قد استعملت صفة مشبهة يقصد بها تمامية الصفة في موصوفها على سبيل الثبات والدوام ، من دون إلماح إلى معنى الحدوث . فهي إلى جانب الصفة المشبهة تكون صفة مشبهة مثل كريم ، وسقيم ، وحكيم ، وإلى جانب صيغة المبالغة تكون مثلها صيغة مبالغة تدل على الامتلاء بالرحمة ، ويلزم من ذلك كثرة صدورها منه تعالى لمن يستحقها . أو لعلها هي بنفسها أيضاً من صيغ المبالغة أيضاً كما ذكره الطبرسي وغيره .
ولا نستبعد أنه تعالى قد جاء بكلمة "رحيم" التي هي صيغة مبالغة على شكل الصفة المشبهة ليفيد المعنيين معاً. أي ليفيد المبالغة وتمامية الصفة في موصوفها لأنها على شكل صيغ المبالغة ، وليفيد الدوام والثبات لأنها على شكل الصفة المشبهة.
وقد اتضح مما تقدم : أن ما قالوه من أنه تعالى : رحمان في الدنيا رحيم في الآخرة ، لأن الكافر لا يستحق ثبات ودوام الرحمة لتصل إلى الآخرة . فتكون كلمة رحيم خاصة بالمؤمن . وكلمة رحمن تشمل المؤمن والكافر .
هذا القول غير دقيق : بل هو استنبطوه من شؤون العقيدة، لا من الدلالات اللغوية لهاتين الكلمتين ، فقيدوا المعنى اللغوي بالدليل العقائدي .
وإنما قلنا : إنه غير دقيق ،لأن المعنى اللغوي على النحو الذي ذكرناه ليس ناظراً إلى تلبس الرحمة بهذا الشخص أو ذاك ، بل هو ناظر إلى كيفية قيام الصفة بموصوفها . وأن كلمة الرحمان لا تدل على كثرة الرحمة دلالة مطابقية . بل المدلول المطابقي الأول لكلمة الرحمان هو الامتلاء بالرحمة . فيلزم من ذلك كثرة صدور الرحمة عنه للمستحق لها . فالفيض والصدور من لوازم المعنى ، خارج عنه عارض له . وكلمة الرحيم ، تدل على الثبات والدوام والرسوخ ، فالرحمان ناظرة للكم ، والرحيم ناظرة للكيف . بالإضافة إلى المبالغة في ذلك مثل كلمة عليم .
سبب اختيار هاتين الصفتين :
وهنا سؤال يقول :
لماذا اختار الله سبحانه هذين الوصفين في هذه الآية الكريمة – البسملة – التي يفترض أن يرددها الإنسان في مختلف شؤونه وحالاته ، وربما يرددها عشرات المرات في كل يوم ، ثم اعتبرت هذه الآية أعظم آية في القرآن الكريم ؟ ولمَ لم تذكر في البسملة صفات أخرى ، مثل : التواب ، الغفور ، الشافي ، الكريم ، الخالق، الرازق ، العليم ، القوي ، الرؤوف ، الخ ؟!.
والجواب – باختصار شديد - : إن المطلوب للإنسان في سير حياته أن تشمله العناية الإلهية ، فيستفيد من خالقيته تعالى خلقاً ، ومن رازقيته رزقاً ، ومن حكمته تدبيراً ، ومن قوته وانتقامه وجبروته حماية ورعاية ، ومن عزته عزاً ، ومن كل صفاته الجمالية كمالاً وجمالاً ، وقوة ، وصحة ، وشفاءً ، وتوبة ومغفرة ، الخ .
كل هذه الأمور وسواها مآلها إلى صفة الرحمانية والرحيمية فيه تعالى . فمن خلال الرحمة يصدر ذلك كله عن الذات الإلهية ، فيرزق تعالى ويشفي ، ويدبر ، ويقوي ، ويتوب ، ويغفر ، الخ . لكونه رحيماً ورحماناً . ولا توجد أية صفة أخرى تستبطن هذه الصفات وسواها . فكلمة التواب ، أو الغفور ، أو الشافي ، أو الرازق ، الخ . لا تقوم مقام رحمان ورحيم . أي إن كلمة التواب مثلاً لا تقوم مقام الرازق أو الخالق ، لأنها لا علاقة لها بالرزق ، والشفاء. وكذلك كلمة الرزاق لا تقوم مقام غيرها من الصفات ، وهكذا .
أما كلمة الرحمان الرحيم ، فإنها تستدعي أن يشفيك الله لكونه إلهك الراحم ، وأن يقويك لأنه أيضاً إلهك الراحم ، وأن يتوب عليك ويرزقك لكونه كذلك إلهك الراحم ، وهكذا .
فإذا دخلت من باب الرحمة ، فإنه يوصلك إلى مضمون سائر الصفات ، ويمكنك منها جميعاً .
كما أنك – من جهة أخرى – لا تريد هذه الرحمة لمرة واحدة ، بل تريد دوامها ، واستمرارها في الدنيا والآخرة ، وفي كل حال ومجال .
وخلاصة الأمر : إننا ندخل من باب الرحمة إلى عالم الفيوضات الإلهية اللامحدود والذي لا ينضب . ونحصل على كل مقتضيات سائر صفات الذات الإلهية المقدسة وعلى كل شيء ، ونحل بذلك كافة مشاكلنا ، وفي كل حين فنحصل على الرزق ، والشفاء ، والغفران ، والتوبة ، الخ.
ولا توجد أية صفة أخرى سوى الرحمانية والرحيمية قادرة على تلبية حاجات الإنسان ، وتحقيق طموحاته ، وتحصينه من اليأس ، الخ .
كلمة "الرحمان" علم أم صفة ؟
وآخر ما نلفت النظر إليه هنا هو : أنه تعالى ، قد جعل كلمة الرحمان صفة للفظ الجلالة . مع أن البعض يدعي : أنها قد أصبحت علماً بالغلبة ، فكيف يصح وصف العلم بالعلم ؟
ونقول :
إن صيرورتها علماً بالغلبة غير ظاهر ، ووصف لفظ الجلالة بها دليل على أنها لا تزال صفة . وقوله تعالى : }قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان{ [47] لا يدل على عَلَميتها ، لا مكان أن يدعو الإنسان الله وأن يدعو التواب ، والكريم ، والشافي ، الخ . ولا تجعل الدعوة هذه الأمور علماً .
ويمكن أن يقال : إنك إذا سميت رجلاً بكلمة "عادل" أو كريم : فإن لاحظت العَلَمية فيها ، فلا يصح الوصف بها ، وإذا لاحظت الوصفية ، وأنه يملك صفة العدل صح الوصف بها . والحال بالنسبة لكلمة الرحمان من هذا القبيل .
تفسير قوله تعالى : }الحمد لله رب العالمين {
الحمد لله :
قد دلت الآية على أن الحمد كله متمحض لله تعالى. وقبل بيان ذلك نشير إلى الفرق بين الحمد والمدح فنقول :
قالوا: إن المدح هو الثناء سواء أكان على شيء اختياري ، أو غير اختياري ، فقد تمدح الإنسان على إنقاذه الغريق ، وقد تمدحه أيضاً على جماله ، وعلى طوله ، مع أن الجمال والطول هما خلقة الله ، وليس للإنسان فيهما أي اختيار .
وتذم بعض المخلوقات على أفعالها السيئة وعلى شكلها الذي تراه قبيحاً أو غير متناسق ، مع أن القبح ليس من اختيار الإنسان .
أما الحمد ، فهو – كما يقولون - : الثناء على الفعل الجميل الاختياري .
ونحن لا نوافق على قولهم هذا ، ونقول : إن هذا الحمد الوارد في هذه السورة وغيرها قد يكون على فعل اختياري كفعل الخالقية ، والرازقية ، والمغفرة ، الخ .
وقد يكون ثناءً عليه تعالى بأنه حي قيوم منـزه عن الشريك ، وعن النقص ، وعن الصاحبة والولد ، مع أن عدم وجود شريك له تعالى ليس فعلاً اختيارياً له سبحانه ، بل هو ليس من مقولة الفعل أصلاً .
وخلاصة الأمر : إن الأفعال المشيرة إلى صفات الفعل تصدر عنه تعالى باختياره . فالله قوي لأنه يصدر عنه باختياره ما يشير إلى القوة ، وهو رحيم ، خالق ، رازق ، حكيم ، لأنه يصدر عنه باختياره فعل يشير إلى الرحمة والرازقية والحكمة الخ . فيستحق الحمد لأجل ذلك ، كما يستحق الحمد لأجل أنه حي قيوم ، لا شريك له ، ولا نقص فيه .
اختصاص الحمد بالله سبحانه :
وعن سبب تخصيص الحمد كله بالله تعالى :
إن "أل" للجنس أو للاستغراق وعلى كلا الحالتين تفيد الاستغراق والشمول للأفراد . والفرق بينهما إنما هو بالاعتبار ، والإجمال والتفصيل .
أي أن حقيقة الحمد إنما يستحقها الله سبحانه ، أو أن الذي يستحق جميع أفراد ومراتب الحمد هو الله سبحانه. فعلى الأول : تكون للجنس وعلى الثاني : تكون للاستغراق .
والسر في ذلك هو أن البسملة قد جعلتنا نعترف بأن الله الذي له صفة الألوهية متصف بجميع صفات الجمال والجلال والكمال . فإذا أردنا أن نطلب من الله سبحانه أن يفيض علينا من خلال هذه الصفات : الرزق ، والمغفرة ، والشفاء ، والخلق ، والقوة ، والصحة . الخ ، فمفتاح ذلك كله هو الرحمة الإلهية ، فلا بد من الدخول من بابها فإنه تعالى ممتلئ رحمة ، وكثيرة هي رحماته بمقتضى "رحمان" .
ثم لأجل استمرار الاستفادة من فيوضات الرحمة التي هي من مقتضيات صفات الألوهية لا بد من ثبات هذه الرحمة ودوامها مفيضة ومنيلة ، كما ألمحت إليه كلمة "الرحيم" .
وبعد تقديم ذلك الاعتراف بأنه سبحانه قد أفاض علينا من كل ما تقتضيه تلك الصفات بجميع فروعها من جلالية وجمالية ، أو فقل : من صفات فعل أو صفات ذات، يأتي الحمد والثناء بمثابة اعتراف بهذه الفيوضات ، لأنها هي التي دفعتنا لهذا الثناء .
وإنما اعتبرنا أن المستحق لحقيقة الحمد ، أو لكل مرتبة من مراتب الحمد وكل فرد من أفراده هو الله سبحانه، لأن كل ما يصل إلينا من خلال الإفاضة المباشرة مثل خلقنا . أو بالواسطة ، كإحسان الوالدين لنا . ومثل ما نستفيده من الطبيعة كالأرض ، والشجر ، والشمس والنجوم . إن كل ذلك إنما ينتهي إلى الله سبحانه بالمباشرة أو بالواسطة .
وهذا يفسر لنا إضافة "أل" الاستغراقية أو الحقيقية إلى كلمة "حمد" ، فقال : "الحمد" .
الحمد والرحمة بداية ونهاية :
والملفت للنظر هنا : أنه سبحانه تعالى قد أفهمنا أن "الرحمانية والرحيمية" كانت هي البداية كذلك كانت هي النهاية . حيث قال : }الحمد لله رب العالمين. الرحمان الرحيم {.
أي أننا حين نجعل اسم الله ملابساً وليس – فقط – مصاحباً لكل شيء ، فإننا ندخل ونصل إليه من باب الرحمانية والرحيمية ، ونستمد منه كل خير . حتى إنه هو الذي يستحق الحمد الحقيقي ، أو يستحقه بجميع مراتبه وأفراده . ونبقى مع هذه الرحمة حتى نصل إلى النهاية . أي أننا مع الرحمة منذ بدء خلقنا مروراً بالرازق ، والمعافي ، والشافي ، والمربي ، وو. وانتهاءً بالتواب والغفور . ثم تكون النهاية الرحمة أيضاً . فلا بد أن يكون الحمد أيضاً هو النهاية ، كما كانت البداية هي الحمد . وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : }وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين{.
إذن ، فالله سبحانه يريد أن يهيئ الإنسان لأن ينظر إلى كل حياته ، وكل آفاقها في بداياتها وفي سيرها التكاملي، ثم في نهايتها ، نظرة شمولية ، مستوعبة ، وواعية وعميقة ، تربط الأمور بأسبابها ، ثم بنتائجها . إنه سبحانه يريد لهذا الإنسان أن يفتح عينيه على حقيقة الحياة ويسجل اعترافه المباشر بتاريخ ارتباطه بالله سبحانه، وارتباط الكون كله به تعالى ، وبرعايته سبحانه له من قبل أن يخلق، وإلى ما بعد أن يبعث ويحشر .
والاعتراف بهذا التاريخ ، والانصياع له ، والإيمان به يوصل إلى الحمد ، إذ لا يمكن أن تكون حامداً كل الحمد إذا لم تعرف وتعترف بكل ما صدر منه وعنه تعالى تجاهك ، وتجاه كل المخلوقات في هذا الكون الأرحب الذي بناه لتستفيد منه في تكاملك في إنسانيتك وفي مسيرتك نحو الله سبحانه .
وهكذا يتضح : كيف أن هذه الكلمة هي في الحقيقة المفتاح للمعارف الاعتقادية ، وهي الأساس القوي للنظرة إلى الكون وإلى الحياة، نظرة عميقة وواعية ، من خلال التوحيد الخالص والصافي .
فمن الواضح : أن أحداً لا يستطيع أن يحمد الله بصدق ووعي من دون أن يملك هذه النظرة : بل إن فهم الحياة والتعاطي معها لا بد أن يكون أساسه هذه النظرة بالذات ، ومستنداً إلى فهم الحمد بهذه الطريقة .
فكلمة الحمد إذن كبيرة جداً بحجم هذا الكون ، بل هي أكبر من الكون ومن الإنسان . إنها بحجم الفيوضات الإلهية على كل الموجودات والمخلوقات . ولا سيما الذي يعنيك منها ، وتستفيد منه ، وتتفاعل معه . إنها بحجم العقيدة التوحيدية ، بل بحجم كل الصفات الإلهية الجلالية منها أو الجمالية .
إذن فليس من قبيل الصدفة أن تكون أول كلمة – بعد البسملة – في السبع المثاني ، التي لا بد أن تقرأ مرات في الصلاة في كل يوم هي كلمة "الحمد" ؛ إنه أراد لنا أن ندخل من باب الحمد، إلى كل الحقيقة المنبسطة على هذا الوجود . مدركين حجم الارتباط بالله ، ونوع، وكيفية التعاطي معه سبحانه وتعالى .
له الحمد في الأولى والآخرة :
ومن أجل توضيح بعض ما ذكرناه آنفاً نعود ، فنقول :
قد تكلم الله سبحانه عن الحمد في عدة آيات قرآنية ، منها قوله تعالى : }له الحمد في الأولى والآخرة{[48]. فما هو المقصود بالأولى، وما و المقصود بالآخرة ؟! .
وهل هذا ينسجم مع ما ذكرناه من معنى الحمد ؟! وارتباطه بآية البسملة ؟! . وكيف نربط أيضاً بين ذلك وبين قوله: }وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين{[49] ؟! وهل صحيح ما يقولونه : من أن الحمد لا بد أن يكون على فعل اختياري ؟! .
إننا في مقام الإجابة على هذه الأسئلة نقول : إن صفات الألوهية ؛ تقتضي نفي كل نقص عن الذات ، وعن الأفعال ، والمدخل لنا إلى هذه الصفات هو الرحمة الإلهية . والحمد إنما يأتي كنتيجة للاستفادة من هذه الصفات .
فنستفيد منها في الخلق }الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً . {[50] .
وفي الهداية : }الحمد لله الذي هدانا{[51] .
وفي التفضيل : }الحمد لله الذي فضلنا{ [52] .
وفي العلم }الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب{[53] .
وفي النجاة }الحمد لله الذي نجانا{[54] .
وفي العافية }الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن{[55].
وفي الملك }الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض{[56].
بل وقبل كل شئ في التوحيد ونفي الشريك }الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك{ [57].
فالحمد في الآية الأخيرة ليس على أمر اختياري لأن عدم الشريك ليس فعلاً له تعالى . فتخصيص الحمد بالفعل الاختياري يصبح غير دقيق.
ومن جهة أخرى ، فإن الحمد بعد كل هذا يصبح بمثابة الدليل القاطع على تحقق ذلك كله من موقع الفيض الإلهي ، وهو أيضاً تتويج لكل مسيرة التكامل الإنساني الكادح إلى الله سبحانه . فالحمد هو البداية ، التي تفتتح بالفيوضات الإلهية لأصل الخلق والوجود ، وكل النعم في الحياة الأولى التي هي الدنيا . وتستمر هذه الألطاف والفيوضات إلى الآخرة أيضاً ، التي هي الحياة الحقيقية. كما قال تعالى: }وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون{ [58].
فيصل الإنسان إلى الله ويعرفه ، من خلال إحساسه بنعمه وتفضلاته عليه وفيوضاته المتلاحقة والغامرة. فيبحث عنه ، ويعرفه ليقف موقف العرفان ، لأن معرفته تعالى عن طريق الإحساس بالنعمة ، تكون أعمق وأدق وأكثر تأثيراً من معرفته عن طريق الاستدلال الفلسفي ، العقلي ، النظري ، لأن هذه المعرفة حسية، ثم تترقى لتصبح وجدانية ، ثم فطرية ، يتفاعل معها بأعماقه ، وبكل أحاسيسه ومشاعره وبفطرته . ثم هو يبادر إلى الثناء على هذا المنعم ، وبعد ذلك يبادر إلى شكره ، والوقوف في موقع الطاعة والانقياد .
وهذا هو معنى وجوب شكر المنعم الذي دل عليه القرآن:
}أن أشكر لي ولوالديك{ [59] ، }اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور{ [60] .
وتستمر المسيرة في هذا الحمد إلى الحياة الأخرى لتكون : }آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين{ لما شهدوه ويشهدونه من تربية ورعاية إلهية مستمرة ومتلاحقة .
وكل ذلك يفسر لنا أيضاً : السبب في كون كلمة الحمد هي أول كلمة بعد البسملة في سورة الحمد ، والسبع المثاني . ويتضح من ثم أن الآية منسجمة تمام الانسجام ، ولا مجال لأي توهم أو اعتراض .
لماذا لم يقل الحمد لرب العالمين :
وأما لماذا لم يقل : الحمد لرب العالمين . بل قال : الحمد لله رب العالمين . فلعله لأنه يريد منا أن نتعامل معه ، وأن نرتبط به سبحانه بما هو مستجمع لصفات الجمال والجلال ، صفات الفعل، وصفات الذات ، ثم يُتبع ذلك بالتنصيص على صفة المربي لتكون هذه التربية هي المبرر لمبادرتنا إلى حمده بما له من صفات الألوهية الكاملة والمطلقة.
وذلك لأنه تعالى إنما تعامل مع هذا الوجود كله من موقع ألوهيته له ولكل المخلوقات . وقد جاءت صفات الفعل ، مثل : المربي ، والخالق ، والرازق ، والرؤوف ، والرحيم ، والقوي ، . الخ ، لتجسد هذا التعامل .
لماذا الحمد ؟! :
ونحن إنما نحمده من موقع العرفان بالفضل، الذي يقتضي الشكر للمنعم ، لأن الإنسان حين يريد أن يتعامل مع الله سبحانه لا بد أن يعرفه أولاً . وأعمق درجات المعرفة هي المعرفة الوجدانية. وأعمقها وأشدها تأثيراً هي تلك الناشئة من إحساس الإنسان بالنعمة التي تستلزم معرفة المنعم والمحسن ، بدرجة من درجات المعرفة .
وهذا هو الشيء الذي يتعاطى معه الإنسان بوجدانية وواقعية أكثر وأعمق . حيث تتناغم المعرفة الحسية في مستواها الداني مع ما هو أرقى وأسمى منها وهي المعرفة الوجدانية والضميرية والفطرية ، التي هي أبعد أثراً من المعرفة التصورية الفكرية ، التي هي على حد المعادلات الرياضية ، أو العقلية الفلسفية ، أو حتى الأمور الغيبية الصرف .
إذ أن الغيب هذا إنما يدخل إليه الإنسان من خلال الحس الوجداني ، من حيث ملامسته ومساسه بوجوده ، وبحياته ومستقبله .
لغة القرآن في التربية العقائدية :
ولأجل هذه الحقيقة الآنفة الذكر نلاحظ : أن الله سبحانه في قرآنه الكريم لم يتكلم عن التوحيد ، وعن الله ، وعن الآخرة ، وعن سائر الاعتقادات بمصطلحات فلسفية أو مقتبسة من علم المنطق أو غيره . وإنما دخل إلى الأمور الاعتقادية من باب لغة الحياة ، حيث ربطها بصورة مباشرة بالشأن الحياتي العملي المتجسد والملموس . لتستقر هذه الاعتقادات في القلب من خلال الإحساس ، والشعور المباشر والعميق . ولتتخذ موقعها القيادي والمحرك في هذا القلب.
فمثلاً ، تحدث الله عن التوحيد وربطه بالليل ، من موقع كونه سكناً لهم ، ثم ربطه بالنهار ، من موقع كونه مناسباً للابتغاء من فضل الله سبحانه ثم ربط كلا الأمرين بالرحمة الغامرة ، التي تعمل على توفير الأجواء الحياتية الملائمة للسعي نحو التكامل باستمرار .
قال تعالى : }قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة ، من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون{ .
}قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة ، من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه، أفلا تبصرون{.
}ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون{[61].
فالله سبحانه قد تحدث إذن عن التوحيد بما له مساس بواقع الإنسان الذي يعيشه ويحس به ، ويتفاعل معه بمشاعره وأحاسيسه لا بطريقة تجريدية ونظرية أو بصورة طرح معادلات فكرية جافة.
وفي سورة الحمد يريد تعالى أن يطرح قضية التوحيد من موقع التعريف بصفاته تعالى ، والإحساس المباشر بآثار تلك الصفات ، ثم سوق هذا الإنسان للإحساس بمدى تأثيره تعالى في كل جهات الحياة ، وفي جميع مفرداتها ، وفي كل الموجودات في هذا الكون الرحيب ، مع الحرص الأكيد على أن يخرجه عن أن يبقى مجرد أمر تصوري ، تجريدي ونظري ؛ ليصبح شأناً حياتياً حياً مؤثراً ، يفهمه الإنسان ، ويتلمسه بوجدانه ، ويتحسسه بمشاعره ، من خلال إحساسه بالنعمة الغامرة ، وبالعطاء ، وبآثار الرحمة ، والعلم ، والغفران ، والحكمة الإلهية ، وغير ذلك من صفاته تعالى. التي يتلمس الإنسان آثارها في كل آن على مدار اللحظات ، فضلاً عن الساعات ، في نفسه ، وفي كل ما يحيط به ، وفي كل الموجودات .
التسبيح بحمد الله تعالى :
وفي سياق آخر نقول : إننا نجد الله سبحانه يقول : }فسبح بحمد ربك{ [62] . ونحن مأمورون بأن نقول في صلواتنا في كل ركوع : سبحان ربي العظيم وبحمده ، وفي كل سجود : سبحان ربي الأعلى وبحمده . وقد اعتبر الشارع هذه الصيغة : تسبيحة كبيرة . فإذا أردنا أن نتجاوزها ، فلا يعوض عنها إلا ثلاث تسبيحات : سبحان الله ، سبحان الله ، سبحان الله . واعتبر كلمة سبحان الله تسبيحة صغيرة بالنسبة لتلك التسبيحة الكبيرة.
وهنا العديد من الأسئلة :
ما معنى هذا التسبيح ؟!
وما هو الرابط بين التسبيح والحمد ؟!
ولماذا كانت تلك تسبيحة كبيرة ، والأخرى صغيرة ؟!
ولماذا لا يقوم إلا ثلاث تسبيحات صغار مقام تلك الكبيرة فلا يكفي تسبيحتان مثلاُ ؟ !
ونقول في الجواب :
التسبيح هو تنـزيه الله تعالى عن كل شائبة : سواء أكانت من الأفعال الاختيارية : كتنـزيهه عن البخل ، وعن الظلم ، وعن القسوة . أو كانت غير اختيارية كتنـزيهه عن الضعف ، والحاجة ، والغفلة ، والنسيان ، وغير ذلك من أمور تعود إلى الذات . وكتنـزيهه عن أمور خارجة عن ذاته سبحانه، مثل الشريك ، والولد ، والصاحبة ، وما إلى ذلك.
وتقدم أن الرحمة هي المدخل إلى الاستفادة من الفيوضات التي تقتضيها كل صفات الذات الإلهية ، ليسعد هذا الإنسان بإنسانيته ، وسيره التكاملي نحو الله تعالى . وبسبب شمولية هذه الفيوضات واستيعابها لكل الحياة وللكون بأسره ، فقد استحق الله دون غيره حقيقة الحمد (إن كانت أل هي الجنسية) أو جميع أفراد الحمد ، إن كانت أل للاستغراق .
وسوف نرى : أنه تعالى إذا كان يحمد من حيث ربوبيته الملازمة للرعاية والتربية ، فمعنى ذلك هو شمولية الحمد واستغراقه، وذلك لأن شمولية آثار الصفات سوف تتسع لتستوعب كل ما له تأثير في هذه الرعاية ؛ فالحكمة ، والعطف ، والعلم الدقيق بخصائص الكون والإنسان ، وبما يصلح وبما يفسد ، والرحمة ، والغنى ، والكرم ، والقدرة ، والقيومية الدائمة ، ووالخ . كل ذلك دخيل في هذه الرعاية والتربية ، ومؤثر فيها .
فالفيض الإلهي لكل ما تقتضيه التربية لهذا الإنسان، والشعور بهذا الفيض يستدعي الحمد ، والثناء . ثم الشكر ، لهذا المنعم ، والتزام كل ما يرضيه .
ومن الواضح : أننا حين نريد تنـزيهه تعالى : نقول: سبحان الله . أي أنزه الله وأبعده عن كل شائبة ، فقد يقال : هذا مجرد كلام ليس له ما يثبته.
فإذا سبحت الله بواسطة الحمد ، ونسبت التسبيح لك شخصياً ، وقررت أن هذا التسبيح والتنـزيه إنما هو لله بعنوان كونه رباً أي راعياً ومربياً ، فإن الأمر يصبح مختلفاً تماماً عن قولك: سبحان الله فقط ، ويكون هذا هو الإثبات المطلوب.
وذلك لأن الحمد يكشف عن : أن الله سبحانه قد اتصف بصفة حسن ثابتة فيه استحق الحمد لأجلها ، ككونه ليس له شريك ، ولا ولد ولا صاحبة ، ولا مكان ، لا ينسى ، ولا يسهو، ولأنه عالم حي قيوم قادر غني ، الخ . كما انه يعني أنه تعالى قد صدرت عنه أفعال اختيارية استحق لأجلها الثناء والحمد، هي كل ما في هذا الكون من نعم نستفيد منها مباشرة أو بالواسطة[63] كالخلق ، والرزق ، والرحمة والرأفة ، والشفاء ، والقيومية ، الخ . فانتزعنا من هذه الأفعال الاختيارية صفات جمال وأضفناها إلى ذاته المقدسة : كالخالق والشافي والعالم ، والقادر الخ . فالحمد إذن ينتهي إليه . قال تعالى : }له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون{[64] .
فإذا سبحت الله بالحمد فإنك لم تنف النقص بالقول وحسب ، بل جئت بما يدل على انتفاء ذلك النقص عملياً. لأن حمدك هذا يدل على صدور فعل اختياري عنه تعالى قد تجسد في الخارج ، بل إن ذلك يدل على أزيد من نفي النقص ، وأزيد من الكمال.
وتوضيح ذلك : أنه قد يكون شخص مستجمعاً لكل الصفات البشرية كالعينين والأذنين واليدين والرجلين والعقل الخ. فهو إذن كامل لا نقص فيه . وقد يكون شخص فيه مما يزيد على هذا الكمال ، ككونه جميل الصورة ، أو أنه عالم، أو قوي ، أو كريم ، أو نحو ذلك .
والأمر بالنسبة للذات الإلهية من هذا القبيل ، فإن نفي النقص يستبطن إثبات الكمال،وهذا مرتبة أولى ،ثم يكون إثبات صفات زائدة على الكمال مرتبة ثانية، فإذا حمدته تعالى فإنك تكون أثبت له الكمال بنـزاهته عن النقص بالدليل وتكون أيضاً قد أثبت صفة إضافية بالدليل أيضاُ. من حيث أن حمدك يستبطن تأثير تلك الصفة وتجسد أثرها على صفحة الواقع . فإذا أثبت الربوبية فقد جئت بدليل آخر يفيد انبساط تلك الآثار على كل وجود ، وكل ما في هذا الكون الفسيح . مما يعني تنوع تلك الصفات التي أثرت هذه الآثار المتنوعة والمستوعبة لكل جهات وجودك .
ثم نسبت المربوبية إلى نفسك كفرد(ربي) ، لتؤكد على أن هذا التنـزيه والحمد هو منك على الحقيقة ، لأن التربية كانت تتوخّى شخصك مباشرة ، وليست أمراً بعيداً عنك قد استهدف الحياة في مجالها العام .
وخلاصة الأمر : إن التسبيح بالحمد يكون تنـزيهاً مستدلاً عليه بالدليل الحسي ، لأن الحمد يدل التزاماً على أن صفات الله سبحانه قد تجسدت بآثارها ، وأصبحت واقعاً حياً ، وفعلاً اختيارياً يستحق الحمد والثناء . فالدليل على نزاهة الله من النقص هو هذا الكمال المتجسد، وهو الرازقية والخالقية،والشفاء والعطاء والرأفة الفعلية.
فلم يعد الكمال مجرد دعوى ، وإنشاء كلامي.
وقد تكرر التسبيح بالحمد في كثير من الآيات: مثل قوله تعالى: }فسبح بحمد ربك{[65]، }وإن من شيء إلا يسبح بحمده{[66]، وغير ذلك .
وذلك كله يفسر لنا سرّ ترديدنا في صلاتنا : سبحان ربي العظيم وبحمده .
لماذا تسبيحة كبيرة :
أما لماذا كانت هذه تسبيحة كبيرة تعادلها ثلاث تسبيحات صغار هي : سبحان الله – ثلاثاً – فلعله لأجل : أن التسبيحة الكبيرة تضمنت ثلاثة تنـزيهات لله تعالى :
التنـزيه الأول : هو ما تضمنته كلمة "سبحان" من إنشاء للتنـزيه وتفوهٍ به .
التنـزيه الثاني : أنها نسبت التنـزيه لكلمة "رب" التي تلمح إلى دليل ذلك التنـزيه وهو التربية والرعاية الإلهية ، التي تحتاج في تحققها إلى العديد من الفيوضات والعنايات المستندة إلى صفات إلهية جمالية وجلالية متنوعة وكثيرة ، كالعلم ، والحكمة ، والرحمة ، والقوة والغنى ، والحياة ، والقيومية وغير ذلك . وهذا التنـزيه أشد من التنـزيه بمجرد نفي النقص ، لأن إثبات تلك الصفات معناه إثبات شيء زائد على الكمال أيضاً .
ثم نسبت هذه التربية إلى نفسك "ربي" لتؤكد على أن شخصك هو المعني بهذا التنـزيه ، لأنه كان المعني مباشرة بالتربية.
ثم جاء وصف الله بالعظيم ليؤكد على ثبوت تلك الصفات له تعالى بصورة أتم وأعلى ، أوجبت وصفه بالعظمة .
التنـزيه الثالث : قوله : وبحمده . أي وأسبح بواسطة الحمد . حيث إنها تماماً مثل كلمة "رب" قد أظهرت : أنه تعالى قد فعل تجاهك باختياره ما هو جميل وحسن ، صادر عن صفة جمال أو كمال ثابتة فيه تعالى . مما دعاك إلى إنشاء هذا الحمد والثناء . فإثبات صفة الكمال أيضاً بالحمد قد نزه الله عن النقص ، وأثبت أمراً زائداً على الكمال وهو ما يوجب جمالاً أيضاً .
فهذه التنـزيهات الثلاثة تصبح أقوى في الدلالة على التنـزيه من كلمة سبحان الله ، مجردة ، فكانت تلك تسبيحة كبيرة ، تعادل ثلاثة تسبيحات صغيرة ، بل وتزيد عليها . لأنها دعوى للشيء مع دليله ، وتثبت ما هو فوق التنـزيه عن الشريك وعن النقص وغير ذلك ، ولا سيما بملاحظة ما توحي به كلمة "العظيم" .
شمولية كلمة : ربوأخيراً ، فإن "رب" : كلمة تستبطن جميع أسماء الفعل للذات الإلهية المقدسة ، لأن ربوبيته تعالى من موقع تدبيره . وهو يقتضي أن يكون حكيماً ، عليماً ، قادراً ، خالقاً ، شافياً ، الخ .
العالمين :
العالمون : جمع لا واحد له من لفظه وليس جمع عالم، كما زعم بعضهم . بدليل : أنهم قالوا : إن جمع المذكر السالم هو ما كان جمعاً لمذكر عاقل . والعالم ليس مذكراً ولا عاقلاً ، فليس العالمون جمعاً له ، وإن كان قد جاء على صورة الجمع فألحقوه به في الإعراب إلحاقاً . قال ابن مالك في ألفيته ، عن جمع المذكر السالم وإلحاق بعض الألفاظ به :
وارفع بواوٍ وبيا اجرر وانصب سالم جمع عامر ومذنب
وشبه ذين وبه عشرونـــا وبابه الحق والأهلونـا
أولوا وعالمون عليونــــا وأرضون شذ والسنونا
أضف إلى ما تقدم : أن كلمة "عالم" يراد بها كل هذا الوجود بما فيه ، فإذا أردت أن تجمعها ، فلا بد من تقسيمها إلى أشياء صغيرة ، كعالم النبات وعالم الجماد ، وعالم الحيوانات وعالم. ثم تجمع هذه الأشياء ، ومع ذلك فإن الجمع لن يتجاوز مفرده في شموليته ، لأن المفرد يشمل كل شيء في الوجود ، والجمع – والحالة هذه – قد لا يشمل كل شيء . فيكون الجمع أخص من المفرد أحياناً ، أو مساوياً له على أبعد تقدير ، وكلاهما لا يصح .
ما المقصود بالعالمين :
وهنا سؤال ؛ وهو :
هل المقصود بالعالمين هو كل الموجودات والمخلوقات ؟ أم المقصود نوع خاص منها ؟
وهل تشمل الجن والملائكة . بل وحتى سائر الموجودات الأخرى ، على فرض أن لها درجة من الشعور والإدراك ؟ أم لا تشمل شيئاً من ذلك ؟
ونقول :
هنا جوابان ، الأول منهما يصلح مقدمة للجواب الثاني ، وهما :
أولاً : التربية للعالمين :
إن المقصود بالعالمين معنى يتناسب مع أمر التربية ، والانتقال من حالة النقص إلى حالة الكمال ، إذ لا يمكن تربية ما يفقد القابلية للتحول والرقي والانتقال . وقد دلت الآيات على أن الجمادات ، بل جميع الموجودات أيضاً ، لها درجة من الشعور ، والإدراك ، بحيث تستطيع تسبيح الله ؛ قال تعالى : }وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم{[67].
وقال : }يسبح لله ما في السموات ، وما في الأرض له الملك وله الحمد{[68].
ولم يقل : يسبح من . فإن "ما" تستعمل لغير العاقل. وكلمة "من" للعاقل .
وقال تعالى : }إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً{[69].
وثمة آيات عن سجود الموجودات . وهي كثيرة[70].
وثمة آيات تحدثت عن دور عاقل للنملة ، وللهدهد، وتجلي الله للجبل ، فجعله دكاً . وخشوع الجبل وتصدعه من خشية الله وغير ذلك.
وقد نلمح في القرآن أن جميع الكائنات قابلة للتربية وللتكامل ، حيث أشار القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى ربوبية ورعاية الله تعالى للجمادات أيضاً .
قال تعالى : }رب السماوات والأرض وما بينهما{[71] }رب المشرق والمغرب{[72] }ورب العرش العظيم{[73] .
وغير ذلك من آيات كثيرة قررت هذه الربوبية .
إلا أن يقال : إن ربوبية كل شيء وتكامله إنما هو بحسبه ، ومن خلال ما يملك من معطيات .
أو يقال : المراد بالرب هنا الإله .
ونقول : إن هذا الاحتمال الأخير يحتاج إلى ما يثبته.
ونشير هنا إلى أمرين :
الأول : سجود المخلوقات وتسبيحها ليس تكوينياً.
وقد حاول البعض أن يقول : إن هذا التسبيح إنما هو من حيث أن وجودها وعجيب خلقتها فيه تنـزيه لله سبحانه عن كل نقص ، وعن الشريك وغير ذلك ، فهي تسبحه تعالى بلسان التكوين . وتسجد له بمعنى تخضع له تكويناً أيضاً . وعرض الأمانة إنما هو تصوير رمزي لعدم قدرة هذه الموجودات تكويناً أيضاً .
ونقول :
إن هذا التوجيه غير صحيح ، فإن قوله تعالى : }ولكن لا تفقهون تسبيحهم{، يدفعه وينافيه ، إذ أن هذا التفسير معناه: أننا نفقه تسبيحهم ؟!
وكون السجود بمعنى الخضوع التكويني فقط ، ينافيه قوله تعالى : }ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض ، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم ، إن الله يفعل ما يشاء{[74].
فقوله : "وكثير من الناس" دليل على أن المراد بالسجود ليس هو الخضوع والانقياد التكويني . فإن الناس جميعهم يخضعون تكويناً له تعالى .
وآية الأمانة أيضاً لا يصح تفسيرها بما ذكر ، لأنه تعالى يقول : "وأشفقن منها" والإشفاق ، إنما هو انفعال نفساني خاص ، وليس خضوعاً تكوينياً.
إذن فنحن أمام حقيقة قرآنية هي : أن جميع المخلوقات لها درجة من الشعور والإدراك ، بحيث تسبح الله، وتسجد له ، وتشفق من بعض الأمور ، وتقبل وترد بالاختيار والإرادة . ولكن كيف يتم ذلك !! هذا ما لا نعلمه ، وقد لا يتسنى لنا العلم به وبحقيقته وكنهه ، ومستوياته .
الثاني : تكامل الإدراك والشعور ومستواه :
ويبقى أمامنا سؤالان : الأول : عن مستوى ودرجة شعور وإدراك الموجودات ، من الجماد والنبات ، وغيرهما .
الثاني : هل هذا الإدراك والشعور فيه قابلية النمو والتحول. أم أنه مقفل ومحدود في هذه الناحية ؟
والجواب على كلا السؤالين هو : أننا لا نملك الكثير من المعطيات التي تجعلنا قادرين على إعطاء إجابة قاطعة في هذا المجال . بل إن أكثر ما نعرفه في هذا المجال ، هو نفس ما حدثنا عنه القرآن الكريم ، ونبي الإسلام العظيم. ولأجل ذلك فنحن لا نتشجع كثيراً للبحث في هذا الأمر ، لأننا غير قادرين على إغنائه بالشواهد والدلائل التي نتجاوز من خلالها حدود المعارف التي رآنا الله أهلاً لأن يخاطبنا بها في آياته الكريمة ، وعلى لسان نبيه العظيم. ولم يذكر لنا أكثر من كونها لها درجة من الشعور ، وأنه تعالى رب لكل شيء . أما كيف ؟ وإلى أي مستوى ؟ وأي حد ؟ فذلك ما لم يفصح لنا عنه القرآن الكريم .
ثانياً : العالمون خاص بالبشر :
إننا إذا تتبعنا الآيات القرآنية نجد : أن كلمة العالمين تستعمل غالباً في خصوص البشر العقلاء ، كقوله تعالى :
}واصطفاك على نساء العالمين{[75].
}وأني فضلتكم على العالمين{[76].
}صدور العالمين{[77].
}إن الله اصطفى آدم ونوحاً ، وآل إبراهيم ،وآل عمران على العالمين{[78].
}وما الله يريد ظلماً للعالمين{[79].
}ذكرى للعالمين{[80].
}أولم ننهك عن العالمين{[81].
}آية للعالمين{[82]
}ما لم يؤت أحداً من العالمين{[83].
}لا أعذبه أحداً من العالمين{[84].
وموارد كثيرة أخرى ظاهرة في ان المقصود بالعالمين هم البشر ، لقرائن فيها ، مثل كونها مجتمعات فيها نساء ، أو ظلم ، أو تعذيب ، أو ذكر ، أو نحو ذلك .
استدلال لا يصح :
أما قوله تعالى ؛ حكاية لقول فرعون وموسى عليه السلام }قال فرعون : وما رب العالمين قال رب السموات والأرض ،وما بينهما{[85]. وكذا قوله تعالى : }فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين{[86]. فقد تخيّل بعضهم : أن المقصود بالعالمين في هذه الآية هو ما يشمل السماء والأرض ، فتكون لغير العاقل . ولعله لأنه رأى أنها بدل مما قبلها . وقد أكد هذا الأمر فرعون باستعماله كلمة "ما" التي تستعمل بالأصل في غير العاقل.
ونقول : إنه تخيّل باطل ، فأما بالنسبة لكلام فرعون، فهو يريد أن يوهّن ويحقّر مقام الربوبية الذي يتحدّث عنه موسى ، ويُظهر للناس أنه رب غير عاقل ، ولا يصلح لأجل ذلك للربوبية، ليثبت للناس : أنه هو ربهم الأعلى .
وأما كون كلمة : "رب العالمين" بدلاً مما قبلها ، فذلك لا يضر ، ما دام انه يمكن أن يكون موسى عليه السلام قد أراد التعبير عن هذا الرب بذكر ميزات عديدة له ليدفع أي لبس أو اشتباه ، فذكر ربوبيته للسماء والأرض ، وللعقلاء أيضاً – وهم العالمون – فليست الآية بصدد إجمال ما تقدم بجميع خصوصياته .
ربي أم رب العالمين :
وأما لماذا لم يقل : الحمد لله ربي ، أو ربنا . بل قال: رب العالمين ، فلأنه تعالى يريد منا : أن نحيا حياة اجتماعية ويعين بعضنا في مسيرتنا نحو الكمال ، إذ لا يكفي التكامل الفردي والشخصي، فيكون الناس أفراداً ، يحيون حياتهم الخاصة منفصلين تمام الانفصال بعضهم عن بعض .
فالله يتعامل معنا من موقع المربي للعالمين جميعاً ، وعلينا أن نتعامل معه من موقع الاستجابة لهذه التربية وبمرونة اجتماعية عامة وإن كانت محدودة وفق ما يتوافر من إمكانات وطاقات ، لا من موقع فرديتنا ، ولأجل ذلك نجده تعالى يركز على هذه الناحية ، فهو }ربكم ورب آبائكم الأولين{[87] وهو }رب العالمين{[88] و }هو رب كل شيء{[89] .
الكون المتوازن :
ونحن إذا دققنا النظر في هذا الكون الفسيح ، فإننا لا نجد سوى التوازن الدقيق والانسجام والتناسق الظاهر في كل مزاياه وزواياه ، والكل يسير باتجاه الهدف المحدد – كل ميسر لما خلق له – ولا يتخلف عن هذا الأمر إلا هذا الإنسان الذي يتعامل الكثيرون من أفراده بخصوصيتهم الفردية والشخصية، ومن منطلق الأنا .
ولنضرب مثالاً توضيحياً لما نريد تقريره هنا :
لنفترض شجرة تنمو وسط مجموعة من مثيلاتها في حديقة أو بستان .
فلهذه الشجرة – من جهة – خصوصيتها الفردية ، وإيحاؤها الشخصي كشجرة . فيمكن أن نفترضها والحالة هذه تنمو بصورة عشوائية تضرب بجذورها وفروعها في كل اتجاه باحثة عن كمالاتها الفردية هنا وهناك . بحيث قد تصل في امتداداتها وتشعباتها إلى حدود ومستويات تحجب معها عن مثيلاتها التي بالقرب منها نور الشمس ، والغذاء والماء ، وتنشر الضعف والشلل في ما يحيط بها ، وتزرع وتثير الفوضى ،والتشويه الجمالي، والعشوائية في الإيحاء العام للبستان كله .
ولها خصوصية من حيث كونها جزءاً من التركيبة الجمالية، والإيحاء العام للحديقة أو البستان . وهذه الناحية تفرض درجة من التهذيب والتشذيب ، وصياغة غصونها وسائر عناصر شخصيتها بطريقة لها إيحاءاتها الجمالية التي تتناغم مع إيحاءات مثيلاتها ، التي تشاركها في صياغة حالة جمالية جديدة وعامة . وحينئذ لا بد أن نطلب من البستاني أن يتدخل ليتدارك أي خلل قد يطرأ على الناحية الجمالية العامة، فيبدأ عملية التشذيب بل والاستئصال أحياناً لشجرة تمثل حالة فردية شاذة لا تنسجم مع المحيط العام . وتؤدي إلى اختلال التوازن ، والفوضى ، والتشويش في ملامح الصورة البستانية ، وأهدافها ومعطياتها .
ونتيجة لذلك التشذيب والتهذيب ، تعود للحديقة جماليتها ، وللبستان رونقه ، وتسهم تلك الشجرة – إذا استطاعت المشاركة – في صنع ملامح تلك الصورة . وتسهم في الإيحاء المطلوب في مسيرة تكاملية ، ومشاركة جماعية في صنع وضع جماعي سليم ، وطبيعي وقويم.
وكذلك الحال بالنسبة للحياة الإنسانية أيضاً . وقد جاءت هذه الآية الشريفة : "رب العالمين" لتوحي بذلك كله في عملية توجيه عفوي لهذا الإنسان نحو المشاركة في صنع هذا الواقع الاجتماعي للإنسان في حياته العامة . وهي بمثابة دعوة له لصنع التوازن والانسجام في محيطه العام خلال مسيرته الإنسانية التكاملية ؛ فيصوغ حياته وإنسانيته وخصائصه بطريقة تحتفظ معها بفرديتها ، ولكنها تنسجم وتتوازن وتتكامل مع كل ما يحيط بها ، ولا تصطدم معه ، بل تشكل هي وإياه رافداً للخير والعطاء ، والسمو والتكامل والنمو .
وقد تفرض هذه المشاركة الإيجابية الواعية والمسؤولة قدراً من التضحية من بعض الناس ، فيتخلون عن خصائص وامتيازات شخصية وفردية لهم غالية وحبيبة ، تكون هي الثمن لما تنعم به المجتمعات من سعادة ورخاء ، ووئام وصفاء .
الألوهية والربوبية معاً :
وحين يستقر في وعي الإنسان : أن ثمة خالقاً مدبراً لهذا الكون فإنه يدرك : أن هذا الخالق قوي ، وغني وعظيم، وقهار وما إلى ذلك من صفات ألوهية، تعني مزيداً من الإحساس بالبون الشاسع ، فيما بين هذا الإنسان الضعيف ، العاجز ، المحتاج ، الخ. وبين ذلك الإله الخالق العظيم ، وقد يتحول هذا الإحساس بالبون – بصورة لا شعورية – إلى إحساس بالبعد عنه ، وبانقطاع العلاقات والروابط معه أياً كانت [90] .
ولأجل ذلك نلمح مزيداً من الإصرار في الآيات القرآنية على تجسيد العلاقة بين الله وبين العباد ، كواقع حي، يتلمسه هذا الإنسان بأحاسيسه الظاهرة قبل الباطنة . في كل حين ، وفي كل مجال .
كما أن ثمة تركيزاً واضحاً على تكوين شعور قوي وعميق بربوبيته سبحانه لهذا الإنسان ، ورفقه به ، ورعايته له من موقع المحبة ، والرعاية والتدبير لكل شؤونه على أساس الحكمة والإشراف والهيمنة .
فالله أوجدك ، ولا يزال يرعاك ، ويهتم بك ، ويدبر شؤونك ، وأنت لا تزال بحاجة إليه ، وتتعامل معه من موقع حاجتك وغناه ، وضعفك وقوته ، فهو يعينك شخصياً في كل آن، وفي كل مكان . إنه هو الذي يحميك، وهو الذي يحضنك ، ويرشدك ، ويهديك ، وهو الذي يرزقك ، ويشفيك وهو الذي يرعاك ويربيك .
ومن باب ربوبيته لك تنفتح على كثير من صفات الجمال فيه، فهو الراحم والعطوف ، والحكيم ، والحنان ، والمنان .
وهذا كله سيجعلك تتعامل معه بروح الود والمحبة ، والحميمية والصفاء ، والامتنان والوفاء .
نتائج ثلاثة :
ونستنتج من ذلك الأمور التالية :
إن التعامل الصحيح مع الله ليس على أنه موجد وحسب، بل على أساس أنه موجد ، ومرب ، لا يزال يرعى ، ويحفظ ، ولسوف نبقى بحاجة إلي ذلك .
إن إحساسنا بالحاجة إليه وإلى رعايته وتربيته لنا يتطلب منا أن نؤهل أنفسنا لهذه التربية ، ونستعد لها ، ونتجاوب معها . فلا نشعر بالامتلاء والشبع ، وعدم الحاجة إلى المزيد من الكمال والسمو . لأن شعوراً كهذا معناه منع تلك الرعاية ، والهداية الإلهية من التأثير ، وبالتالي الإحتجاب عن الفيوضات الإلهية الضرورية لذلك .
بما إن الإنسان يحب نفسه ، ويحب الكمال لها ، فهو يحب الجهة التي تساعدها وترعاها ، وتسعى لرفع نقائصها لتنال ذلك الكمال المنشود فإذا عرف وشعر - عملياً - أن الله سبحانه هو الذي يتولى ذلك من موقع المعرفة ، والحكمة ، والرحيمية ، والقدرة ، فلسوف يتجه إليه سبحانه ، ويرتبط به ، على أساس الاعتراف بالنقص ، وبالحاجة ، والعرفان بالفضل ، ثم هو يتعامل معه من خلال صفات الألوهية والربوبية التي يجد فيها ما يغنيه .
تفسير قوله تعالى: }الرحمن الرحيم{
الرحمن الرحيم : مرة اخرى :
وقد اتضح مما تقدم : أن قوله : "الرحمان الرحيم" بعد قوله: الحمد لله رب العالمين . قد جاء في موقعه الطبيعي . فإنه تعالى إنما يرعى الإنسان ويربيه بصورة متوازنة ، لا يهمل جهة فيه على حساب أخرى . فيرزقه حيث يحتاج إلى الرزق ، ويشفيه حيث يحتاج إلى الشفاء، ويعمل قدرته في موضع القدرة ورحمته في موضع الرحمة والعلم والحكمة ، ووالخ. كل في موقعه .
وهذه هي أفضل رعاية ، وأمثل تربية . يصل الإنسان من باب الرحمة إلى الربوبية ، ومن الربوبية إلى صفات الألوهية .
وإنما دخلنا إلى الربوبية من باب الرحمة ، لأن الرحمة - كما قلنا سابقاً - إنما هي نتيجة ملاحظة نقص أو ضعف، أو عجز لدى الآخرين ، يدفع إلى التحرك باتجاه رفع هذا النقص، أو العجز أو الضعف. وهذا بالذات هو مورد التربية ، التي هي الانتقال التدريجي لنا من حالة نقص أو ضعف أو عجز إلى حالة كمال وقوة أعلى منها وأتم. ويكون ذلك بدافع من رحمة وعطف نشأ عن مشاهدة ذلك الضعف والعجز.
فيصبح قوله تعالى : الرحمان الرحيم ، نتيجة طبيعية لقوله: رب العالمين .
أليست المرأة تهتم – عادة – بتربية طفلها ، وتلبية حاجاته، والحفاظ عليه ، وتتحمل الأذى الكثير والكبير في سبيل ذلك ؟!
إن ذلك ليس نتيجة شعورها بالواجب الشرعي أو القانوني الملح . بل لأنها تلاحظ عجزه عن الأكل والشرب، وعن الحركة ، وعن دفع الحر والبرد وسائر الأخطار عن نفسه ، فتندفع بدافع من الشعور بالرحمة والعطف لرفع هذا النقص فتحميه وترعاه وتسهر عليه .
إذن ، فمجرد الشعور بالنقص لدى الآخرين لا يكفي للتحريك باتجاه رفعه ، إذ قد يلتذ البعض برؤية آلام الآخرين . بل لا بد من الانفعال الإيجابي تجاهه ، وهو ما نسميه بالرحمة .
النقص حقيقي وأساسي :
فتشير كلمة "الرحمان الرحيم" إلى أن هذا النقص ليس بعد تحقق أصل الكمال ، ليكون نقصاً لما هو زائد عن حد الكمال، كان ينبغي أن يضاف إليه . وإنما هو حاجة وضعف ونقص عن حد الكمال نفسه . وإلا ، فلو كان الكمال حاصلاً ، والنقص والضعف إنما هو في عدم نيل الزائد عنه فلا يبقى هذا المورد مصداقاً ومحلاً للرحمانية الشاملة ، ولا للرحيمية الثابتة والراسخة والدائمة .
ثبات واستمرار الرحمة :
ولا بد من هذا الدوام والاستمرار للرحيمية بالنسبة لهذا الإنسان ، لأن كل شيء إذا وصل إلى درجة كماله ؛ فإنه قد يبقى ثابتاً عليها ، إلا الإنسان ، فإنه دائماً في معرض النقص بسبب أنه يملك غرائز وشهوات وطموحات قد تُزل قدمه ، وتجره إلى المخاطر بل المهالك . فهو بحاجة إلى استمرار هذه الرعاية ، ودوام إفاضة الألطاف عليه ، حتى وهو في أقصى حالات كماله .
دوافع التربية والرعاية :
ثم إن هناك رعاية وتربية من موقع الأنانية الشخصية للمربي، حيث يرى أن ثمة نقصاً يعود إليه . وذلك مثل تربية الأولاد ، فإنها قد تكون أحياناً بسبب أنانيتنا المهيمنة على مشاعرنا. ولكن رعاية الله سبحانه لنا ، هي محض التفضل ، ومحض الرحمة ، ومحض الخير .
فاتضح من جميع ما تقدم أن "الرحمان الرحيم" كانت هنا هي النهاية ، كما كانت "الرحمان الرحيم" هي البداية في آية "بسم الله الرحمان الرحيم" وما أحوجنا لهذا الأمر ، وما أشد غفلتنا عنه .
تفسير قوله تعالى : }مالك يوم الدين{
المعاد مشكلة حقيقية للمشركين :
وقوله تعالى : }مالك يوم الدين{ قد أشار إلى أصل مهم جداً من أصول الدين . وهو المعاد ، والقيامة ، حيث الحساب والجزاء ، والثواب والعقاب .
وهذا هو الأصل الأكثر حساسية ، والذي كان يثير حفيظة المشركين ، ويحرجهم ، ويخرجهم عن أدنى حالات التوازن.
فلماذا هذه الحساسية المتناهية منهم تجاه هذا الأصل يا ترى؟!
للإجابة على هذا السؤال نقول :
إن المشركين وإن كانوا يتمسكون بعبادة الأصنام ، إلا أنهم ما كانوا حريصين على عبادتها وعلى رفض التوحيد إلى درجة أن يضحوا في سبيلها بالمال والرجال ، والأهل والولد ، وبكل شيء . ولم يكن الاعتقاد بالله عز وجل وبأنه خالق رازق ، رحيم ، عزيز الخ . بالأمر البعيد عن أذهانهم، وقد أشار تعالى إلى ذلك ، فقال : }ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله. {[91].
}ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله . {[92].
بل إن عبادتهم الأصنام لم تكن تعني لديهم رفض عبادة الله، بل كانوا يرون أن عبادتها توصل إليه تعالى ، قال سبحانه : }والذين اتخذوا من دونه أولياء ، ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى{[93].
نعم ، هم كانوا يرون أن للأصنام نوعاً من التأثير في أوضاعهم ، فهي تؤثر في سعة رزقهم ، وشفاء مرضاهم ، وفي دفع أعدائهم ، وفي حل مشاكلهم .
فلو أنهم عدلوا عنها إلى الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الذي يتولى هذه الأمور وغيرها لهم ، فهو الذي يرزقهم ويشفيهم ، ويدفع أعداءهم ويحل مشاكلهم . فإنهم سوف لن يرفضوا ذلك ولن يقاوموه بهذه الشراسة .
كما أن اعتقادهم بنبوة النبي لم يكن يمثل لهم مشكلة كبيرة أيضاً . وما اسهل عليهم أن يعتقدوا أن محمداً يُكلَّم من السماء لو كان الأمر يقتصر على ذلك . بل لقد عرضوا على النبي (ص) أن يملكوه عليهم ، ويعطوه الأموال، ويزوجوه من شاء . فالقضية إذن بالنسبة إليهم ليست قضية الجاه والمقام النبوي للنبي (ص)، وحسب .
ولكن المشكلة كل المشكلة ، والكارثة الحقيقية بالنسبة إليهم ، وعلة العلل في رفضهم الانقياد للنبي (ص) هي الاعتقاد بالمعاد ، وبيوم الدين ، والجزاء والحساب ، والثواب والعقاب ، وهي المشكلة الني تحدث عنها الله هنا بقوله "مالك يوم الدين" .
ولا يقتصر ذلك على المشركين بل يشاركهم اليهود في هذا الأمر أيضاً . فإن حاكمية الله ليوم الدين هو الموضوع الأكثر حساسية ، والأكثر إثارة لهذين الفريقين من الناس ، لأنه هو الموضوع الأكثر حيوية ، وملامسة لحياة الإنسان ، بكل تفاصيلها حتى أخص الخاص منها
لأن الاعتقاد بالحساب وبالدينونة يقتضي منهم أن يرتبوا حياتهم من جديد ، بطريقة تؤدي إلى السلامة الحقيقية في يوم الدين. ويخرج القرار من يدهم في كبير الأمور وصغيرها ، ويجعلهم ملزمين بامتثال أوامر الله ، الذي عرفوا بعضاً من صفات ألوهيته وربوبيته ، ككونه حياً قيوماً ، عالماً ، قادراً ، رازقاً الخ .
إن هذا الاعتقاد يخلق لدى الإنسان شعوراً مختلفاً (لا يخلقه الاعتقاد بالتوحيد ، أو بالنبوة ، أو بغير ذلك) وهو اعتقاد له آثار عملية ، لأنه يجعل الإنسان يشعر بأنه مطالب ومحاسب ومسؤول عن كل ما يصدر منه ، وليس حراً في أن يفعل كل ما يحلو له ، بل عليه أن يعيد النظر في كل كبيرة وصغيرة في حياته ، حتى في أموره الاعتقادية في أدق تفاصيلها ، وفي سلوكياته ، في صغيرها وكبيرها على حد سواء ، وفي مشاعره ، وعلاقاته ، وارتباطاته العاطفية ، وفي كل شأن ، وفي كل شيء يمكن أن يطالب به في يوم الحساب.
ومن خلال الاعتقاد بيوم الدين ينفتح هذا الإنسان على الله، وعلى صفاته . خصوصاً : عليم ، جبار ، منتقم ، عزيز . لمن يكون طاغياً مستكبراً، متمرداً وقاسياً . فيتراجع : ليدخل من باب الرحمان الرحيم إلى : التواب الغفور ، الودود وينتهي إلى الحمد على تربيته ورعايته له ، وينال الشعور بالأمن مع الله ، ومع صفة المؤمن ، والبر ، والسلام .
وإن لم يتراجع هذا الإنسان . فلسوف يعيش حالة الإحباط، واليأس ، والخسران أمام صفات المنتقم ، الجبار ، العزيز الخ.
فالاعتقاد بيوم الدين هو الأساس ، في شعور الإنسان بالمسؤولية عن التغيير في كل حياته ، وليدخل في دائرة التعبد والانقياد الحقيقي لله ، والانصياع لكل أمر ونهي ونفي أي عبودية لغيره تعالى : من شخص أو مقام ، أو مال ، أو هوى ، أو صنم ، أو أي شيء له تأثير بدرجة ما على سلوك ومواقف الإنسان، حيث لا بد أن يكون التأثير لله وحده ، والعبودية الخالصة له تعالى دون غيره . ثم يطلب الاستعانة المطلقة به ، والهداية منه كما سنوضحه.
ولهذا نجد أنهم حينما ظهر الإسلام في مكة ، كانت ثورتهم الحقيقية والعارمة ضد الإيمان بالمعاد والجزاء والقيامة. لأنها تستهدف التغيير الكامل والشامل في كل شيء في حياتهم . ومما زاد في حنقهم أنهم رأوها تجد آذاناً صاغية لدى الكثيرين ، فزاد خوفهم ورعبهم . ولذلك نجد أن القرآن الكريم لم يزل يؤكد على البحث والجزاء والقيامة. ويضرب لهم الأمثال الإقناعية لذلك ولا يزيدهم ذلك إلا إصراراً وجحوداً وعناداً .
قال تعالى: }إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين{[94].
وقال سبحانه : }وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه ، قال: من يحيي العظام وهي رميم . قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ، وهو بكل خلق عليم{[95].
وقال عز وجل : }أولم يروا : أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يَعْيَ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى{[96].
وقال عز شأنه : }إنا نحن نحيي الموتى ، ونكتب ما قدموا وآثارهم{[97].
ثم بيّن سبحانه سبب إنكارهم ليوم القيامة ، فقال : }لا أقسم بيوم القيامة . ولا أقسم بالنفس اللوامة . أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه؟ بلى قادرين على أن نسوي بنانه. بل يريد الإنسان ليفجر أمامه . يسأل أيان يوم القيامة. فإذا برق البصر . {[98].
إذن ، فهم ينكرون يوم القيامة ؛ لأنهم يريدون أن يبرروا فجورهم وانحرافهم ، وكل تصرفاتهم . وأن يبرروا إصرارهم على مواصلة هذا الفجور في المستقبل .
وبعد كل ما تقدم فإننا نعرف سبب شدة اليهود والمشركين في عداوتهم لأهل الإيمان . قال تعالى : )لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود، والذين أشركوا([99]. فإن توراتهم تلك المحرّفة لم تتعرض ليوم القيامة أبداً . نعم قد تحدثت في مورد عن وادي الهلاك . ولذلك نجد أن اليهود عموماً لا يعتقدون بيوم القيامة ، والذين يعتقدون به منهم فإنهم ليس لديهم بالأمر الواضح في مغزاه ومرماه وفي تفاصيله . ولذا فإن اليهود يرون أن خسارتهم للدنيا لا يعوضها شيء ، فكانت الدنيا كل همهم ، وكانوا : }أحرص الناس على حياة{[100] مهما كانت تافهة وحقيرة .
ثم جاءت تعاليمهم لتزيد من غرورهم ، ومن إحساسهم بفرديتهم التي عبّر عنها القرآن بقوله : }بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى{[101] . فزاد ذلك من حبهم للدنيا ، وزاد من كرههم لأهل الإيمان ؛ لأنهم هم الذين تخلوا عن خصوصياتهم الفردية ليذوبوا في المجتمع ، وليكونوا قوة حقيقية يخشاها اليهود أشد الخشية ، ولذلك عادوها أشد العداء حتى أكثر من عداء المشركين . ولذلك ذكرهم الله قبل أن يذكر المشركين : اليهود والذين أشركوا.
ويلاحظ أنه لم يقل : اليهود ، والمشركون . وذلك ليشير إلى أن الشرك قد جاء على خلاف الفطرة ، وقد خرجوا بشركهم عن فطرة الله باختيارهم .
أي أنواع المالكيات لله تعالى؟
وأما لماذا قال تعالى : }مالك يوم الدين {. ولم يقل : المحاسب أو المجازي يوم الدين .
فالجواب هو : أننا نجد أن المالكية على أنواع :
المالكية الاعتبارية : وهي التي تنشأ من تصميم العقلاء الذي لهم صلاحية إنشاء اعتبار كهذا ، فوجود هذا النوع من المالكية قائم بوجود الاعتبار والقرار . وينشأ عنه إطلاق التصرف للمالك في مورد اعتبار الملكية ، وهذه التصرفات يمكن تحديدها بحدود وتقييدها بقيود ، كمنع الإسراف ، أو الإتلاف ، أو التعذيب لذي الروح من دابة أو عبد مملوك .
ويمكن سلب الاعتبار عن أنواع بخصوصها ، كالميتة ، والخمر وغير ذلك .
أما بالنسبة لمورد الاعتبار فهو من حيث القيمة :
قد يكون غير ذي قيمة بنظر العرف . وليس ملكاً، كحبة تراب في صحراء ، حيث لا يملكها أحد ، أو كقطرة من ماء البحر.
قد يكون ملكاً ومالاً ، ولكنه لا قيمة له ، كحبة تراب أو حبة قمح في أرض زيد من الناس ، فإنها ملك له ، ولكنها لا قيمة لها بنظر الناس
قد يكون له قيمة ، وهو ملك ، ومال .
ومن جهة أخرى ، فإن منشأ القيمة يختلف أيضاً :
حيث إن قيمته قد تكون ناشئة من محض اعتبار العقلاء ، لأغراض خارجة عن حقيقته وذاته . كغرض التسهيل في المعاملات أو لغير ذلك . فيعطونه القيمة أو ينـزعونها لأجل ذلك . وذلك مثل الأوراق النقدية ، فإن ماليتها وملكيتها متقومان باعتبار من لهم صلاحية إنشاء اعتبار كهذا . وهم الذين يتحكمون في مستوى هذه القيمة، التي قد تعلو في يوم ، وقد تنخفض في يوم بصورة كبيرة وخطيرة . وقد تزول بالكلية في يوم آخر ، مع أن الورقة النقدية لا تزال هي ذاتها لم تتبدل ، ولم تتغيّر .
قد تكون قيمة المورد كامنة في داخل ذاته وحقيقته، بسبب ما له بنفسه من دور حقيقي في حياة الإنسان ، وبسبب الحاجة الواقعية إلى الاستفادة من الخصوصية القائمة في ذاته . فليست قيمته إذن ناشئة من مجرد الاعتبار والجعل. وذلك مثل البيت للإنسان ، ومثل الغذاء والدواء، واللباس له . فالحاجة الواقعية إليه وخصوصيته الكامنة فيه ، والتي يتطلبها الإنسان هي التي أعطته القيمة ، ثم اعتبر من له حق الاعتبار والجعل هذا الشيء ذا القيمة ملكاً لهذا الإنسان . وأطلق له التصرف فيه في الحدود والقيود المعقولة، والمقبولة . التي لا توجب حيفاً على الآخرين . ولا توجب إحداث أي خلل في مسار الحياة ، في مختلف جوانبها وحالاتها .
وهذا القسم هو الأهم من الأقسام التي سبقته .
المالكية الطبيعية : هذا النوع من الملكية أعمق ، وأقوى من سابقه ، بجميع أقسامه . وذلك لما فيه من شدة الاختصاص ، وقوة العلاقة ، وعمق الحاجة . مع التذكير بأن هذه العلاقة والاختصاص، لا تنشأ من الاعتبار ، ولا من الحاجة أيضاً . بل هي حالة واقعية ذاتية يبررها الحاجة إلى الكمال ، وإلى فيض الوجود وتطلّب الكمال فيه . وذلك مثل ملكيتك ليدك ، ولرجلك ، ولعينك ، ولغير ذلك من جوارحك . وهذه الملكية قد تخضع لبعض الحدود والقيود ، وقد تتوقف وتلغى من الجهة الأقوى ، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى .
المالكية الحقيقية : التي تحدثت عنها الآية الشريفة : "مالك يوم الدين" وهي المالكية الثابتة والراسخة ، التي لا ينالها ضعف ، ولا وهن ، ولا تقبل الانتزاع ، ولا الاعتبار ولا التصرف أو التحديد ، والتقييد فيها .
وهي المالكية المنبثقة عن ألوهيته تعالى ، وربوبيته وخالقيته لكل ما في هذا الوجود ، وإحاطته به وهيمنته الحقيقية وسلطته عليه الدائمة والثابتة ، وهي ألوهية وربوبية ثابتة ، ورعاية دائمة ، وفيض مستمر ، يكون به قوام الوجود واستمراره . وهذا ما يفسر عمق هذا المالكية وثباتها ودوامها ورسوخها ، ويشير إلى حقيقتها وكنهها .
وهو أيضاً يجعلنا نفهم بعمق حقيقة : أنه تعالى مصدر كل المالكيات الأخرى . فهو يعطيها ، وهو يلغيها ، متى شاء وكيف شاء . قال تعالى : }لمن الملك اليوم ، لله الواحد القهار{[102].
وقال سبحانه : }مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء، وتنـزع الملك ممن تشاء{[103].
وقال جل شأنه : }يوم لا تملك نفس لنفسٍ شيئاً ، والأمر يومئذ لله{[104].
وقال تعالى : }أمّن يملك السمع والأبصار{[105].
نعم ، إن كل المالكيات الأخرى تزول وتتلاشى ، حتى ملكيتنا ليدنا ولسائر جوارحنا . فلا يملك أحد لأحد ضراً ولا نفعاً، ولا يملك أن يدفع عن نفسه ، ولا عن غيره بيد ، ولا بلسان ولا بموقف ، ولا برأي ولا بغير ذلك . ويكون الله سبحانه فقط هو المتصرف والمهيمن ، والمحاسب، والمجازي . الخ .
إن أحداً يوم القيامة لن يكون قادراً على التصرف بماله ، ولا بقوته ، ولا بمنصبه ، ولا بموقعه الاجتماعي ، أو السياسي ، ولا بلسانه ، ولا بيده ، ولا بغير ذلك .
فلله إذن حق التصرف في كل شيء كيفما شاء وحسبما يريد ، ومن هنا يتضح أن كلمة "المجازي" أو "المحاسب يوم الدين" ليست هي الاختيار الأصلح ولا الأنسب في الآية الكريمة .
يوم الدين :
وأما بالنسبة لكلمة "يوم الدين" فإننا نقول : إنها تشير إلى الجزاء ، وإلى الهيمنة الجزائية العادلة . لأنها فرضت وجود دين وجزاء مقابل عمل فهي إذن ليست هيمنة عشوائية ظالمة ومعتدية، ومتسلطة بلا مبرر .
وهي كذلك توحي بوجود عمل صحيح تارة وعمل فاسد تارة أخرى ، لا بد أن يستتبع في كل حالة ما يناسبها؛ وهذا إيحاء بالعدل ؛ فلا يريد الله أن يظلم أو يعتدي على أحد . بل يريد أن يجازيك بحسب عملك ؛ فأنت السبب في كل ما يجري لك وعليك، إذ كما تدين تدان }فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره{[106] و }هل جزاء الإحسان إلا الإحسان{[107] .
إذن فكلمة "الدين" تشير ولو بطرف خفي إلى هذا العدل. فهي إذن هنا أنسب من كلمة "القيامة" أو "يوم الحساب" ونحو هما لا سيما بعد تلك المسيرة الطويلة عبر النعم والألطاف الإلهية ، بدءً من بسم الله الرحمن الرحيم ، وانتهاءً بصفتي الرحمانية والرحيمية .
لأن هذا "الدين" قد استبطن العدل من موقع كونه تعالى ، حكيماً . فإذا دخلت إلى محكمة يوم الدين من باب الرحمانية والرحيمية ، فإن باستطاعتك أن تجعل نتيجة هذه المحكمة لصالحك. إذا كنت ممن يستحق الرحمة .
مالكية الله سبحانه للدنيا :
وأما لماذا لم يشر الله سبحانه هنا إلى مالكيته للدنيا أيضاً ؛ فقد تقدم : أنه تعالى بعد أن أشار إلى رعايته وتربيته للعالمين من موقع الربوبية ، قد أراد أن ينقل هذا الإنسان إلى يوم الجزاء ، حيث يجد نفسه فاقداً لأي لون من ألوان المالكية . ولا يمكنه إلا أن ينقاد لإرادة الله سبحانه ، حيث تجري عليه أحكامه .
أضف إلى ذلك:إن الله سبحانه قد جعل للإنسان حرية واختياراً في الحياة الدنيا ،فلو أنه تعالى تحدث عن مالكيته فيما يرتبط بهذه الحياة فلربما توهم بعضهم من ذلك: إن ثمة نوعاً من الجبرية الإلهية ،وإن الإنسان حين يستخدم إرادته واختياره يكون قد تمرد على الله ،واجترأ عليه. إذن فالتجلي للمالكية الإلهية يكون في يوم القيامة،حيث لا يملك الإنسان لنفسه نفعاً ولا ضراً }لمن الملك اليوم ، لله الواحد القهار{.
الدين هو الجزاء :
أما ما ورد عن الأئمة عليهم السلام من : أن الدين هو الحساب . فمن الواضح : أنه من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم، فإن الدين هو الجزاء ، ثواباً على الإحسان، وعقاباً على الإساءة ، والجزاء إنما يكون بعد الحساب .
يـوم :ويبقى هنا سؤال :
إنه إذا كان اليوم هو مجموع الليل والنهار ، وإذا كانت الشمس في يوم القيامة سوف تكور (أي يذهب ضوؤها) ولا يبقى ليل ولا نهار ، فأي معنى يبقى لكلمة "يوم" في قوله : يوم الدين ؟!
والجواب عن ذلك : أن كل حادث زماني يبقى زمانياً . سواء في الدنيا أو في الآخرة . والمراد باليوم هو القطعة من الزمان (ولا يجب أن يشتمل الزمان على ليل ونهار( وقد تكون القطعة طويلة وقصيرة . قال تعالى: }تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة{[108]. وقال : }وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون{[109].واليوم الذي فيه الليل والنهار هو اليوم الدنيوي . بل إننا حتى في اليوم الدنيوي نجد أماكن يكون فيها الليل بمقدار ستة أشهر . بل قد يقال : إن بعض الأماكن لا تغيب عنها الشمس أبداً، أو تغيب عنها بمقدار ساعة واحدة مثلاً. فإذا أراد سكان تلك البلاد أن يمارسوا عباداتهم من صوم وصلاة مثلاً ، فإن عليهم أن يراقبوا حالة أقرب البلاد إليهم ويعملوا على هذا الأساس .
ومن جهة أخرى فإن لغة القرآن هي العربية ، وهي اللغة التي وضع الناس مفرداتها للدلالة على أمور حسية في بداية الأمر ، ثم وضعوا ألفاظاً للدلالة على المعاني القريبة من الحس . وهي التي يتلمسون آثارها ، ويحسون بها . ثم بدأوا يتوسعون في استعمالاتهم لها إلى ما هو أبعد وأدق ، وذلك بواسطة المجازات والكنايات والجري والانطباق ، والاستعارات ، وبواسطة تركيب الألفاظ بطريقة معينة ، لتدل على المعاني المطلوبة . فاستعمال كلمة يوم في القطعة من الزمن الممتد ، الذي لا يشتمل على ليل ولا على نهار لا غضاضة فيه . وهو اللغة التي يمكن أن تستخدم لتعريف الناس بحقيقة ما يجري في تلك البرهة الحاسمة من تاريخ الإنسان الذي يقدم عليه .
مالك أو ملك:
وأخيراً : فإننا نلفت إلى ما يقوله بعضهم : من وجود قراءة أخرى لكلمة مالك ، فيقرؤونها "ملك يوم الدين" . فقد ذكرنا في كتابنا "حقائق هامة حول القرآن" ما يفيد : أن القراءات إن كانت بمعنى اختلاف لهجات القبائل في كيفية التلفظ بالحروف، مثل : حتى حين ، وعتى حين . دون أن تختلف الصورة ، وبلا تبديل للكلمات بغيرها ، ودون زيادة ولا نقيصة . فهذه القراءات تكون مقبولة إن كانت قد أمضيت من قبل النبي (ص) والأئمة عليهم السلام.
أما القراءات بمعنى التصرف بالصيغ ، أو بمعنى تبديل الكلمات بغيرها ، أو بالزيادة والنقيصة ، فهي مرفوضة . وغير صحيحة . وهي إحدى مظاهر القول بتحريف كتاب الله سبحانه الذي لا يصح بأي وجه من الوجوه .
وقراءة ملك في هذه الآية توجب اختلافاً بل اختلالاً أساسياً في المعنى ، فلا مجال لقبول ذلك ولا للسكوت عنه ، حيث إنه ينتهي إلى ذلك المحذور الكبير والخطير ، الذي دل الدليل القاطع على بطلانه وزيفه .
الخلود في العذاب، والعدل :
وعن سؤال : إنه كيف يمكن فهم قضية العدل في الجزاء ، ونحن نرى : أن الكافر إنما عاش كافراً في الدنيا لمدة محدودة ، وهي مئة سنة مثلاً ، فكيف يعاقب على كفر مئة سنة ، بخلود دائم في العذاب الأليم ؟!
نجيب :
صحيح : أن الكفر والقتل وغيرها قد حصل في زمن محدود ، لكن ذلك الكفر والقتل قد أوجد ثغرة في سلامة المجتمع ، وسلامة الحياة سوف تبقى إلى الأبد ، فالقتل مثلاً قد حرم المقتول من بقية حياته إلى الأبد ، والجاني حرم المجني عليه من يده أو من عينه إلى الأبد أيضاً .
وهكذا سائر الجنايات والسيئات . فإنها تتسبب بعدمٍ سوف يستمر ويبقى .
وقد كان بإمكان المجني عليه أن يتوب من ذنوب أو أن يعمل في بقية حياته ، أو بيده التي ذهبت ، أو بواسطة عينه خيرات ومبرات توجب النعيم الأبدي له ، أو النجاة من عذاب أبدي .
فالجزاء إذن ، قد جاء على قدر جناية الجاني ، وبمقدار ما أحدثه من ثغرة في جدار سلامة الحياة . وبدون هذه الملاحظة لا يكون جزاءً عادلاً ، ولا هو وفق الحكمة .
تفسير قوله تعالى : }إياك نعبد وإياك نستعين{
بدايـة :
قد ظهر من كل ما تقدم ، ابتداءً من بسم الله ، وإلى قوله: يوم الدين : أن الله سبحانه قد أسس أساساً عقائدياً متيناً ، يتلمسه الإنسان في واقعه ، ويحس به بفطرته ويقضي به ضميره ووجدانه ، ويحكم به عقله ، وليس نتيجة اندفاع عاطفي أو غريزي ، ولا انقياداً لهوى ، ولا استجابة لشهوات ، أو لطموحات غير مسؤولة، ولا هو حركة عشوائية غير منضبطة .
إنها عقيدة تستند إلى رؤية واضحة ، ونظرة عميقة وشاملة عن الكون وعن الحياة ، وعن الخلق ، وأهدافه ، وعن الخالق وصفاته وألطافه. تؤهل هذا الإنسان لأن يتحرك وينطلق مصعداً ليقوم بدور بنّاء وإيجابي وسليم مرتكزاً على هذه الثوابت العقيدية الأم ، ليتلمس تفصيلات عقيدية أخرى منبثقة عنها هي الأقرب إلى التأثير بالواقع السلوك إلى درجة المباشرة أحياناً ، فيتعامل ويتفاعل مع كل شيء من خلالها وعلى أساسها ؛ إذن فليست هي مجرد مفاهيم عقائدية تلقينية خاوية ، لا دور فيها للعقل ، ولا للمنطق ، ولا للفطرة ولا للشعور، ولا للوجدان ، بل هي من صميم ذلك كله ، هي حياة العقل ، وانطلاقة الروح ، ووهج الشعور ، إنها الحياة الحقيقية ، وسر الوجود.
إياك نعبد :
ولكي نقترب قليلاً إلى واقع قوله تعالى : "إياك نعبد" فإننا نعود ونذكّر بالعقائد الأم ، كعقيدة التوحيد الكامل مثلاً ، التي تنبثق عنها تفصيلات تقول : إنه تعالى هو وحده المؤثر ، وهو مصدر الفيض للعنايات والألطاف ، وهو وحده المستحق للعبادة .
وهذا الاعتقاد التفصيلي هو الذي يترك آثاراً مباشرة ومهمة في التكوين الفكري للإنسان ، ثم في صياغة مفاهيمه . ثم هو ينعكس على الواقع المعاش سلوكاً وموقفاً، له خصوصياته ومميزاته عما عداه . هذا عدا عن تأثيراته الحقيقية في تكوين الشخصية الفردية والاجتماعية للإنسان.
ويكفي أن نشير هنا : إلى أن هذا الاعتقاد هو الرافد الشعوري ، والفكري لانطلاقة الصراع مع النفس الأمارة بالسوء، واستمرار هذا الصراع لتطويعها على ممارسة التوحيد في العبادة وفي السلوك ، لتنتج هذه العبادة أخلاقاً تتناسب معها ، وإخلاصاً لله عز وجل بمستوى رسوخ هذه العقيدة ، وبمستوى وضوحها أيضاً . لتصبح ممارسة هذا التوحيد على درجة من العفوية والفطرية ، بعيدة عن حالات الرياء والعجب والكبر وعبادة الذات ، والمال ، والمنصب ، والزعيم ، والحزب ، والبنين ، والسلطة، والهوى ، وما إلى ذلك من أمراض نفسية تتنافى مع عقيدة التوحيد في العبادة .
فالرياء شرك ، سواء أكان العمل ضرورة حياتية للفرد أو للمجتمع . لأن الرياء معناه جعل قسم من هذا العمل لجهة أو لشخص أو لفئة أخرى غير الله سبحانه ، بحيث يكون لهؤلاء تأثير ومشاركة .
إذن ، فلا بد من تخصيص العبادة لله ، ولا بد من توحيد العبادة له تعالى ؛ لأنه وحده المستحق لها ،ليصبح قولنا : "إياك نعبد" له معناه ومغزاه الحقيقي ، بعد أن وضحت الرؤية التوحيدية العقائدية ، في العبادة ، وفي السلوك والعمل . منذ بدأنا بكلمة بسم الله . حتى انتهينا إلى "إياك نعبد" . فأثمرت تلك النظرة ، وتلك العقيدة عبادة خالصة له سبحانه دون سواه ، وأثمرت سلوكاً توحيدياً ، فلا يستعين بغيره تعالى .
وظهر وحصل الربط بين العقيدة والسلوك بصورة طبيعية وواقعية .
تقديم كلمة إياك :
وفي كل ذلك يشير إلى بعض ما يرمي إليه تقديم كلمة "إياك" على كلمتي " "نعبد" و"نستعين" . فإن هذا التقديم ينتج الأمور التالية:
التخصيص للعبادة وللاستعانة به تعالى . وقد أنتج لنا هذا التخصيص ، من جهة إيجابية : التوحيد في العبادة ، والعمل .
ومن جهة أخرى : نفي الشريك ، ونفي التأثير لغير الله في أي عمل عبادي أو سلوكي كان . ونفي استحقاق العبادة لكل من عدا الله سبحانه
هذا بالإضافة إلى حاجة كل عمل في بقائه واستمراره ، وتكامله وتحسينه ، إليه سبحانه وتعالى .
وهكذا يتضح : أنه قد انبثق عن العقيدة الأم عبادة، هي عمل وحركة ، وانبثق عنها صفة لهذا العمل ولهذه الحركة العبادية، وهي كونه عملاً توحيدياً وحركة توحيدية أيضاً .
إنه تعالى يريد من هذا التخصيص ، ومن استعمال كلمة "إياك" التي تعني الحضور والخطاب المباشر : أن يوحي لنا أنه يريد من هذا الإنسان أن يتوجه إلى الله ، ويشعر به ، ويتعامل معه حتى كأنه حاضر أمامه إلى درجة الحس المباشر، ولا يكتفي بالاعتماد على الانتقال الذهني ، استناداً إلى ضمير الغائب ، فلم يقل : "نعبده ونستعينه".
ومن الواضح : أنه إذا كان الله سبحانه هو وحده مصدر كل خير وعطاء وقوة ووالخ. فإنه يكون وحده المستحق للعبادة ولا تصح الاستعانة بغيره أبداً .
وإذا كان الله هو مصدر كل خير وعطاء وقوة فلا يملك الإنسان قوة ولا أي شيء ذاتي في نفسه خارج نطاق العطاء الإلهي فلماذا يكون ثمة عجب بالنفس فالتوحيد الخالص يمنع العجب كما أنه إذا لم يكن أحد غير الله يملك ضراً أو نفعاً فلماذا الرياء فالتوحيد الخالص ينفي الرياء أيضاً .
إنه يريد الحضور والمشاهدة والخطاب ، الذي تتشارك فيه العين في نظرتها ، مع اليد في إشارتها ، مع اللفظ في دلالته ، مع السمع في تلقيه ، مع القلب في وعيه ، مع سائر الحواس والمشاعر، واللمحات والخواطر . وذلك إمعاناً في تحقيق التعيين ، ونفي أي توهم للمشاركة ، وإبعاد أي شبح للإبهام أو للإيهام ، فيما يراد إثباته من تخصيص العبادة له وبه تعالى ، وفيما يراد طلبه منه من الاستعانة والهداية .
ثم إنّ تمحض الخطاب له تعالى ، ومعه ، وإبعاد شبح أي إيهام أو إبهام أو مشاركة من شأنه أن يوحي لنا بالتحرر من أية رابطة مع غير الله سبحانه .ليتحقق الخلوص في عبادته ،وفي الاستعانة به سبحانه.
وواضح : أن هذا التحرر التام هو نتيجة التوحيد الحقيقي، وتأكد أو رسوخ أساس العقيدة بالنبوة وبالمعاد أيضاً . فإن ذلك يفرض توحيد العبادة والعبودية ، وتوحيد العمل والسلوك أيضاً .
نعبد ونستعين بصيغة الجمع :
وقد استعمل سبحانه هنا صيغة الجمع لا المفرد ، فقال : نعبد ، نستعين . اهدنا . ولم يقل : اعبد ، استعين ، اهدني . ولعله من أجل أنه سبحانه يريد لهذا الإنسان أن يعيش خصوصيته الفردية في نطاق حياته الاجتماعية ، ولا يريده أن ينعزل ، وينطوي على نفسه ويتقوقع داخل قفص حديدي قضبانه هي الخصوصيات الفردية المحددة ، والمؤذية أحياناً . وهذا أسلوب تربوي رفيع يهدف إلى تحويل الحركة الفردية ، والفعل الشخصي إلى إنجاز جماعي ، له قيمته الإنسانية الفضلى .
مع الإشارة إلى أن التشذيب والتهذيب ، وإيجاد حالة التوازن في الخصوصيات والطموحات الفردية إنما يكون في ساحة الصراع والتحدي ، حيث لا بد أن تعبر تلك الحالات الفردية للأنا عن نفسها ، وعن وجودها ، حيث لا مبرر لهذا البروز في حالة الانطواء والبعد عن ساحة الصراع هذه .
ولأجل ذلك ، فإنه تعالى حتى حين يشرع العبادات حتى الصلاة ، فإنه قد جعل طابعها العام جماعياً واجتماعياً بصورة ملموسة وظاهرة ، فالصلاة التي هي صلة للعبد به تعالى قد انطوت في تشريعاتها وخصوصياتها وحالاتها على ما يجعل إحساس العبد بصلته بالله سبحانه يتبلور في نطاق الحياة الاجتماعية . ومن خلالها. ففي الأذان دعوة إلى التجمع من أجل الصلاة جماعة ، وهي في المسجد أكثر ثواباً، ويزيد هذا الثواب بعدد أفراد الجماعة المشاركين [110]. ثم تتلو نصوص الصلاة التي تصهر روحك في بوتقة المجتمع الكبير فتقول : إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا . صراط الذين أنعمت عليهم . ثم تكون آخر كلماتك هي : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فتخرج من الصلاة لتدخل من باب الصلاة نفسها – بعد أن تكون حصلت على السلام النفسي والروحي – إلى قلب هذا المجتمع الكبير ، لتعيش بهذا السلام ، بعد أن تكون هذه الصلاة قد أسهمت في تصفية روحك ، وتزكية نفسك ، وأهّلتك لأن تكون العضو الصالح والقوي والفاعل في مجتمعك ، ولا تزال تنهاك عن الفحشاء والمنكر، وهي عمود الدين . وهي النهر الذي تغتسل فيه كل يوم خمس مرات ، لتكون مثال الطهر والصفاء والنقاء .
فالعبادة الفردية إذن تقوم – بالإضافة إلى سائر منجزاتها الكبرى – بتأهل الفرد واستصلاحه ليكون العضو الفاعل والعامل الذي يحمل في داخله الأمان والسلام ، ليزرعه وليثمر عزاً وقوة ، وخيراً وبركة ، وسمواً ونبلاً ، .
وهكذا يتضح أن هذا التوحيد في العبادة ، والانطلاق إلى الله سبحانه في رحاب الجماعة بعد أن تسقط جميع الحواجز والموانع والحدود الفردية ، إن هذا – ولا شك – يفتح أمام هذا الإنسان آفاقاً رحبة ، تدعوه إلى الانسياب فيها ، والانفتاح على كل ما تحتضنه في داخلها ، ليتصل هذا الفرد بكل ما هو خارج حدود فرديته ، ليصبح بحجم الإنسان كله ، وبمستوى الإنسانية كلها .
وينطلق كادحاً إلى ربه ، وإليه فقط دون كل ما سواه ، تاركاً أفقه الضيق والمحدود ، ليستقبل الأفق الأرحب في ملكوت الله ويهوِّم في رحابه اللامتناهية . سعيداً بما استطاع أن يحصل عليه من مزايا إنسانية ، سعيد بدرجات القرب من الله تعالى . وبما أكرمه الله به }يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه{[111].
فهذا التوحيد في العبادة و الأفعال قد جعل هذا الإنسان أوسع أفقاً وأرحب فكراً ، وأكثر وعياً للحياة ، وسوف ينتج ذلك مزيداً من التأمل والفكر، ثم العمل الجاد الذي يكون في مستوى هذه النظرة الشمولية والواعية .
وفي التوحيد في العبادة ربط باللانهائي واللامحدود ، الذي هو مصدر كل عطاء ، فما على الفكر من حرج إذن، إذا انطلق ليتصل بالمحدود ليقوم بالإنجاز الكبير بحجم الحياة كلها . هذا كله بالإضافة إلى إخراج الإنسان من حالة الانعزال والانفصال إلى حالة التواصل والتعاون والمشاركة، والفهم العميق لهذه المشاركة .
إن الذي يطالع تشريعات الإسلام وأحكامه يجد : أنه يريد أن يصوغ الفرد بطريقة تجعله صالحاً لأن يكون لبنة في بناء المجتمع الكبير ، ولا بد لأجل تحقيق هذا الهدف من تحقيق حالة التناسق والانسجام مع سائر اللبنات التي لا بد لكل منها بحسب موقعها ، وما يتطلبه الوضع الهندسي للبناء ككل من أن تتخلى هي وتفرض على مشاركاتها أن تتخلى أيضاً عن كثير من المزايا الفردية التي لولا ذلك لتُركت على طبيعتها .
ويكون التعويض غير المباشر عن تلك الخصائص والمزايا الفردية هو اكتساب كل المزايا والاستفادة من كل القدرات والطاقات الجماعية، التي تنعكس قوة للفرد ، وطاقة له ، ولكن بطريقة أخرى ، وبأسلوب آخر ، وهذا ما يؤكد أن للعبادة التي لها دور رئيس في صياغة مزايا الفرد ، لا بد أن توضع في القالب الجماعي ، لتصوغ تلك المزايا في حالة من التوازن والانسجام ، لتنشأ متخذة بصورة عفوية الشكل الهندسي المطلوب . وليس من الضروري ، بل ليس من الحكمة أن تنشأ هذه المزايا بصورة مستقلة ومنفصلة ، ثم يصار إلى عملية تقليم وتطعيم ، وتهذيب وتشذيب قسرية لها ، لأن ذلك لن يكون في منأى عن إحداث أضرار وندوب ، وآثار تبقى وتظهر بصورة أو بأخرى . كان بالإمكان أن لا تكون وأن لا تراها القلوب والعيون .
وبذلك يمكن تفسير صيغة الجماعة في قوله تعالى : نعبد . نستعين . اهدنا .
مراتب العبادة :
ثم إنه مرةً يعبد الإنسان الله سبحانه لوجود أمر إلزامي ، لا يريد أن يتمرد عليه .
ومرة يأتي هذا الإنسان بكل ما هو مطلوب منه ، على سبيل المتاجرة مع الله ، فيقوم بالعبادة المحبوبة له تعالى ، ليأخذ في مقابلها درجات في الجنة .
ومرة يعبد الله لأنه يرى الله أهلاً للعبادة ، وهذه هي أرقى أنواع العبادات .
وستأتي عن أمير المؤمنين عليه السلام الإشارة إلى هذه المراتب .
ما المراد بالعبادة :
وإذا أردنا أن نستوضح المراد من العبادة في "إياك نعبد" وسواها ، فإننا نقول :
لقد قال الله سبحانه : }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون{[112].
وقال تعالى : }وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين{[113].
فهدف الخلقة إذن هي عبادته تعالى . والمراد بهذه العبادة هو الانقياد المطلق لإرادة الله سبحانه في أوامره وزواجره ؛ إذ أن الله قد خلق هذا الكون ، وهذا الإنسان ، ورسم له هدفاً لا بد له من التحرك باتجاهه ، حتى ينتهي إليه، وهذا الهدف ، وتلك المسيرة ليست واضحة المعالم لهذا الإنسان تمام الوضوح ، بل هي غارقة في بحر الغيب ، ومحفوفة بكثير من الأمور التي تحجب الرؤية الصحيحة لها ، والشاملة لكل ما يرتبط بها .
والذي يعرف ذلك الغيب ، ويهيمن على كل هذا الواقع هو الذي يفترض فيه أن يقدم الإرشادات الهادية إلى طريقة التعامل مع كل هذا الواقع ، وكيفية استعمال هذه الأجهزة التي تمكن الإنسان من التحرك بصورة سليمة وقويمة باتجاه ذلك الهدف حتى بلوغه .
وهذا كما لو اشتريت جهاز كمبيوتر مثلاً ، فإن تشغيله بصورة عشوائية لن يحقق الأهداف المتوخاة منه . فلا بد من التماس طريقة التشغيل وتعليماته من نفس صانع ذلك الجهاز ، ثم الالتزام الدقيق بها لتحصل على ما يراد الحصول عليه منه .
والإنسان أيضاً قد زوّده الله بأجهزة تتناسب وتتناغم مع كل ما أودعه الله من أسرار في هذا الكون الذي يريد من خلال التعامل معه أن يصل إلى الله سبحانه ويبلغ رضوانه ويسعد بإنسانيته – لا بالمال ولا بالمنصب ، ولا بالجمال أو الشكل ، ولا بغير ذلك – وينطلق ليحيا الحياة الحقيقية بعمق ، وبكل ما يملك من طاقات – كما أشار إليه تعالى حين قال : }إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون{[114] .
وأي استعمال لهذه الأجهزة بغير الطريقة المرسومة لن ينجح في تحقيق هذا التناغم فيما بينها وبين سائر نواميس الطبيعة ، فيكون الخلل ، ويكون الخسران .
إذن ، فلا بد من الطاعة الدقيقة والشاملة لأوامره تعالى . وهو المراد بالعبادة . ولا يمكن السماح بأصغر مخالفة للتعليمات الإلهية ، لأن ذلك سينعكس سلباً على سلامة المسيرة . ولن يمكن ضمان وصول القافلة بسلام إلى الهدف المنشود بدون ذلك ، وهذا ما يفسّر لنا : أيضاً قوله تعالى : }ليعبدوا الله مخلصين له الدين{[115]. فلا يكون ثمة أية عبادة، أو فقل : أي طاعة وانقياد لغير الله ، بل وينحصر ذلك به تعالى ، وبه فقط .
تنوع المستحبات وكثرتها :
ومن الواضح أن الإسلام قد قدّم – في نطاق تعليماته – مجموعة من الأوامر والزواجر . وكل منهما ينقسم إلى ما هو ملزم، وما هو غير ملزم ، حيث أن الواجب ترافق مع المستحب ، وجاء إلى جانب الحرام ، المكروه .
أضف إلى ذلك : هذا الحجم الهائل ، وهذا التنوع العظيم للمستحبات على وجه الخصوص .
فما هو هذا السر في هذا وذاك يا ترى ؟ ولماذا؟!
إننا نعتقد : أن الإجابة على هذين السؤالين تبدأ بالإشارة إلى أن هناك أموراً يسبب فعلها أو تركها خللاً مباشراً في الواقع الذي يراد له أن يكون سليماً ، ومتماسكاً وقوياً . وهناك أمور لها دور صيانة لهذا الواقع . أو دور التأهيل لما يحتاج إلى التأهيل لتحمّل أعبائه ، ومتابعة المسيرة بصورة أكثر أمناً ، وأكثر شعوراً بالثقة ، وأحياناً يكون ثمة طموح إلى تجاوز الحد الأدنى من الأهلية، من أجل مواجهة الصوارف والتحديات القوية ، التي قد تأتي من داخل الإنسان : من غرائزه أو شهواته ، أو بسبب وجود خلل في تكامل بعض خصائص شخصيته بالمقارنة مع ما عداها . وكذلك مواجهة التحديات الكبيرة التي قد تأتي من خارج شخصية الإنسان. والتي قد تضع الإنسان في أحيان كثيرة في محيط الكارثة الحقيقية . ولأجل كل ذلك وسواه كانت المكروهات والمستحبات فيما يبدو .
وبما ذكرناه أيضاً يعرف سبب التنوع في خصوص المستحبات ، فإن الهدف بالإضافة إلى أمور أخرى هو شحن هذا الإنسان روحياً بواسطة هذه المستحبات ، والمفروض هو وجود تنوع في ظروف وقدرات ، وحالات الإنسان ، وضروريات حياته المختلفة ، فمع تكثر وتنوع المستحبات يصبح باستطاعته أن يستفيد منها في مختلف حالاته وظروفه النفسية ، والجسدية ، والاجتماعية ، والمعيشية وغيرها . حيث يجد فيها ما يتلائم مع كل حالة وكل ظرف . فقد يرغب في الصوم إذا كان الصوم يلائم ظروفه وتقبل عليه نفسه ، وقد يرغب في قراءة القرآن إذا كانت حالته المعيشية والجسدية وسواها تسمح له بذلك ، وقد يرغب في العمل الاجتماعي وقضاء حاجات المؤمنين . فيختار ذلك أيضاً . وهكذا في سائر الحالات والأوضاع والظروف .
وإياك نستعين :وإذا انتقلنا إلى قوله تعالى : وإياك نستعين ، فإننا نسجل ما يلي :
الوعي يقتضي الاستعانة :
إنه إذا عرف الإنسان حجم ما يواجهه من تحديات من داخل ذاته ، وهو ما يحتاج لدفع آفاته إلى الجهاد الأكبر، على حد تعبيره (ص) ، وعرف أيضاً حجم التحديات التي تواجهه من خارج ذاته ، في كل موقع وفي كل مجال ، فإنه يدرك أنه بحاجة إلى الاستعانة بمصدر القوة والالتجاء إلى مصدر العطاء والفيض . ولن يستطيع أن يحقق حلمه الكبير من دون ذلك .
التوحيد في العبادة والاستعانة :
وإن الآية الشريفة في حين أكّدت على التوحيد الكامل في العبادة ، فإنها قد أكدت أيضاً على التوحيد في العمل ، حيث حصرت الاستعانة به سبحانه دون كل ما ومن عداه . الأمر الذي يعني : أنه تعالى وحده القادر على التأثير ، وأنه وحده الغني ، والقوي ، ووالخ. فمن أجل ذلك كان لا بد من حصر الاستعانة به تعالى . ومن أجل ذلك كان التوحيد في الاستعانة معناه الحرية الكاملة والحقيقية، حيث لا يشعر أنه بحاجة إلى أحد لأن الجميع لا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً . ولأجل ذلك جاءت الاستعانة مطلقة ومن دون تقييد أو تحديد .
جبر أم اختيار :
وإذا لوحظت صيغة الآية فإنها تدل دلالة واضحة على أننا نحن الذين نختار أن نفعل ، ونحن الذين يصدر عنا الفعل الذي نختاره . فنحن نعبد الله ، ونحن أيضاً نعمل ونطلب منه تعالى أن يعيننا على ما نعمله ولذا قال : نعبد . نستعين . فلو كان هو الذي يعمل فلماذا نطلب منه العون ؟! ولماذا أيضاً ننسب العبادة إلى أنفسنا ؟!
الاستعانة ، والعجب والرياء وغيرها.
ونقول أيضاً :
أولاً: إن إحساسنا بالحاجة إلى معونة الغير لنا ، معناه : أننا لا نملك القدرات الكافية لإنجاز الفعل بالاستقلال . وهذا من شأنه أن يبعد الإنسان عن الشعور بالعجب الناشئ عن الإحساس بالقدرة الفائقة ، وبالاستقلالية في التأثير .
ثانياً : إذا كان الإنسان يحسّ بالحاجة إلى الغير من الناس، أو يشعر بالضعف أمامه ، فقد يلجأ إلى أن يتزلف له ، ويتقرّب منه، بإظهار خلاف الحقيقة . فيقع في الرياء ، وفي محاولة التزييف والخداع .
أما إذا تأكد لديه : أن الله وحده هو الذي يمكن أن يرفع ضعفه ، ويسد حاجته ، فإنه لا يجد ضرورة للتزلف إلى غيره . ويكون قد ابتعد بذلك عن حالة الرياء التي تنشأ عادة من الشعور بالحاجة إلى الآخرين ، أو بالضعف أمامهم. فإذا وجد أنهم لا يملكون ما يجبر ضعفه ، ويسد حاجته ؛ فلماذا يتزلف إليهم ؟ ولماذا الرياء ؟
وإذا رأى : أن غيره ضعيف مثله ، وليس لديه ما يتقوى به، فلماذا وعن أي شيء يخدعه ؟
ثالثاً : ثمة نقطة أخرى نشير إليها هنا ، وهي أن الإنسان يحتاج إلى المعونة وهو فرد ، ويحتاج إليها ، وهو جماعة . فلا يمكن أن يستغني عن معونة الله سبحانه في الحالتين ، فإذا كانت الجماعة تحتاج إلى العون ، فحاجة الفرد إلى ذلك تصبح أولى وأوضح .
الاستعانة بغير الله سبحانه :
تمنع بعض الفرق من الاستعانة بغير الله سبحانه ، وتعد ذلك شركاً ، وخروجاً عن الدين ، إذ لا مؤثر في هذا الوجود سوى الله سبحانه . والاستعانة بغيره تستبطن الاعتقاد بوجود مؤثر آخر سواه .
إذن ، فلا يجوز (وفق مقولتهم ) أن نقول عندما يتكالب علينا المستكبرون : يا مهدي أدركنا . وعندما يتكالب علينا الأعداء ، ونحتاج إلى الأسوة ، وإلى إلهاب روح التضحية والفداء لندفع عنا كيد الأعداء ، لا يجوز أن نقول : يا حسين . وحينما نشعر بالمظلومية ونحتاج لبلسمة الجراح لا يجوز أن نقول : يا زهراء .
وعندما نحتاج إلى الصبر في موقع الكرب والبلاء ، لا يجوز (وفق مقولتهم أيضاً) أن نقول : يا زينب . وعندما نريد أن نتقوى على العمل الكبير والخطير ، لا يجوز أن نقول : يا علي . ولا يجوز أن نطلب شفاء المريض ، وحفظ الغائب من النبي أو الولي . إلى آخر ما هنالك .
وهذا الكلام ظاهره جميل ومنسجم مع تقديم كلمة "وإياك" المفيد للتخصيص للاستعانة به تعالى ، في قوله تعالى: "وإياك نستعين" .
ولكن الحقيقة هي : أنه كلام غير مقبول ، بل وغير معقول. وذلك لما يلي :
إنه لو صح هذا لاقتضى تحريم قصد الطبيب للعلاج . ولاقتضى تحريم شرب الدواء . ولاقتضى كذلك تحريم طلب المعونة في حمل الحجر أو الصندوق الثقيل ، ولاقتضى تحريم أن يطلب الإنسان من أحد أن يناوله الإبريق مثلاً ليشرب . فإن ذلك كله أيضاً استعانة بالمخلوق . فإن كان ما تقدم يعد شركاً ، فهذا أيضاً مثله .
لقد حفل القرآن الكريم بالآيات الصريحة بطلب العون ، أو طلب التعاون من غير الله سبحانه ، فلو كان ذلك شركاً ، فلماذا يأمر الله سبحانه بالشرك ؟
فلنقرأ الآيات التالية :
قال تعالى : }وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان{[116].
قال : }واستعينوا بالصبر والصلاة ، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين{[117].
وقال : }استعينوا بالصبر والصلاة ، إن الله مع الصابرين{[118].
وقال تعالى : حكاية لقول ذي القرنين : }قال ما مكّني فيه ربي خير ، فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً{[119].
هناك فرق بين الاستعانة وبين العبادة ، والمحرم هو عبادة غير الله لا الاستعانة به ، فيحرم عبادة غير الله لأي سبب كان وبأي طريقة كانت . وكما يحرم السجود له كذلك يحرم التمسح به تمسح عبادة .
وكما يحرم السجود له بعنوان كونه رباً وإلها وخالقاً . كذلك يحرم السجود له بعنوان أنه يقربه إلى الله زلفى .
أما الاستعانة ، فهي لا تلازم الاعتقاد بوجود مؤثر غير الله على حد التأثير الإلهي أو الربوبي . بل الاستعانة بالنبي أو الولي ، إنما هي من أجل أننا لا نرى في أنفسنا أهلية الوقوف بين يدي الله والطلب منه بسبب ما اقترفناه ، فنطلب من هذا النبي والولي أن يتولى هو طلب حاجاتنا منه تعالى . فإذا شفي المريض فالله – والحالة هذه – هو الذي شفاه ، وإذا قضيت الحاجة فإن الله هو الذي قضاها . وهذا ليس من الشرك في شيء ، بل هو عين الإخلاص والمعرفة والتوحيد .
كما أننا حين يعين بعضنا بعضاً فليس ذلك بقدرة ذاتية ، بل بالقدرة التي أعطانا إياها الله ، ومن المال الذي رزقناه الله ، إلى آخر ما هنالك
وهذا من الأمور البديهية التي يدركها حتى الأغبياء، فضلاً عن الأذكياء والعلماء .
الاستعانة بالله والجبر الإلهي :
وقد يحلو للبعض أن يصور لنا : أن الاستعانة بالله سبحانه تعني : أنه لم يعد لنا أي استقلالية فيما نعمل ، بل لم يعد لنا أي دور في أعمالنا بل هي تنسب إلى الله سبحانه ، ونحن لا دور لنا فيها ، بل نحن مسيرون كما تسيَّر أية آلة أخرى بيد محركها .
ونقول :
إن ذلك غير صحيح ، فقد قدمنا الحديث عنه تعالى، حيث تحدث هنا بصيغة جمع المتكلمين : نعبد . نستعين . (وتحدثنا عن بعض حكم وأهداف هذا التعبير) وهو تعبير صريح في أنه تعالى يريد منا : أن نبادر إلى العمل باختيارنا ، وبملء إرادتنا . وبالاستقلال عن كل أحد . فلو كان الله هو الذي يفعل ، ونحن دورنا دور الآلة ، فلا يبقى مورد للعون منه لنا ، بل كان ينبغي أن يقول : أنت تفعل ولا تحتاج إلى معين من أحد .
والحاصل : أن هذا لا ينافي كون التأثير لله سبحانه، فالله سبحانه :
يمدنا بالقوة البدنية ، بالسمع ، بالبصر ، بكل شيء؛ ويفيض علينا الوجود لحظة بعد لحظة .
وأعطانا أيضاً حرية توظيف هذه القوى في الموارد التي تروق لنا . تماماً كما هو الحال في التيار الكهربائي ، أو أنابيب المياه، فالذي يمدنا بالماء والكهرباء هو المولد الكهربائي ، والمضخات ، ونحن نختار : أن نغتسل في الماء أو نغسل ثيابنا ووسائلنا ، أو أن نسقي به زرعنا ، أو أن نشربه، أو أن نغرق فيه حيواناً ، أو إنساناً أو .
والمولد الكهربائي يمدنا بالطاقة ونحن نختار : أن نستعملها في التدفئة أو في الإنارة ، أو في جهاز الراديو ، أو تعذيب أو قتل إنسان أيضاً.
ولكن يمكن أن يقطع المدد بالماء وبالكهرباء من قبل المضخة، والمولد . فنحن لسنا أحراراً بصورة مطلقة .
وبعد أن نختار الفعل من نوع ما ونحرك يدنا أو لساننا ، أو أي جارحة أخرى بالطريقة التي تستكمل العلة التامة عناصر وجودها ، فإن الله سبحانه وفقاً لما أجرى عليه سنة الحياة يفيض الوجود على ما يختاره العبد ، إذا اكتملت عناصر علته التامة ، حيث لا بد من تحقق معلولها .
وبعبارة أوضح وأصرح : إنه قد تتعلق إرادة الله التكوينية بالشيء مباشرة ، وقد تتعلق إرادته به إذا وجدت علته التامة والتي قد يكون من جملة أجزائها إرادة الإنسان واختياره ؛ فلا بد من وجود المعلول حين وجود علته التامة، وفقاً للسنن الحياتية والطبيعية التي تحكم هذا الكون وتهيمن عليه ، وليس هذا من الجبر في شيء . بل هو محض الاختيار للإنسان . وإن كان هذا الاختيار محفوفاً بالإرادة الإلهية من الناحيتين . لكن هذه الإرادة لا تصادم اختيار الإنسان ولا تتعرض له بشيء .
تفسير قوله تعالى : }اهدنا الصراط المستقيم{
اهدنا الصراط المستقيم :
هناك عدة أمور لا بد من الحديث عنها في هذا المقام ، وهي التالية :
ارتباط الآية بما قبلها :
لكي نفهم بصورة اعمق مدى ارتباط هذه الآية بما سبقها، فعلينا أن نشير إلى التسلسل الطبيعي لما تحدثت عنه الآيات السابقة، فنقول :
إنه بعد أن تأكد الاعتقاد بالله سبحانه ، وبصفاته – الجمالية والجلالية – ثم بيوم الدين ، فلا بد أن تترك هذه الاعتقادات آثارها على العقل ، والمشاعر ، والمفاهيم والعواطف ، وغير ذلك . ثم هي قد أنتجت عقائد تفصيلية أثارت حركة ، وسلوكاً ، وموقفاً هو عبادة توحيدية خالصة له تعالى .
وكان لا بد أن يكون ذلك السلوك والعمل ، وتلك العبادة منسجمة مع طبيعة الهدف الذي يسعى إليه الإنسان ، وهو أن يحقق هذا الإنسان ذاته ، ويستجمع خصائصه ومزاياه الإنسانية، ويقيم حالة من التوازن فيما بين تلك الخصائص والمزايا، ليحقق من خلال ذلك انسجامها مع ذلك الهدف ، وتناغمها معه بصورة إيجابية وبنّاءة ودافعة للحركة الصحيحة باتجاهه ، ومن ثم باتجاه مواقع الزلفى والقرب من الله سبحانه وتعالى .
وبعبارة أخرى : إن الإنسان إنما يسعد بإنسانيته، وباقامة حالة من التوازن بين كل خصائصه ومزاياه وطاقاته بجميع تنوعاتها، لأن حالة التوازن هذه هي التي تعطيه السلام والطمأنينة في ظل الرضى ، والرعاية الإلهية . وأي خلل واهتزاز في حالة التوازن هذه – بسبب اقتراف معصية ، أو بسبب تربية خاطئة – سيؤدي إلى اهتزاز هذا السلام النفسي وتقويضه ، وسينعكس سلباً على درجة القرب من الله سبحانه . قال تعالى : }ألا بذكر الله تطمئن القلوب {[120].
ومن الواضح : أن إقامة حالة التوازن هذه ، وسعادة الإنسان بإنسانيته ،ثم السعي نحو الله سبحانه لنيل درجات القرب والرضى منه تعالى ، أن ذلك – إنما يتم بالعمل ، والممارسة ، فلا بد من أطروحة عملية تقدم لهذا الإنسان نهجاً يساعد على تحقيق ذلك ، وتقدم له أيضاَ قوانين وأحكاماً سلوكية تحمي خطواته على هذا الطريق من أن تزل وتنحرف . وهو أيضاً بحاجة إلى العون والرعاية والهداية .
ولا بد أن نتلمس هذا النهج ، وتلك النظم والقوانين والأحكام ونطلبها منه تعالى لأنه سبحانه – بصفته رب العالمين – هو وحده العارف بما خلق ، وهو وحده المطلع على كل الغيب وعلى جميع الأسرار ، وهو المربي ، والعالم بطبيعة المر بوب، والعالم بسبل الوصول إليه ، والاتصال به .
فقوله : } اهدنا الصراط المستقيم( يأتي كنتيجة طبيعية لقوله تعالى : }إياك نعبد وإياك نستعين{. فهو الجهة التي نلجأ إليها بصورة عفوية وطبيعية .
فإذا كان لا بد من عبادة توصل إليه تعالى ، ولا بد من كدح وعمل ومواجهة مصاعب ومتاعب ، فإن طلب المعونة ، وطلب الهداية إلى الضوابط والأحكام التي تضمن سلامة الحركة يصبح أمراً ضرورياً .
فالعبادة ليست هدفاً ، وإنما هي وسيلة تستبطن العمل الذي يحقق الهدف ولكي يكون العمل مؤثراً لأثره دون أية سلبيات ، فلا بد من
نهج وخطة وضوابط تمنع من الخطأ ، وتجعل الحركة بالاتجاه الصحيح .
الطلب الجازم :
وقد جاء طلب الهداية هذا بتّياً وجازماً ، فلم يقل : اهدني إن شئت ، أو إن أحببت ، لأن المطلوب في كل دعاء وطلب من الله هو ذلك . فقد أمرنا بالإلحاح في الطلب ، وبالجزم والبت فيه. فإنه تعالى يحب إلحاح الملحين من عباده المؤمنين[121] .
الإسلام لا يغني عن طلب الهداية :
وقد يخطر ببال البعض أن يقول : ما دمنا قد أسلمنا وآمنا، فقد حصلت الهداية ، فلماذا نطلبها وهي موجودة لدينا ؟ وهل هذا إلا طلب الحاصل ؟ ولماذا كلفنا الله سبحانه بطلبها في صلواتنا كل يوم عشر مرات على الأقل؟
ونقول في الجواب .
أولاً : صحيح : أن الله سبحانه قد رسم لنا بالإسلام طريق الهداية . ولكن مجرد العمل بأحكامه لا يكفي لتحقيق الهدف المطلوب، وهو أن يحقق الإنسان إنسانيته ويستكمل مزاياها ليصل من خلال ذلك إلى الله سبحانه ، وينال درجات القرب منه .
فالكل يصلي ، لكن صلاتهم لا تنهاهم عن المنكر ، بل بعضهم ينتهي عنه ، وبعضهم لا ينتهي ، والذين ينتهون عن المنكر، بعضهم أرسخ امتناعاً وانتهاءً من بعض .
وعدا عن ذلك فإن الصلاة هي معراج المؤمن ، وقربان كل تقي ، لكن الكثيرين – وإن كانت صلاتهم تنهاهم عن الفحشاء – لا يكون لهم عروج بها ، ولا تكون قرباناً لهم ، إلا بمقدار ضئيل وضعيف .
إذ )كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ . وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء([122].
وهذا الحد الأدنى من العمل قد يسقط التكليف ، ويمنع من العقاب . ولكن قد لا يثاب المرء عليه ، ولا يفيده شيئاً في إيصاله إلى هدفه الأسمى .
وقد صرح أمير المؤمنين عليه السلام ، بأن العبادة درجات ومراتب ، فقال : ( إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار . وأن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد. وأن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار) [123]
وهو الذي يقول : ( ما عبدتك خوفاً من عقابك ، ولا طمعاً في ثوابك ، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك) [124].
فالعمل الذي يسقط التكليف هو الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل ، ثم بقدر إخلاص الإنسان في عبادته ، وبقدر ما يبذله من جهد ، بقدر ما يكون القرب والرضى .
فإذا كان الإنسان في درجة ومرتبة ، فإنه يحتاج إلى الهداية وإلى المعونة لينتقل منها إلى درجة أعلى ، ثم إلى الاعلى منها ، وهكذا .
ووسائل ذلك هو الصبر ، والإخلاص والجهد ، وجهاد النفس.
ولكل منـزلة ودرجة خصوصياتها وآفاقها ، ومسؤولياتها التي تختلف في حجمها وتفاصليها عن سابقتها.ولها كذلك واجباتها التي تنسجم معها ، ومع ما استجد لهذا الإنسان ، وما انفتح عليه من معارف وآفاق ، وأحوال وغيرها . فهي إذن تحتاج إلى هدايات إلهية جديدة، ليعرف كيف يتعامل مع هذا الواقع الجديد ، ليتفاعل ، ثم ليتأقلم معه ، وليتمكن من تهيئة الوسائل لاستمرار تحركه باتجاه مراحل أخرى أرحب وأوسع وأرقى. فلا بد له من هداية في محيطه قبل الانتقال ، ثم هداية في حركته الانتقالية ، ثم هداية ثالثة حين بلوغه المرحلة الجديدة. فهو كالمسافر الذي يحتاج إلى هداية أولية ، ثم إلى هدايات في كل مرحلة يصل إليها ، ثم إلى هداية بعد الوصول ليكون على علم بتفاصيل وحالات ومناخ البلد الذي وصل إليه .
والعبادة والقرب من الله سبحانه لا ينحصر بالصلاة والصوم والحج . بل إن كل عمل يمكن أن يكون عبادة . وقد يكون تفكرك بالله ، ومحاسبتك نفسك في آخر ساعة من نهار أفضل من عامة عباداتك ، الخاوية والخالية من الإخلاص والتفكر، بل قد يصاحبها رياء وعجب ، يخرجها من دائرة كونها مظهراً من مظاهر التوحيد ، لتكون شركاً موبقاً ومهلكاً .
وقد يكون نومك عبادة إذا كنت صائماً . ولا تكون صلاتك عبادة ، كما أن كدك على عيالك ، وإحسانك لوالديك ومرابطتك على الثغور ، وسعيك في قضاء حاجات المؤمنين ، قد يوصلك إلى الدرجات العلى ، والمراتب السامية ، التي ترفعك إلى درجة عبادة الأحرار . وإذا كانت كل درجة تجعل الإنسان ينفتح على الله سبحانه، بعقله ووعيه ، وفكره ومعرفته بصورة أتم وأكبر، فإن صلاته – إذا بلغ بعض المراحل – ربما تصير أكثر معراجية ، وأشد نهياً له عن المنكر ، وأمراً له بالمزيد من المعروف . ثم يصبح دعاؤه مستجاباً . بل قد يصبح المستحب عنده واجباً ، والمكروه حراماً ، والصغيرة من الذنوب يراها كبيرة . ثم يزداد تكاملاً ورقياً حتى يصبح يرى بعين الله ، وينطق بما يريده الله ، ويصير يومه أفضل من أمسه . ويفهم بعمق مغزى قول علي عليه السلام : من اعتدل يوماه فهو مغبون [125].
ويلحق من ثم بدرجات الأولياء والأصفياء .
وهذا هو السير الطبيعي الذي مر به الأنبياء والأوصياء ، فوصلوا إلى ما يريدون ، ونالوا ما يشتهون بعلمهم وبجهدهم وجهادهم . وإن علمهم بالحلال والحرام تفسير القرآن ، وإن كان واحداً ، ولكنهم يتفاوتون في علمهم بملكوت الله سبحانه ، وبأسرار الخليقة . ويزدادون في علمهم هذا ، كما جاء في بعض الروايات [126] .
فالحاجة إلى هداية الله وتسديده ، ومعونته وتوفيقه، وفتح آفاق المعرفة بالله ، والالتذاذ بقربه ، وإدراك ألطافه ، والتفاعل مع بركاته . هذه الحاجة مستمرة ومتجددة ، وتحتاج إلى هداية بعد هداية . ولا بد من طلبها منه تعالى . ولا بد من الإلحاح والإصرار على هذا الطلب . "اهدنا الصراط المستقيم" .
وثانياً : إن المراد هو استمرار الهداية الإلهية ، لأنه إذا وكلنا إلى أنفسنا فإن أهواءنا وشهواتنا ، والمغريات والضغوطات تتسلط علينا فتزين لنا الانحراف والخطأ . حتى لنرى الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، ونقع في المآثم والمظالم ، ونصبح في ظلمات بعضها فوق بعض .
}كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون{[127].
}فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم{[128].
وفي ناحية الهداية أيضاً يكون الأمر كذلك . قال تعالى : }والذين اهتدوا زادهم هدى ، وآتاهم تقواهم{[129].
وقال سبحانه : }هدى للمتقين{[130].
فالحاجة إلى المعونة والهداية قائمة ودائمة . فطلبها لا بد أن يستمر ، ليشملك اللطف الإلهي الغامر . أما إذا انقطعت عن طلب الهداية ، وأحسست بعدم الحاجة إليها ، فقد قطعت صلتك بالله ، واستوجبت قطع اللطف الإلهي عنك ، وأصبحت عرضة للأهواء والشهوات ، لتتلاعب بك ، وللشياطين لتغويك وتطغيك. وهذا ما لا يرغب به عاقل ، ولا يرضى به حتى جاهل .
ونجد في اللغة العربية ما يشهد لكون اهدنا بمعنى ثبتنا .
وذلك فيما لو قلت لأحدهم : قف حتى أعود إليك. فكلمة : قف ، يطلب بها الثبات على حالة الوقوف . وليس المطلوب ، أن يقف بعد أن يكون قاعداً . وكلمة اهدنا هي الأخرى من هذا القبيل .
أنواع الهداية وأقسامها :
وقد قسم بعضهم الهداية إلى أربعة أقسام هي :
هداية الإلهام : وهي نوع من الهدايات التي تدفع الطفل لتناول ثدي أمه ، والارتضاع منه بمجرد أن ينفصل عن رحم أمه ؛ فالحواس وحدها لا يمكن أن تدفعه إلى ممارسة هذا الفن الرفيع . وكذلك ليس لديه من الإدراك في تلك الفترة ما يمكنه من ذلك ، فضلاً عن أن يتعلم ذلك من معلم أو أن يقرأه في كتاب ، أو غيره.
الهداية الحسية : فإن الحواس لها دور في الهداية، فالبصر يهدي إلى الأشكال والأحجام والألوان . وبالسمع تهتدي إلى الأصوات ، وتميز بينها ، وتعرف الشجي من النشاز . والقوي من الضعيف ، وما إلى ذلك .
وبواسطة اللمس تعرف الحار والبارد ، واللين والقاسي ، والخشن والأملس الخ.
وكذلك بالنسبة إلى حاسة الشم في المشمومات ، وحاسة الذوق في المطعوم والمشروب .
الهداية العقلية : التي ندرك بها ما لا يقع تحت قدرة الحواس ، ولا ينال بالإلهام ، وذلك مثل الحسن ، والقبح ، والعدل والظلم ، والتوافق والتضاد ، والتناقض وعدمه وما إلى ذلك .
الهداية الشرعية : وهي تكون فيما يعجز العقل عن درك كنهه ، ويقف حائراً أمامه . وقد تحول الأهواء ، والغرائز والشهوات دون وصول العقل إليه ، حينما تهيمن عليه تلك الأهواء والشهوات ، وتفقده القدرة على التمييز، فتشتبه عليه الأمور ، ويخلط الحق بالباطل .
فيأتي دور الشرع ليحل محل العقل في الهداية والبيان .
وبعد هذا البيان نقول : كأنهم يريدون أن يقولوا : إن معنى الآية الشريفة هو : اهدنا إلى شريعتك ، وبها ، في المواقع التي يعجز العقل ، والإلهام ، والحواس عن إدراك وجه الصواب فيها .
ونقول :
إن هذا البيان غير مقبول .
أولاً : لأنه كلام غائم ، ولا سيما فيما يرتبط بقدرات العقل على الإدراك ، وحدوده ومجالاته .
ثانياً : إن الهداية على تفسيرهم هذا تنتهي بمجرد تعليم الشريعة ، فإذا عرفت أحكامها فلا حاجة لقوله اهدنا كل يوم عشر مرات أو أكثر ، لأن أمور الشريعة والدين محددة ولا زيادة فيها ، والزيادة إنما هي فيما هو خارج عنها.
ثالثاً : قد ذكرنا فيما تقدم : أن الهداية ليست مجرد تلقين ودلالة ، ثم تقبل أو لا تقبل ، على حد قوله تعالى : )هديناه النجدين، إما شاكراً وإما كفوراً( . بل الهداية إلى النجدين هي إحدى مراتبها .
وتوضيح ذلك :
هذه الهداية ليست هي – كما يقول بعضهم – التوفيق الإلهي . ليردّ عليه بعض آخر : بأن الهدايات التوفيقية خاصة بالأنبياء [131].
بل هي هداية بعد هداية تزيد وتتسع باستمرار ، تبعاً لما يستجد للإنسان من معارف ، وتنفتح أمامه من آفاق. ويواجهه من أمور جديدة تحتاج إلى حل ، وإلى استكناه حقيقتها ، والانسياب في آفاقها .
وذلك على حد قوله تعالى : )والذين اهتدوا زادهم هدى(. فإن المعرفة كلما اتسعت ، كلما زادت معرفة الإنسان بحجم المجهولات التي يحتاج إلى كشفها . وكثرت الألغاز التي تحتاج منه إلى حل ، فإن الخير يوصل بعضه إلى بعض ، ويهدي بعضه إلى بعض ، كما ويشد بعضه أزر بعض .
ولا يختص ذلك بالأنبياء ، ما دام أن عبادات الإنسان ، والتزامه بأحكام الله من الأوامر والزواجر له آثاره عليه ، فتصقل روحه ، وفكره وعقله وتجربته ؛ وتزيد من طاقاته ، وتهيؤه لنيل مراتب أعلى وأرقى .
وبالوصول إليها ، والحصول عليها يكتسب المزيد ، فيوظفه لنيل موقع جديد من مواقع القرب والزلفى له تعالى، ويصبح أقدر على مواجهة نفسه ، وصدها عن شهواتها ، ثم مواجهة المغريات والمشكلات بعزم أشد ، وقدرات أعظم .
الهداية والجبر الإلهي :
وقد ادعى بعض المفسرين : أن قوله تعالى : "اهدنا الصراط الخ. " يدل على صحة قول الأشاعرة : إنه تعالى هو فاعل الخير والشر . أما العبد فلا يوجد فعله ولا يخلقه . ولذا نسبت الهداية هنا لله تعالى ؛ فهو الذي يفعل ويوجد .
ولكنه نسب الضلال للعبد في قوله : "ولا الضالين"، مع أن الله سبحانه هو الذي يضلهم – تأدباً معه تعالى .
إذن فقوله تعالى : "اهدنا" يمثل رداً على المعتزلة والرافضة.
ونقول :
إن هذا التأدب – لو صح – فهو دليل على قبح صدور ذلك منه تعالى . وإذا لم يجز نسبة القبح إليه تعالى لفظاً ، فما بالك بنسبته إليه وصدورها منه خارجاً ؟!
إن المراد من – اهدنا – ليس هو إيجاد الهداية بطريق جبري وقسري وتكويني ، بل المراد : هو المساعدة في الهداية ، فإذا قلت لإنسان : ساعدنا على هذا الأمر ، فإنك أنت الذي تبذل الجهد ، وتعمل ، وتؤثر فيه بصورة مباشرة ثم يساعدك الآخرون .
وإذا كانت الهداية بمعنى الدلالة ، والتوفيق والتسديد ، فالأمر يصير أوضح ؛ فإنك إذا قلت لرجل : اهدني ودلني ، فإن دلالته لك لا تعني أنه قد خلق المعرفة فيك وأجبرك عليها . بل هو يدلك ، وأنت تختار أن تعمل بهذه الدلالة ، أو لا تعمل .
إنه سبحانه في نفس سورة الحمد ، قد نسب الفعل إلى العبد . وذلك في قوله : نعبد . نستعين . فأنت الذي تعبد . وأنت الذي تفعل ، وتريد منه أن يعينك ، ويقويك ، وينشطك ، ويشجعك لتحقق المزيد من النجاح والفلاح ، ثم تطلب المزيد من الهداية والدلالة إلى كل ما يوجب القرب، والمزيد من المحفزات والمشجعات ، والتوفيقات والبركات .
ولو صح ما ذكروه في "اهدنا" للزم التناقض بينه وبين " نعبد .نستعين . الضالين . حيث جُعل الله فيها معيناً هنا . ومجبِراً على الهداية خالقاً لها هناك .
وإذا صح : أنه نسب الضلال إلينا تأدباً .
فلماذا نسب إلينا الفعل في نعبد ونستعين ، إذ لا معنى للتأدب فيهما لننسبهما إلى غيره تعالى . إذ لا قبح في نسبتهما إليه سبحانه .
إهدنا الصراط أو إلى الصراط :
وقد يدور بخلد البعض هنا سؤال ، وهو : لماذا قال سبحانه هنا : اهدنا الصراط المستقيم ، ولم يقل اهدنا إلى الصراط ؟! فما هو الفرق بين التعدية المباشرة ، وتسلط الفعل على المفعول مباشرة وبين التعدية بواسطة حرف الجر.
والجواب :
إن التعدية المباشرة تشير إلى الهداية الحسية ، أما التعدية بإلى .فتشير إلى الهداية الإرشادية . أي أن الأولى تصلك بالصراط المستقيم ، فتلمسه بيدك . والثانية ترشدك إلى الصراط ، وتدلك عليه ولو من بعيد .
ومن الواضح: أن الهداية الحسية التي يتجسد الواقع فيها أمامك أشد إغراء ودعوة . وهي التي يحصل فيها الإنسان على السكون واليقين ، بصورة اعمق وأشد . وهي الأقوى والأجلى والأوضح . ثم هي الأضمن للوصول. من أية هداية أخرى . وهي أقصى درجات الهداية، وأشدها قطعية .
ونحن بحاجة ماسة إلى هذا الضمان ، وإلى السكون والاطمئنان ، لخطورة الأمر ، من حيث كونه يتعلق بمصير الإنسان ، وبكل حياته ووجوده وحركته .
فكأنه قال : اجعلنا نتحسس الصراط بصورة مباشرة ، ولا تكتف بمجرد الدلالة الإرشادية إليه ، لأننا نريد أن نسلكه ، لنصل منه إلى الهدف الأسمى ، والغاية الفضلى .
مناقشة وردّها :
وقد يقال : إننا لا نجد فرقاً بين قولنا دخلت الدار، ودخلت إلى الدار ونقول :
أولاً : هذا صحيح في هذا المثال ، ولكنه ليس صحيحاً في سائر الموارد ، والسبب في ذلك هو أن مادة : ( دخل ) تختلف عن مادة ( هدى ) . فإن ( دخل ) لا تقبل إلا نوعاً واحداً من المعنى، وهو الولوج في الشيء .
أما كلمة ( هدى ) فهي قابلة لأكثر من نوع من المعنى ، فهناك هداية حسية ، وهناك هداية إرشادية الخ … فهدى الصراط تشير إلى الحسية ، وإلى الصراط تشير إلى الإرشادية ، فلا يصح قياس الثانية على الأولى .
ثانياً: إننا بالرغم مما ذكرناه أنفاً – نشعر بوجود فرق بين قولنا:دخلت الدار ،ودخلت إلى الدار.
فإن قلت : ( إلى الدار ) فإنك تكون قد لاحظت كيفية الدخول ، وآليته ، والطريق إليه ، ولم تلحظ في قولك : ( دخلت الدار ) شيئاً من ذلك .
الصراط المستقيم :
وقد ورد في العديد من الروايات : أن المقصود بالصراط المستقيم : الإسلام .
وفي بعضها : علي بن أبي طالب عليه السلام .
وفي بعضها : الأئمة عليهم السلام .
فلماذا اختلفت الروايات ؟! وهل هي متضادة فيما بينها؟.
الجواب :
إنها غير متضادة ، لأننا إذا اهتدينا إلى علي عليه السلام ، وإلى الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين ، فإننا نهتدي إلى الإسلام . وإذا اهتدينا إلى الإسلام ، فإنه يهدينا إلى علي عليه السلام والأئمة عليهم السلام ، لأن المقصود بعلي هو علي المعصوم والهادي إلى الحق ، وليس المقصود هو الرجل المكون من لحم ودم
وينشأ من هذا البيان سؤال .
وهو أنه لماذا عدل سبحانه عن كلمة الإسلام ، أو علي ، أو الأئمة إلى كلمة الصراط .أي لماذا لم يقل : إهدنا إلى الإسلام، مثلاً ؟.
ونجيب :
أولاً : إن الهدف هو الوصول إلى الله سبحانه ، ونيل درجات الزلفى لديه . والإسلام وسيلة للوصول إلى الهدف ،وعلي والأئمة عليهم السلام هم الإدلاء والهداة ، إلى تلك الوسيلة ، والمعينون على الوصول .
وقد أراد الله سبحانه من عدوله عن التصريح بذلك أن يشعر هذا الإنسان بأن ثمة غاية سامية ، وهدفاً مقدساً ، لا بد أن يسعى إليه ، ويسلك السبل الموصلة ، ويتطلب الهداية من الإدلاء عليه .
فإذا تحدث عن صراط وطريق ، علم أن للطريق نهاية ، وللصراط غاية . وعلى الإنسان أن يتساءل عنها ، ويبحث ويستدل . فإذا عرف أنها رضا الله سبحانه . فإنه سوف لن يتساهل في جعلها نصب عينيه في كل موقف ، وحركة وسلوك .
أما كلمة : ( الإسلام ) أو ( الأئمة ) أو ( علي ) فهي لا تدل على ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، بل لا بد من التماس البيان من جهات أخرى، وقد لا يخطر على البال طلب بيان من هذا القبيل .
ثانياً : إن الله سبحانه أراد أن يشير إلى القيمة السامية لأحكام الإسلام ، فإذا شعر الإنسان بأن الإسلام هو الصراط المستقيم ، الموصل إلى الله سبحانه ، فإن الشعور يعطي المضمون الإسلامي في مجال الممارسة قيمة روحية وإيمانية . ويدفع إلى المزيد من الارتباط الروحي والمعنوي بالإسلام ، وإلى المزيد من الإخلاص، والتقدير ، والتقديس .
إذن ، فلا مجال لأن تكون صلاة هذا الإنسان كنقر الغراب، ولا لأن تكون عباداته مجرد طقوس ، وحركات خاوية . بل عليه أن يدرك أن الإسلام ، والإمام ، والأئمة ليسوا هم الهدف المقصود لذاته . وإنما هم وسائل ووسائط عليه أن يستفيد منهم للدلالة والهداية ، والمعونة في الوصول إلى الهدف والحصول عليه .
إنهم هم الأكثر قدرة على المساعدة في الوصول إلى الأهداف العليا ، والغايات السامية . وذلك بما لديهم من معرفة دقيقة وعميقة ، ثم بما لهم من قيمة روحية ومعنوية ، وبموقعهم المتميز في التكوين الإيماني والعقيدي للإنسان المسلم .
ثالثاً : إن ذلك يبعد الإنسان عن ان يتعصب لغير جهة تبرر التعصب المعقول والمقبول . حيث يفهمه أن المطلوب ليس هو التعصب للإسلام ، لأنه دين موروث ، فإن التعصب للإسلام أي بما هو موروث يكون جريمة كبيرة وعظيمة ، وإنما المطلوب هو التعصب للإسلام ، لأنه الصراط المستقيم ، ولأنه الحق والصدق . وما سواه باطل ومزيف ، أو مشوه ومحرف .
(ال) في الصراط للجنس أو للعهد :
وقد يسأل البعض عن كلمة ( ال) في الصراط هل هي للجنس ، أو للعهد ؟!
ونقول :
إنه لا مبرر لكونها عهدية ، لأن العهد إما ذكرى ، أو ذهني أو خارجي . ولم يتضح توفر أي من هذه الأمور الثلاثة في هذا المورد .
وحتى لو كانت عهدية ، فإنه العهد ، إنما هو للإسلام ، أو الدين الحق .
وحين تكون جنسية فذلك أقوى في الدلالة على المقصود، حيث تشير إلى أن طبيعة الصراط المستقيم هي الإيصال إلى الهدف.
فيكون المراد : أن الصراط جنس منحصر في فرد، كالشمس ، التي هي معنى عام وكلي منحصر في هذا الجرم السماوي المضيء بالنهار وإذا أنحصر الجنس في فرد ، فإن كل القلوب والعقول ، والأبصار ، وحركة اليد في إشاراتها تتوجه إليه مباشرة وإلى خصوصيته ، بسبب تفرده وتعينه .
وصف الصراط بالمستقيم : لماذا ؟!
قالوا : إن كلمة ( الصراط ) تعني الخط الأقرب بين نقطتين. فهو إذن يستبطن الاستقامة . لأن أقرب خط بين نقطتين هو الخط المستقيم وهذا الخط واحد ، ولا يمكن التعدد فيه .
وهو أيضاً يصلك بالهدف بصورة مباشرة .
ولذا ، لو افترضنا خطين متوازيين يسيران ، فإنهما لن يلتقيا في نقطة وهدف واحد ، بل يصل إليه أحدهما دون الآخر . اما في صورة التعرج فقد يصل الخطان إلى الهدف ، وقد يكون التخلف عنه منهما معاً ، أو من أحدهما.
والخطوط المتعرجة تكون :
أطول .
وتتعدد .
وقد لا توصلك إلى الهدف .
وقد أشار سبحانه إلى ذلك حين قال : }وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله{[132].
والخط المستقيم باتجاه هدف إذا انحرف عن الاستقامة ، فإنه لن يصل إلى الهدف قطعاً . نعم لو انحرف مرة أخرى فإن كان الانحراف الثاني باتجاه الهدف ، فإنه يصل إليه ، وإن لم يكن باتجاهه فإنه يحتاج إلى انحراف آخر ، وهكذا .
فإن كان الصراط يستبطن معنى الاستقامة حقاً ، فإن المقصود هنا من كلمة : ( المستقيم ) هو التأكيد على خصوصية الصراط هذه ، وذلك من أجل :
التصريح والتأكيد على أقربيته إلى الهدف بالنسبة لسائر الطرق ،بدلاً من الاعتماد على الانتقال من المعنى التركيبي إلى المعنى التجزيئي ، الذي يفصل الصفة عن موصوفها ذهناً .
الإشارة إلى قصره ، وسرعة الوصول من خلاله إلى درجات القرب والفوز بها .
الإشارة إلى أنه الطريق الواحد،الذي لا ثاني له.
الإشارة إلى إيصاله الأكيد ، في مقابل غيره مما قد لا يوصل أصلاً .
تفسير قوله تعالى : }صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين{
نسبة الصراط إلى غير الله سبحانه :
إن من يراجع الآيات القرآنية يجد : أنها جميعاً باستثناء آيتين قد نسبت الصراط إلى الله سبحانه . فاقرأ الآيات التالية ، وقس عليها غيرها
}صراط العزيز الحميد{[133].
}صراط ربك مستقيماً{[134].
}وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه{[135].
}صراط الله{[136].
والآيتان اللتان نسب فيهما الصراط لغير الله هما:
قوله تعالى : }قل : إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ، ديناً قيماً{[137].
فإنه اعتبر في هذه الآية : أن الصراط المستقيم هو الدين القيم ، أي هو صراط موصوف بأنه دين قيم .
ولكنه تعالى أيضاً لم ينسب في هذه الآية الصراط إلى أحد . بل تركه عرضة للاحتمالات ، مع العلم أن الدين القيم هو صراط الله سبحانه أيضاً .
فينحصر نسبة الصراط لغير الله سبحانه في خصوص:
آية سورة الفاتحة : صراط الذين أنعمت عليهم .
فهنا أسئلة ثلاثة :
الأول : لماذا اختصت سورة الفاتحة بهذا الأمر ؟
الثاني : ما هو السبب في نسبة الصراط هنا فقط لغير الله سبحانه ؟
الثالث : لماذا احتاج إلى هذا التفصيل بعد قوله : الصراط المستقيم ؟
ونقول في الجواب عن هذه الأسئلة :
أولاً : إن نسبة الصراط في سورة الفاتحة إلى الذين أنعم الله عليهم ليس معناها أنه لم ينسبه فيها إلى نفسه ، وذلك لأن صراطهم هو في النتيجة والمآل صراط الله سبحانه . فهو ينسبه إليهم ، لأنه صراطهم الذي اختاروه ومشوا فيه وقطعوه . وإن كان الله سبحانه هو الذي سنّه وشرعه لهم .
ثانياً : إن الله تعالى حين نسب الصراط ، للذين أنعم عليهم ، فقد أراد أن يقول : إن الذي اهتدى إلى صراطه المستقيم، فإنما اهتدى إليه بنعمة منه تعالى وبفضله وهدايته ؛ فيكون ذلك أدعى للإخلاص له ، والارتباط به سبحانه وتعالى .
وليس هذا الاهتداء نتيجة لقدرات ذاتية بشرية كامنة ، ومن خلال جهد شخصي ، بعيد عن تسديد الله سبحانه ، وهدايته، وأفضاله .
ثالثاً : إنه إذا ظهر لنا أن الآخرين قد اهتدوا إلى هذا الصراط ، فإن ذلك يجعلنا نطمئن إلى إمكانية تحقق ذلك بالنسبة إلينا أيضاً ، فهو إذن ليس أمراً نظرياً تجريدياً لا واقعية له ، أو ليس فوق طاقة البشر ، أو غير قابل للتطبيق ، بسبب ظروف موضوعية ذات طابع معين .
رابعاً : إنه تعالى في خصوص هذه السورة التي لا بد أن نقرأها في صلاتنا عشر مرات على الأقل يومياً ، يريد أن يجسد لنا الأسوة والقدوة واقعاً حياً يمكن أن نترسم خطاه ، ونهتدي بهديه .
وذلك لأن الإنسان – بطبيعته – يتعامل مع الأمور من خلال حواسه الظاهرية بالدرجة الأولى ، ثم ينتزع من القضايا المحسوسة قضايا تصورية ، ثم يبحث عن قواسمها المشتركة ويسقط خصوصياتها ، ليكتشف المبدأ والنظرية ، والقاسم المشترك ، والقاعدة .
وقد أراد سبحانه لنا هنا : أن يجسد لنا هديه وتعاليمه لننتقل من المضمون الواقعي والحسي ، الغني بالقيم والجمالات ، ليمثل لنا إغراءً يدعونا إلى الاندفاع إليه ، والالتزام به ، والتعاطي معه ، من موقع الوعي ، والمشاعر المرتكزة إلى مناشئها ، فنكون أكثر اقتناعاً ، وأعمق إيماناً ، وأشد تمسكاً والتزاماً به . حتى إننا لنضحي من أجله بالغالي والنفيس حين يقتضي الأمر ذلك .
أما إذا اقتصر على المضمون التصوري ، والتخيلي التجريدي ، فإن الاندفاع لن يكون بالمستوى المطلوب ، بل سوف يعاني من حالات التردد والخوف من جدوى أو من إمكانية وواقعية ما يطلب منه . ولن يكون في موقع الرضى والثبات والطمأنينة في الممارسة وفي الموقف.
ولا أقل من أن ذلك لن يكون قادراً على الإثارة والإغراء بمستوى ما لو كان المضمون حسياً ومتجسداً .
أضف إلى ما تقدم : أن من مصلحة الإنسان أن يتطلب أقصى درجات الهداية وأجداها وأوضحها ، وأشدها تأثيراً ، والهداية الحسية هي الأقوى والأجدى حيث تريك القيم ، والجمالات متجسدة أمامك ، وتدفع بك ، وتشدك إليها .
فإذا صاحب ذلك تنفير ، وتخويف من صراط الضالين والمغضوب عليهم . فإن كل المقومات المطلوبة للاندفاع بقوة تصبح جاهزة ومستعدة للتأثير وللتحريك باتجاه الهدف الأقصى والأسمى .
وبعبارة أوضح : إن النعمة والاستزادة هي هدف الطالب في جامعته ، وهدف المزارع في حقله ، وهدف العابد في محرابه، و. ويتحرك الإنسان من أجل الحصول عليها بصورة عفوية فيسلك إليها أقرب السبل وأكثرها أمناً . وهو الصراط المستقيم .
فإحساسه بأن ثمة نعمة وثمة استزادة، يمثل دافعاً له إلى التحرك نحوها . وإن الغضب الإلهي – والله سبحانه هو أعظم قوة تملك التصرف في حياة وشؤون الإنسان وغير الإنسان . ثم الضلال عن الهدف ، وعن طريق الوصول إليه، نعم، إن هذا الغضب وذلك الضلال لما كان الإنسان ينفر منه ويبتعد عنه بصورة عفوية أيضاً . لأن الغضب والضلال يوحيان بزوال النعمة، أو بعدم الحصول عليها ، فلا بد له إذن من الابتعاد عن سبل المغضوب عليهم والضالين لتفادي أية سلبية تنشأ من اتباع سبيلهما .
ويلاحظ أخيراً : أنه تعالى قد عبّر بكلمة "أنعمت" التي تفيد معنى ينطبق على جميع الأمور التي تعني الإنسان من صحة أو مال أو قدرة ، أو جاه أو هداية أو علم ، أو أمن أو أي شيء آخر يسهم في إسعاد الإنسان ، ويمكن له أن يحصل عليه . وهذا نوع آخر من الترغيب والتحفيز للسير على ذلك الصراط .
وكل ذلك يفسر لنا السبب في أن ذلك قد ورد في سورة الفاتحة التي تتكرر في كل يوم عشر مرات على الأقل. فقد أريد منه أن يصبح خلقاً ، وطريقة ، وحركة عفوية ، من خلال ارتكاز ذلك في نفس الإنسان وروحه وكل وجوده .
النعمة والنقمة :
وقد يتخيل البعض : أن الذين أنعم الله عليهم . قد تسببت لهم نفس تلك النعمة بالنقمات ، فقد أوذي الأنبياء، وقتل الحسين بن علي عليه السلام في كربلاء بصورة مفجعة. وقال علي عليه السلام لأهل العراق : "لقد ملأتم قلبي قيحاً"[138].
ومع هذا ، فكيف نفسر قوله تعالى :
}فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين{[139]؟.
حيث عد سبحانه الشهداء أيضاً في جملة من أنعم عليه ، مع أنهم يواجهون الحتوف ، بشفار السيوف ، مع ما يصاحب ذلك من آلام ومشقات وأهوال ، ومحن .
هذا بالإضافة إلى الأنبياء الذين يواجهون المصائب والبلايا، والعظائم والرزايا .
وخلاصة الأمر : إن هذا –وفق تصورهم - لا يتناسب مع نسبة النعمة لهم ، بل ذلك نقمة ، لأنه ليس إحساناً وتكريماً إلهياً . فكان المناسب أن يقول : صراط الذين أتعبتهم وأشقيتهم بالمصائب في سبيل هذا الدين .
ونقول في الجواب :
صحيح أن النعمة هي الشيء الحاصل للإنسان على سبيل الإفضال والتكريم منه تعالى . ولكن المهم هو أن ندرك نحن هذه النعمة ، ونعرف كيف نتلمسها ، وما هي المفردات التي تتجسد فيها . فهل تتجسد بالمال ، أو بالسلطة ، أو بالجاه ، أو بالمنصب، أو بالقوة الجسدية ، أو بالجمال ، أو بالعرق ، أو.
فقد يشعرك المال بالطمأنينة ، والسعادة ، والراحة النفسية، ولكنها طمأنينة ، وراحة وسعادة تبقى محدودة بحدود ، ومقيدة بقيود لا تتجاوز قيمة المال نفسه . فإذا مرضت فقد تستفيد من مالك لدخول أرقى المستشفيات ، واستخدام أحدث الأجهزة ، والاستفادة من خبرات أمهر الأطباء ، وو. ولكن هل هذا هو كل شيء . وهل حصلت على الطمأنينة وعلى السعادة بأعلى مراتبها؟ وهل زال هاجس الخوف على حياتك بصورة نهائية ؟
إن المال يماشيك ويصل معك إلى حد معين ، ثم يقف عنده، وكذلك الجاه ، والسلطة وو. وبعد ذلك – وهذه هي المرحلة الأخطر والأهم – لا بد أن تبحث من جديد عن السعادة والطمأنينة الحقيقية في غير ذلك كله ، لتجدها متمثلة في رضى الله سبحانه ، وفي الإيمان والسكون بذكره كما قال تعالى : }يا أيها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية. {[140].
وقال سبحانه : }ألا بذكر الله تطمئن القلوب{[141] .
ولأجل ذلك يكون الشهداء سعداء ، والأنبياء والصالحون والأولياء سعداء ، وفي نعمة حقيقية . هم في نعمة وفي سعادة حتى وهم يتألمون ويواجهون المحن ، والبلايا، ويستشهدون . وتأكل السيوف أجسادهم .
وهذا ما يفسر لنا : قول مسلم بن عوسجة ،أو سعيد بن عبد الله الحنفي للإمام الحسين عليه السلام في كربلاء : لو علمت أني أقتل فيك ثم أحيا ، ثم أحرق حياً ، ثم أذرى ، يفعل بي ذلك سبعين مرة ، ما فارقتك ، حتى ألقى حمامي دونك [142].
وقال علي عليه السلام : والله ، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه [143].
وحين ضرب عليه السلام بسيف ابن ملجم لعنه الله قال : فزت ورب الكعبة[144] .
وحين قال ابن زياد لزينب رحمها الله : كيف رأيتِ فعل الله بأهل بيتك ؟
قالت : ما رأيت إلا جميلاً [145].
وسأل الحسين عليه السلام القاسم ابن الحسن عليه السلام: يا بني ، كيف الموت عندك ؟
قال : يا عم ، أحلى من العسل .[146]
إلى نماذج كثيرة أخرى للرضى والتسليم والإيمان والاطمئنان ، والإحساس بالسعادة وبالفوز بلقاء الله سبحانه .
وهذه هي النعمة الحقيقية التي يختار الله الشهيد على أساسها ، ثم يمضي القرار الإلهي بها من خلال التكليف الإلهي ، ثم المبادرة العملية من هذا المكلف لإنجاز ذلك التكليف ، ويتوج ذلك بالاصطفاء ، الذي هو التعبير عن الرضى الإلهي الغامر .
أما المال والجمال والقوة وسوى ذلك فلن يستطيع أن يمنحك هذه السعادة ، التي قد يجدها الفقير المعدم ، ويفقدها الغني بماله ، الفقير بما سوى ذلك – بل إن أفقر الناس هم الأغنياء .
ولأجل ذلك صح التعبير عن الشهداء والأولياء وو. بـ"أنعمت عليهم" .
وإن شئت لخصت ما تقدم على الشكل التالي :
إن النعمة هي الحصول على المطلوب ، وتحقيق الغاية المتوخاة ، والنقمة هي الخيبة والخسران في هذا المجال . أما الألم والتعب الموصولان إلى الغاية فليسا نقمة أبداً . فما تعرض له الأنبياء والأوصياء والمؤمنون ، لا يعتبر نقمة ، لأن ذلك لم يجعلهم يخسرون نعمة القرب من الله ، والحصول على مقامات الزلفى منه، بل قد زاد ذلك في علو درجاتهم ، وفي صقل إيمانهم ، وتصفية وتغذية نفوسهم . الأمر الذي زاد في استحقاقهم للألطاف الإلهية ، وللتوفيقات والبركات الربانية . فآلامهم تلك كانت سبباً في زيادة توغلهم في النعم .
من هم الذين أنعم الله عليهم :
لقد حدد الله سبحانه لنا الذين أنعم عليهم ، فقال :
}فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً{[147].
شمول الآية للنبي (ص) والأئمة (ع) :
وقد يدّعي البعض : أن الآية تشمل الأنبياء السابقين على نبينا (ص) ، لأنها نزلت في أول البعثة ، ولا تشمل نبينا الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم ، والأئمة الطاهرين من أهل بيته عليهم السلام ، لأنهم حين نزول الآية لم يكونوا موجودين ، أو ما كانوا يمثلون أسوة وقدوة للناس ليأمر الله سبحانه بالتمسك بهم ، والاتباع لهم .
ونقول :
إن الجميع مقصود بالآية حتى نبينا الأكرم وأئمتنا عليهم الصلاة والسلام . لأن الآية هنا مسوقة على نحو القضية الحقيقية ، لا القضية الخارجية أو الذهنية .
ولتوضيح ذلك : نقول : إن كل قضية لا بد لها من موضوع يكون الحكم عليه ، وهو أقسام ؛ فإنك :
إذا قلت : كل جبل ياقوت ممكن الوجود . فجبل الياقوت لا وجود له في الواقع الخارجي ، بل هو موجود في ذهنك فقط (فهذه قضية ذهنية موجبة) .
إذا قلت : كل من في الغرفة عمره أقل من عشرين سنة ، أو كل من في المعسكر قد درب على حمل السلاح ، أو كل من في هذا المدرسة يحمل الشهادة الابتدائية . فقد لوحظ موضوع الحكم هنا موجوداً في الواقع الخارجي ، ومتحققاً في أفراده في أحد الأزمنة الثلاثة (فهذه قضية خارجية موجبة) .
إذا قلت : كل إنسان قابل للتعليم العالي . أو قلت: من شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله فهو مسلم . أو قلت: كل ماء كريّ فهو طاهر ومطهّر . أو كل من أنعم الله عليه فهو مهتد إلى الصراط المستقيم . أو من بلغ وهو عاقل فقد وجبت عليه الصلاة . وكذا : لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً .
فموضوع الحكم في هذه الأمثلة كلها قد لوحظ وجوده في نفس الأمر والواقع : أي أن الحكم إنما كان على الطبيعة بما لها من أفراد محققة الوجود ، ومفروضة ومقدرة الوجود معاً . فكلما فرض وجوده – وإن لم يوجد بعد – فهو داخل في الموضوع ويشمله الحكم . فإذا وجد فإن الحكم يثبت له بصورة تلقائية ، ولا يحتاج إلى إنشاء حكم جديد .
وهذا ما نسميه بالقضية الحقيقية الموجبة .
وما نحن فيه من هذا القبيل . فمن أنعم الله عليه من الأولين والآخرين قبل نزول الآية وبعد نزولها فهو مهتد إلى الصراط. كما أن من شهد الشهادتين فهو مسلم حتى ولو ولد بعد آلاف السنين ، من هذا التاريخ ، وهكذا سائر الأمثلة .
نحن والسابقون:
وقد يتخيل البعض : أن الذين أنعم الله عليهم إذا كانوا هم الأئمة والنبي والشهداء والصالحون . من هذه الأمة بالإضافة إلى من سبقهم . فإن معنى ذلك : هو أن المصاديق الفضلى والمثلى لذلك يكون عمرها من عمر رسالة نبيناً ( ص) نحن المسلمين ، ولم يكن بمقدور من سبقنا من الأمم أن يصل أو أن يتصل به ، ولا أن يطلع على ما استجد من تعاليم توجب المزيد من الرقيّ والسمو والقرب.
أضف إلى ذلك : أن معنى ذلك أن الصراط المستقيم أصبح من الأمور النسبية ، التي تتفاوت وتختلف باختلاف الأشخاص والأزمان . فالمرتبة التي يمكن أن يصل إليها الناس بعد بعثة نبيناً ( ص) وإمامة الأئمة الأطهار عليهم السلام تصبح أكمل وأتم من المراتب التي توفرت للأمم السابقة على بعثته (ص) .
فإن نبيناً أفضل من أنبيائهم ، وتعاليمه أكمل وأتم من تعاليمهم ، وتجربتنا أغنى من تجربتهم . وبهذا فسر العلماء تعدد الشرائع بعدد الأنبياء أولياء العزم ،حيث كان السابق منهم عليهم السلام يمهد للاحق ، على مستوى تنمية القابليات والاستعدادات لتأهل الإنسان وتمكينه من مواكبة وتقبل وتحمل المستوى الجديد والشريعة الجديدة ، التي ستنسخ سابقتها .
ونقول :
إننا نجمل توضيحنا في إطار النقاط التالية:
إن الصراط الموصل إلى الله سبحانه واحد ، لا يمكن التعدد فيه ولا الاختلاف ، فمن يسير على تعاليم إبراهيم عليه السلام يصل إلى الله سبحانه ، وكذلك من يسير على تعاليم موسى وعيسى عليهما السلام .
والباب مفتوح أمام الجميع والشريعة وسيلة للوصول . غاية الأمر :
أن هناك من يصل نقطة وهناك من يصل إلى نقطة أبعد منها . ثم أبعد ، وهكذا .
والمعيار هو ما يحصل علية من درجة خلوص وإخلاص ، وصفاء ونقاء، ومعرفة . ولا ينحصر ذلك في سابق ، ولاحق ، فإبراهيم الخليل عليه السلام قد سبق من سبقه ومن لحقه من الأنبياء حتى موسى وعيسى ، باستثناء نبينا محمد (ص) .
فكما استطاع إبراهيم الوصول إلى تلك المرتبة العليا ، فيمكن لغيره أن يصل أيضاً إليها ، وقد وصل نبينا (ص ) من خلال شريعة إبراهيم إلى درجات ربما لم يبلغها إبراهيم نفسه .
إن نبينا محمداً (ص) كان في الأصل على شريعة إبراهيم عليه السلام قال تعالى : }ثم أوحينا إليك : إن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين{[148].
وقد كان موسى وعيسى على شريعة إبراهيم أيضاً، وقد أرسلهما الله سبحانه إلى بني إسرائيل . وقد كان هناك شريعتان فقط : هما شريعة إبراهيم عليه السلام ، وشريعة نبينا محمد (ص) . بل إن شريعتهما أيضاً واحدة وقد قال تعالى : }ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل{[149] ولذلك نصلي على نبينا وآله وعلى إبراهيم وآل إبراهيم في سياق واحد ، ولعل ذلك للإلماح إلى هذا الأمر .
كون موسى وعيسى وغيرهما من أولياء العزم لا يلزم منه أن يكون لهما شرائع مستقلة . لأن المقصود بكون النبي من أولي العزم ، هو أنه يملك طاقة وقدرة يستطيع معها مواجهة التحديات الكبرى ، حتى ليواجه عليه السلام فرعون الذي كان يدعي الربوبية ، ويواجه بني إسرائيل وهم قتلة الأنبياء ، وأصعب الناس انقياداً لنبي .
ونسخ بعض الأحكام في شريعة سابقة ، لا يعني نسخ أساس الشريعة ، بل هو على حد النسخ الذي يكون في أحكام الشريعة الواحدة . كما تنسخ آية في القرآن آية قرآنية أخرى .
فهذا كله لا يعني : أننا أمام شرايع مختلفة ، كما أنه لا يعني رفعة مقام النبي اللاحق في أولي العزم أو غيرهم ، على مقام النبي السابق . وقد ذكرنا إبراهيم كمثال ناقض لذلك التصور الخاطئ .
إننا لا نمنع من أن يستفيد اللاحقون من تجربة السابقين . ولا أن يسهم السابقون في تنمية قابليات واستعدادات من يأتي بعدهم . ولكن هذا لا يعني : أن يكون طريق الوصول إلى أعلى المراتب قد كان موصداً أمام السابقين ، فإن طريق الوصول لله مفتوح أمام الجميع ، وإذا كان ثمة من تفاوت أو اختلاف في الوصول ، فيعود إلى الإنسان نفسه .
ليس لله على الكافر نعمة ؟:
ومن الأمور المثيرة للعجب أن نجد بعض المفسرين يدعي : أنه ليس لله سبحانه على الكافر نعمة ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : )صراط الذين أنعمت عليهم(. حيث خصت الآية النعمة بالمؤمنين ، إذ لو شملت الكافرين لكان معنى ذلك هو أننا نطلب هنا الهداية إلى صراط الكافرين أيضاً ، لأنهم ممن أنعم الله عليهم حسب المدعى .
وهذا الكلام وإن كان باطلاً ، لا يستحق الالتفات إليه ، لكننا مع ذلك نقول :
إن هذا القائل ليس فقط لم يقرأ القرآن ، فإنه أيضاً لم يقرأ بقية نفس هذه الآية : وهو قوله تعالى :}غير المغضوب عليهم ولا الضالين{. ولم يقرأ أيضاً قوله تعالى : }ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ، فإن الله شديد العقاب{[150].
وقوله : }يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ، وإياي فارهبون{[151]. }يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وأكثرهم الكافرون{[152].
وقال تعالى : }أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون{[153].
وقال سبحانه : }أفبنعمة الله يجحدون{[154].
وقال : }ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا{الخ[155].
إذن ، هناك قسمان من الذين أنعم الله عليهم : أحدهما لم يبدل نعمة الله كفراً ، ولم يغضب الله عليه ، ولم يضل الخ . وهم الذين تطلب الهداية إلى صراطهم .
والآخر : بدل وغيّر ، وغضب الله عليه ووالخ . فنحن نحترس منهم ونستثنيهم .
إعراب غير المغضوب :
إذا قلنا : إن كلمة غير المغضوب بدل من كلمة : الذين أنعمت عليهم ، فإن المقصود هو إضافة الصراط إلى البدل نفسه أي : صراط غير المغضوب الخ . ويكون غير المغضوب عليهم هم نفس الذين أنعم الله عليهم .
وأما إذا قلنا :إن كلمة : غير المغضوب صفة للذين . فيرد سؤال : كيف يصح وصف المعرفة بكلمة غير ، التي هي متوغلة في الإبهام . ولا تتعرف بالإضافة ، وهم يقولون: لا يصح وصف المعرفة بالنكرة .
ونقول في الجواب :
أولاً : إن كلمة غير قد يوصف بها المعرفة أيضاً ، وذلك إذا وقعت بين متقابلين ، مثل : الحركة غير السكون، حيث إن التقابل بين السابق واللاحق يقرّبها من المعرفة ، لإتضاح معناها بواسطة الطرف الآخر الذي وقعت وصفاً له . وما نحن فيه من هذا القبيل ، لوقوعها بين من أنعم عليهم ، وبين المغضوب عليهم. فصح وصف المعرفة بها هنا أيضاً لأجل ذلك.
وثانياً : كلمة الذين ليست من قبيل المعرف بالعلمية ، لأنها إنما تعرفت بواسطة الصلة ، وهذا التعريف لا يصل إلى درجة سائر المعارف من حيث درجة التحديد ، بل يبقى لكلمة ( الذين ) عموم وسعة . فكلمة الذين شبيهة بـ ( ال) الجنسية أو الحقيقية التي تدخل على كلمة (رجل). و ( بعير ) فتقول : الرجل . والبعير . والكريم . فإنها لا تصل إلى درجة التحديد والتعريف بالعلمية .
إذن ، فيصح وصف كلمة الذين التي عرّفت بالصلة بكلمة: غير المغضوب عليهم . وإن كانت متوغلة في الإبهام ، لأنها قد تضيقت بالمضاف إليه كما تضيقت كلمة الذين بصلتها .
لماذا المغضوب :
أما السؤال: من هم الذين صدر منهم الغضب على أولئك الناس، فجوابه :
1 - أننا لا نجد ضرورة لاعتبار فاعل الغضب على أولئك المجرمين هو خصوص الذات الإلهية المقدسة، إذ أن كل من له ذرة من الوجدان، والعقل والضمير لا بد أن يغضب على المجرمين والمنحرفين. فليكن غضب كل هؤلاء أيضاً بالإضافة إلى غضبه تعالى مقصوداً في هذه الآية. ولأجل ذلك لم يعين سبحانه فاعل الغضب، بل جاء باسم المفعول: ) المغضوب عليهم(.
والله تعالى يريد منا أن نغضب من الإنحراف وأن نشعر بأننا معنيين بسلامة الحياة الإنسانية، وأن نترجم هذا الشعور غضباً ونفوراً ممن يعبث ويهدد السلامة.
أليس الله وملائكته، والمؤمنون، وكل الشرفاء، والعقلاء، وأصحاب الضمير الحي معنيين بمكافحة من سب الله ورسوله، وسب علياً، وفاطمة، والحسنين ، والأئمة على منابر، وابتزهم حقهم؟!.
ألسنا جميعاً معنيين بمكافحة من احتل أرضنا وعاث فيها فساداً، وأهان وعبث بمقدساتنا، واستحل دماءنا، وأعراضنا، وأموالنا، وأوطاننا؟!.
إذن، فالله قد أبهم فاعل الغضب ولم يصرح به، ليفيد المشمول والعموم لكل من يغضب للحق. وينفر من فعل الباطل.
2 - ثم إنه تعالى قد عبر عن هذا الغضب بصيغة اسم المفعول، ولم يستعمل صيغة الفعل، حيث لم يقل: الذين غضب عليهم. لأن صيغة الفعل تفيد التصرم والزوال، وهو تعالى إنما يريد أن يقرر فعلية الغضب، والدوام والثبات والاستمرار فإن هذا أشد من الزجر، وأدعى للإنزجار.
3 - وإنما عبر بالمغضوب، مشيراً بذلك إلى الغضب من أجل أن يعرفنا الداعي والسبب لسلب النعمة، وهو إجرامهم المقتضي للغضب، ثم للعقوبة والجزاء.
من هم المغضوب عليهم والضالون :
وقد ورد في الروايات ، وذهب إليه عدد من المفسرين : أن المقصود بـ ( المغضوب عليهم ) : اليهود . والمقصود بـ (الضالين ) : النصارى .
والظاهر : أن هذا من باب الانطباق ، حيث إن اليهود والنصارى من مصاديق المغضوب عليهم ، ومن مصاديق الضالين.
والآية عامة صالحة للانطباق عليهم وعلى غيرهم ممن يعمل عملهم .
وفي الآيات القرآنية ما يدل على انطباق (المغضوب عليهم ) على غير اليهود ، وانطباق الضالين على غير النصارى .
فأما بالنسبة لعنوان المغضوب عليهم ، فنقرأ الآيات التالية:
}والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين{[156].
}ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم{[157].
وخاطب سبحانه أهل الكتاب بقوله :
}وباؤا بغضب من الله ، وضربت عليهم المسكنة{[158].
وبالنسبة للضلال ، فقد قال تعالى :
}ومن يكفر بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ،فقد ضل ضلالاً بعيداً{[159].
}ومن ضل فقل : إنما أنا من المنذرين{[160].
}ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً{[161].
وهناك آيات كثيرة أخرى .
فترى : أن الآيات الكريمة إما ناظرة إلى المؤمنين ، كالآية الأخيرة ، وإما ناظرة إلى العصاة والمنحرفين بغض النظر عن الديانة التي ينتمون إليها.
التوضيح والتطبيق :
ولتوضيح ما سبق نقول :
إنه تعالى قد ذكر صفتين ، قد تتوافقان ، وقد تختلفان أي أن النسبة بينهما يكون هي العموم والخصوص من وجه ، كالطير والأسود ، حيث يتوافقان في الغراب ، الذي هو طير وأسود ، وقد لا يكون الأسود طيراً ، بل يكون ثوباً مثلاً . والطير قد يكون حماماً أبيضاً . فكل من الطير والأسود أعم من الآخر ، وأخص منه من وجه .
والمغضوب عليهم والضالون أيضاً كذلك ، فقد يكون الإنسان ضالاً في عقيدته ، وأفكاره . ومجرماً في سلوكه وأفعاله ، وإجرامه يثير الغضب ، فيبادر الغاضب إلى مجازاته . وقد يكون ضالاَ لكنه ليس بمجرم ، فلا يثير غضباً ولا يستحق التأديب والجزاء المناسب . وقد يكون مجرماً ، لكنه ليس بضالِِ .
فهناك إذن صفتان في مقابل المنعم عليهم ، قد توجدان في واحد من الناس أو أكثر . وقد توجد إحداهما في بعض الناس، وتوجد الأخرى في بعض آخر .
ولا بأس بأن نطبق إحدى الصفتين على اليهود والذين اجرموا إجراماً ظاهراً ، فقتلوا الأنبياء ، وأفسدوا في الأرض . فغضب الله عليهم لأجل ذلك .
وعلى النصارى الذين ضلوا وأضلوا الناس . فكان إجرامهم خفياً وذكياً .
مع العلم بأن اليهود أيضاً مصداق للشق الثاني ، فإنهم أيضاً ضالون ومضلون . والنصارى أيضاً حين يقتلون الأبرياء ويشنون حروبهم الصليبية على الحق والدين ، ويناصرون اليهود الغاصبين هم أيضاً مجرمون مغضوب عليهم لإجرامهم ، ولا بد من مجازاتهم على هذا الإجرام . فالآية لا تخص اليهود بوصف المغضوب عليهم ، ولا تخص النصارى بوصف الضالين . بل هي عامة تشمل حتى الملحد، بل والمسلم إذا أجرم ، فاستحق العقاب، وكذا إذا ضل وأضل .
فمن أغضب فاطمة عليها السلام يدخل في المغضوب عليهم لقوله (ص) : من أغضبها فقد أغضبني ، وذلك ظاهر لا يحتاج إلى مزيد بيان.
تناقض يسيء إلى المعنى :والغريب في الأمر هنا : أننا نجد نفس أولئك الذين فسروا الآية باليهود والنصارى قد ناقضوا أنفسهم حين أضافوا إلى ذلك قولهم : إن المغضوب عليهم هم قوم عرفوا الحق ثم عاندوه . وهم الذين وصفهم الله تعالى بأنهم }قوم غضب الله عليهم{[162].
أما الضالون فهم : قوم ما عرفوا الحق ، وقصروا في طلبه، فضلوا . وهم الذين وصفهم الله بأنهم }قد ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيراً ، وضلوا عن سواء السبيل{[163] .
وهذا كلام عجيب ، قد لا يخطر حتى على بال النصارى أنفسهم في صياغة البراءة لأنفسهم ، إذ أنه يعني : أن يكون النصراني معذوراً في ضلاله ، ويكاد يكون هذا تبريراً لانحرافهم ، حيث إن ضلالهم كان نتيجة تقصير ، فلا يرقى إلى درجة الجريمة الفاحشة .
ومعنى ذلك : أنه تعالى قد انتقل من الحديث عن أمر عظيم الخطورة ، قد وصف به اليهود ،وهو كونهم من المغضوب عليهم إلى أمر سهل وبسيط ، وهو ضلال قوم بسبب تقصير منهم. لا بسبب التعمد لغير الحق !!.
ونقول :
إن الحقيقة قد تكون عكس ذلك ، أي قد تكون جريمة النصارى أعظم وأخطر من جريمة اليهود ، إذا عرفنا: أن النصارى أيضاً قد رأوا الحق وأعرضوا عنه ، وعاندوه . ثم قاموا بدور الإضلال للناس بصورة ذكية وخفية .
أما اليهود ، فإنهم قد ضلوا عن الحق ، وهم يعرفون. ثم ارتكبوا الجرائم والموبقات . فهم ضالون ومجرمون . فلا بد من الحذر مرة من ضلالهم الظاهر ، ومن إجرامهم المفضوح ، أما النصارى فلا بد من الحذر منهم ألف مرة ، لأنهم ينساقون وراء أهوائهم ، ويعملون على إضلال الناس بصورة ذكية وماكرة . وقد نجحوا في ذلك ، قال تعالى : }لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيراً ، وضلوا عن سواء السبيل{ وقال : }الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل{[164].
فهم إذن يعرفون الحق ، ولكنهم يتبعون أهواءهم ، ويضلون الناس أيضاً . وليست القضية مجرد ضلال ناشئ عن تقصير ، قد لا يكون له هذا المستوى من الخطورة والقبح .
ولا الضالين :
وإنما قال تعالى : ولا الضالين . بإضافة كلمة ( لا) ولم يقل: والضالين ، أو : وغير الضالين ، لسببين :
الأول : إن كلمة ( لا) صريحة في نفي ما بعدها ، أما كلمة غير فإنما تنفيه بصورة نفي اللازم .
الثاني : إنه تعالى لا يريد أن يكون المجموع المركب من المغضوب عليهم والضالين هو مدخول غير ، ليكونوا فريقاً واحداً مقابل الذين أنعم الله عليهم .
بل يريد أن يستثني الفريقين أي : ( المغضوب عليهم ) و (الضالين ) . لا بشرط . حيث إنه يريد مقابلة الذين أنعم الله عليهم بالمغضوب عليهم تارة ،وبالضالين أخرى ، وبالمجموع المركب منهما ثالثة .
وهذا إنما يتسنى في ظل كلمة (لا)دون كلمة غير التي قد توهم المعنى الآخر.
إمامة أبي بكر في سورة الفاتحة :
ويحاول البعض أن يجعل من قوله تعالى: )صراط الذين أنعمت عليهم( ، دليلاً على إمامة أبي بكر ، لأن المقصود بالذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: }فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ، والشهداء ، والصالحين([165].
باعتبار أن أبا بكر هو رأس الصديقين : وقد أمرنا الله أن نطلب الهداية إلى صراط أبي بكر الصديق .
ونقول :
لنفترض : أن الآية تدل على إمامة الصديقين ، فهل تدل على إمامة الصالحين ، والشهداء أيضاً . .
2-قد ذكرنا في كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص)[166]عدم صحة ما يستندون إليه في تسمية أبي بكر بالصديق ، لتتناقض الروايات في سبب هذه التسمية ، وقلنا هناك : إن الظاهر هو أن هذا اللقب قد أطلق على أبي بكر بعد وفاته . ولهذا لم يستدل به هو ولا أحد من مؤيديه في يوم السقيفة على استحقاقه الخلافة مع حاجتهم الملحة لاستدلالِِ كهذا ، ولا عطر بعد عروس.
3- هناك روايات كثيرة صحيحة السند ، مروية في عشرات المصادر الإسلامية المتنوعة تنص على أن الصديق الأكبر هو علي عليه السلام، سماه بذلك رسول الله (ص) [167].
وروي عن النبي (ص) أيضاً : أنه قال : الصديقون ثلاثة : حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجار ، صاحب آل ياسين . وعلي بن أبي طالب . الثالث أفضلهم . [168]
وقال على عليه السلام على منبر البصرة : أنا الصديق الأكبر . آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر . [169]
وعنه عليه السلام ؛ بسند صحيح على شرط الشيخين : أنا عبد الله ، وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر الخ [170]
وعن النبي (ص) : أنه قال لعلي : أنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الخ .[171].
والروايات في ذلك كثيرة ، فلترجع في مظانها [172]
كلمة أخيرة :
وأخيراً ...
فإننا إلى هنا نكون قد أنهينا الحديث عن بعض اللمحات والإشارات التي وفق الله لاستفادتها من سورة الفاتحة بصورة أو بأخرى . وقد كانت – بحق- فرصة للقيام بسياحة مباركة ورائعة في رحاب هذا القرآن العظيم ، عادت علينا بفوائد وعوائد جليلة وغالية ، أين منها فرائد اللآلى ، والدرر الغوالي .
نقول هذا ، على الرغم من أننا لم نوغل في اللامتناهي من آفاق هذا القرآن ، ولا حاولنا أستكناه ما يطويه في أغوار أعماقه؛ لإدراكنا أننا-ونحن نقف مبهورين على شواطئ بحاره الغامرة – أعجز من أن ننال سوى القطرة أو القطرات ، كما أننا حين نستشرف آفاقه ، فلن نستطيع أن نقتحم رحابها إلا في حدود تهاويم وسبحات ، وسو انح وخطرات .
وحين وضح ضعفنا ، وظهر عجزنا ، وأننا لا نملك أن نجيء إلا ببضاعة مزجاة ، أدركنا بعمق : أن علينا أن نعود للوقوف على أبواب الراسخين في العلم ، وهم أهل بيت العصمة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. نناديهم بصدق . ونناجيهم بوله وصفاء بأننا قد مسنا وجميع محبيهم الضر فليوفوا لنا الكيل ، وليتصدقوا علينا ، فالله يحب المتصدقين .
فإننا – والله – نحن العطاشى إلى النمير الزلال من علمهم ، والمحتاجون إلى الصادق من هديهم ، والوالهون إلى صفيّ محبتهم ومودتهم .
نسأل الله سبحانه أن يؤهلنا لنيل هذا الشرف ، وأن يكرمنا بدرجات الزلفى والقرب ، إنه ولي قدير ، وبالإجابة حري وجدير.
المصادر والمراجع :
* القرآن الكريم .
* الاحتجاج ، للشيخ الطبرسي ، ط سنة 1413 هـ . ق . – قم – إيران .
* إحقاق الحق ( قسم الملحقات ) للسيد شهاب الدين المرعشي النجفي – ط قم – إيران .
* الاستبصار ، للشيخ محمد بن الحسن الطوسي – ط سنة 1376 هـ .ق – النجف الأشرف – العراق .
* إعلام الدين في صفات المؤمنين – للحسن الديلمي – ط سنة 1408 هـ.ق مؤسسة آل البيت .قم – إيران .
* الأمالي للشيخ الصدوق رحمة الله – ط الحيدرية – النجف الأشرف. العراق .
* الأمالي للشيخ محمد بن الحسن الطوسي ط سنة 1401 هـ ق. مؤسسة الوفاء – لبنان .
* بحار الأنوار : للعلامة المجلسي – ط سنة 1403 هـ ق. مؤسسة الوفاء . بيروت – لبنان .
* البرهان في تفسير القرآن – للبحراني – ط آفتاب – طهران- إيران .والمطبعة العلمية سنة 1393 هـ ق. –إيران.
* تاريخ دمشق ( ترجمة الإمام على بن أبي طالب – بتحقيق المحمودي ) ط –بيروت – لبنان .
* التراتيب الإدارية – للكتاني – ط دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان .
* تفسير العسكري – ط سنة 1409 هـ ق . مطبعة مهر – قم – إيران .
* تفسير العياشي – ط المكتبة العلمية الإسلامية – قم – إيران.
* تفسير القمي – لعلي بن إبراهيم بن هاشم .ط سنة 1387 . هـ ق . بيروت .لبنان .
* التفسير الكبير – للرازي – منشورات دار الكتب العلمية – طهران – إيران .
* تهذيب الأحكام – للشيخ محمد بن الحسن الطوسي – ط سنة 1390 – قم – إيران .
* جامع الأخبار والآثار – للأبطحي .
* دعائم الإسلام – للقاضي النعمان – ط سنة 1383 هـ- ق. دار المعارف بمصر .
* سنن ابن ماجة – ط سنة 1373 هـ.ق.
* الصحيح من سيرة النبي الأعظم – جعفر مرتضى العاملي –ط سنة 1415 .هـ ق. دار الهادي –ودار السيرة – بيروت – لبنان.
الصحيفة السجادية – منسوبة للإمام زين العابدين عليه السلام .
* علل الشرائع – للشيخ الصدوق –ط سنة 1385 .هـ.ق. النجف الأشرف – العراق .
* الغدير – للعلامة الأميني – ط سنة 1397 هـ ٌق. دار الكتاب العربي بيروت – لبنان .
* غرائب القرآن – للنيسابوري ( مطبوع بهامش جامع البيان ) سنة 1312-هـ.ق.
* قرب الإسناد – لعبد الله بن جعفر الحميري – إصدار مكتبة نينوى الحديثة – طهران – إيران .
* الكافي – للكليني – ط سنة 1377 هـ.ق. الحيدرية – طهران – إيران .
* كشف الغمة – للإربلي – المطبعة العلمية سنة 1381 هـ.ق. –قم- إيران .
* الكنى والألقاب – للشيخ عباس القمي – ط الحيدرية سنة 1389- هـ.ق. النجف الاشرف – العراق .
* اللهوف في قتلى الطفوف – للسيد ابن طاووس – منشورات مكتبة الداوري – قم – إيران .
* مجمع البيان – للطبرسي –ط سنة 1379 هـ.ق. دار إحياء التراث العربي .بيروت – لبنان .
* مستدرك سفينة البحار – للشيخ علي نمازي الشاهرودي –ط مؤسسة البعثة – طهران – إيران .
* المستدرك على الصحيحين – للحاكم النيسابوري ط سنة 1342 هـ.ق. الهند .
* مستدرك الوسائل – للشيخ حسين النوري –ط مؤسسة آل البيت سنة 1407 هـ.ق. قم- إيران .
* المسند لحمد بن حنبل –ط سنة 1313 هـ.ق. –مصر .ثم نشر دار صادر –بيروت –لبنان .
* معاني الأخبار – للشيخ الصدوق . نشر دار المعرفة – سنة 1399 هـ-ق. بيروت –لبنان .
* مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – لابن أبي الدنيا – مطبوع ضمن مجلة تراثنا ، الصادر عن مؤسسة آل البيت – قم – إيران . سنة 3 عدد 3 .
* مقتل الحسين – للسيد عبد الرزاق المقرم – ط سنة 1372 هـ.ق. مطبعة الآداب – النجف الأشرف .- العراق .
* مناقب آل أبي طالب – لابن شهر آشوب – ط دار الأضواء سنة 1412 هـ.ق.
* نفس المهموم – للشيخ عباس القمي – دار المحجة البيضاء – سنة 1412 هـ.ق. بيروت –لبنان .
* نهج البلاغة ( جمع الشريف الرضي) بشرح عبده – ط الاستقامة.
* نور الثقلين – لابن جمعة الحويزي – مطبعة الحكمة – قم – إيران.
* وسائل الشيعة – ط مؤسسة آل البيت سنة 1412 هـ.ق. قم- إيران .
* ينايبع المودة – للقندوزي الحنفي –ط سنة 1301 هـ.ق. إسلامبول –تركيا .
* الكشاف – للزمخشري – نشر دار المعرفة – بيروت – لبنان.
[1] راجع: بحار الانوار: ج89 ص103 و20 وج75 ص278 عن كتاب الاربعين، وعن الدرة الباهرة وأعلام الدين ص303 وجامع الاخبار والآثار للأبطحي ج1 ص451 عنه وعن نزهة الناظر ص110 وعن كتاب الأربعين في قضاء حقوق أمير المؤمنين وراجع: جامع الاخبارص48/49.
[2] سورة الأنعام آية 164. الاسراء ، آية 15. فاطر آية 18. الزمر آية 7.
[3] الاحتجاج ج2 ص 138 ط سنة 1413 هـ. وتفسير الامام العسكري ص 270 والبحار ج45 ص296.
[4] الكافي ج2 ص 631 وتفسير العياشي ج1 ص 10 ونور الثقلين ج3 ص198 وتفسير البرهان ج4 ص84 وج1ص 22 وتفسير القمي ج1 ص16 والبحار ج89 ص 382 وج9 ص 222 وج17 ص83.
[5] سورة الأنبياء: الآية 98.
[6] راجع: الكنى والالقاب ج1 ص294.
[7] راجع: تفسير العياشي ج1 ص299 وتفسير البرهان ج1 ص453و451 ودعائم الاسلام ج1 ص109 ومستدرك الوسائل ج1 ص314و316 والوسائل ط مؤسسة آل البيت ج1 ص413 وج3 ص364 والاستبصار ج1 ص 63 وتهذيب الأحكام ج1 ص61 والكافي ج3 ص30 وعلل الشرائع ج1 ص279.
[8] سورة المائدة الآية 6.
[9] الصحيفة السجادية، الدعاء عند ختم القرآن ص136.
[10] بحار الأنوار ج90 ص3و4 ووسائل الشيعة ج27 ص200و201 وجامع الاخبار والآثار للأبطحي ج1 ص531/532.
[11] التراتيب الادارية ج2 ص183 وبحار الانوار ج 89 ص103و93 عن اسرار الصلاة، ومناقب آل أبي طالب ج2 ص 53 وتفسير البرهان ج1 ص3 وينابيع المودة ص65 وجامع الاخبار والآثار للأبطحي ج2 ص48 واحقاق الحق (الملحقات) ج7 ص594 كلاهما عن: اسرار الصلاة ص138 وعن شرح ديوان أمير المؤمنين ص15 مخطوط. وشرح عين العلم وزين الحلم ص91 والروض الازهر ص33 وجالية الكدر ص40 وتاريخ آل محمد ص 150.
[12]احقاق الحق (الملحقات) ج7 ص595 عن ابن طلحة في مطالب السؤل ص 26. وراجع: كشف الغمة ج1 ص130 والتفسير الكبير للرازي ج1 ص106 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص231 و316.
[13]بحار الانوار ج40 ص186 عن مشارق أنوار اليقين
[14] مستدرك سفينة البحار: ج1 ص231 واحقاق الحق: ج7 ص595 عن الشعراني في لطائف المنن ج1 ص171. وراجع: جامع الاخبار والآثارللأبطحي ج2 ص48.
[15] مستدرك سفينة البحار ج1 ص231.
[16] سورة الحجر آية 87 .
[17] تفسير البرهان ج1 ص 40 و41 و42 وغرائب القرآن (بهامش جامع البيان) ج1 ص28 وتفسير العياشي ج1 ص21.
[18] راجع: البحار ج82 ص21 وج89 ص238 عن العياشي ج1 ص22 و21 ومجمع البيان ج1 ص19. وتفسير البرهان ج1 ص42 والتفسير الكبير ج1 ص204 ومستدرك الوسائل ج4 ص166 و167 وجامع الاخبار والآثار ج2 ص62 و61 و63 عن من تقدم وعن مواهب الرحمان ص21.
[19] التفسير الكبير ج1 ص5 والتراتيب الادارية ج2 ص183 عنه.
[20] التراتيب الادارية ج2 ص183.
[21] المصدر السابق.
[22] التراتيب الاداريةج2 ص184.
[23] التفسير المنسوب للعسكري(ع) ص 25 والبحار ج 89 ص 242 وج 73 ص 305 وتفسير البرهان ج1 ص 46.
[24] التفسير الكبير للرازي ج 1 ص 213 وجامع الأخبار والآثار ج2 ص 66 عنه.
[25] مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 359.
[26] تفسير الميزان ج 1 تفسير البسملة.
[27] راجع: البرهان في تفسير القرآن ج 1 ص 45 - 46 وتفسير الإمام العسكري (ع) ص 22 والبحار ج 89 ص 240.
[28] سورة الرحمن الآيتان 26 و 27.
[29] سورة البقرة آية 115.
[30] سورة النحل الآية 96.
[31] سورة الفرقان آية 23.
[32] سورة النور آية 39.
[33] سورة العلق الآية 1.
[34] سورة الواقعة الآية 74.
[35] سورة الأعراف الآية 180.
[36] راجع البحار ج 2 ص 259.
[37] سورة الأعراف الآية 180.
[38] راجع : البحار ج 3 ص 259 فما بعدها .
[39] امالي الشيخ الطوسي ص 523 ط سنة 1401 هـ مؤسسة الوفاء – بيروت .
[40] سورة مريم الآية 85 .
[41] سورة الفرقان الآية 26 .
[42] سورة النساء الآية 29
[43] التبيان ج 1 ص 28 و29 والكشاف ج 1 ص 41 .
[44] لسان العرب ج 10 ص 449 .
[45] مجمع البيان ج 1 ص 20 ط دار احياء التراث العربي سنة 1379 هـ ولسان العرب ج 12 ص 231 .
[46] لسان العرب ج 12 ص 230 و213 وراجع كلمة : كريم في ص 510 و511 .
[47] سورة الإسراء ، الآية 110 .
[48] سورة القصص ، الآية 70 .
[49] سورة يونس ، الآية 10 .
[50] سورة فاطر ، الآية 1 .
[51] سورة الأعراف ، الآية 43 .
[52] سورة النمل ، الآية 15 .
[53] سورة الكهف ، الآية 1 .
[54] سورة المؤمنون ، الآية 28 .
[55] سورة فاطر الآية 34.
[56] سورة الإنعام ، الآية 1.
[57] سورة الإسراء ، الآية 111 .
[58] سورة العنكبوت ، الآية 64 .
[59] سورة لقمان ، الآية 14 .
[60] سورة سبأ ، الآية 13 .
[61] سورة القصص ، الآيات 71 و72 و73 .
[62] سورة النصر الآية 3 .وسورة الحجر الآية 98.
[63] حتى في مثل الطبيب الذي يشفيك بقدرة الله ، والكريم والهادي الذي يعطيك ويهديك مما أنعم الله به عليه ، وبهداية الله وتوفيقه ، وإذنه وإرادته .
[64] سورة القصص ، الآية 70 .
[65] سورة النصر ، الآية 3 .
[66] سورة الإسراء ، الآية 44 .
[67] سورة الإسراء ، الآية 44 .
[68] سورة التغابن ، الآية 1 .
[69] سورة الأحزاب الآية72.
[70] سورة النحل ، الآية 49 . وسورة الرحمان ، الآية 6 .
[71] سورة ص الآية 66 . وسورة الصافات الآية 5 .
[72] سورة المزمل ، الآية 9 .
[73] سورة المؤمنون ، الآية 86 .
[74] سورة الحج ، الآية 18 .
[75] سورة آل عمران ، الآية 42 .
[76] سورة البقرة ، الآية 47 .
[77] سورة العنكبوت ، الآية 10 .
[78] سورة آل عمران ، الآية 33 .
[79] سورة آل عمران ، الآية 108 .
[80] سورة الأنعام ، الآية 90 .
[81] سورة الحجر ، الآية 70 .
[82] سورة الأنبياء ، الآية 91 .
[83] سورة المائدة ، الآية 20 .
[84] سورة المائدة ، الآية 115 .
[85] سورة الشعراء ، الآية 23 .
[86] سورة الجاثية ، الآية 36 .
[87] سورة الشعراء ، الآية 26. والصافات 126 .
[88] الآيات القرآنية المتضمنة لهذه العبارة كثيرة جداً .
[89] سورة الأنعام ، الآية 164 .
[90] وقد تجلت سلبيات هذا الشعور حين تحول إلى انحراف فكري خطير جداً حين قالت بعض الفرق : إن الله قد كتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، ولم يعد قادراً على أي عمل ، ولا يستطيع التدخل لتغيير أي شيء بل هو محكوم بقدره مغلول اليد، كما قالت اليهود : (يد الله مغلولة ، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) . فهو تعالى قد أوجد الخلق وانتهى دوره ، وبطل تأثيره . فلم تعد النظرة إليه من المخلوقين - على أساس هذه النظرة المنحرفة - من موقع الحاجة . ولم يعد لصفاته تأثير . فتعطلت وانتهت وبطل مفعولها . ولم يعد الكريم ، والرحيم ، والعطوف ، ووالخ .
[91] سورة العنكبوت ، الآية 61 . وراجع: سورة لقمان ، الآية 25 . وسورة الزمر ، الآية 38 . وسورة الزخرف ، الآيات 9 و87.
[92] سورة العنكبوت ، الآية 63 .
[93] سورة الزمر ، الآية 3 .
[94] سورة المؤمنون ، الآية 37 .
[95] سورة يس ، الآية 79و 78.
[96] سورة الأحقاف ، الآية 33 .
[97] سورة يس ، الآية 12 .
[98] سورة القيامة ، الآيات 1_7 .
[99] سورة المائدة ، الآية 82 .
[100] سورة البقرة ، الآية 96 .
[101] سورة الحشر ، الآية 14 .
[102] سورة غافر ، الآية 16 .
[103] سورة آل عمران ، الآية 26 .
[104] سورة الانفطار ، الآية 19 .
[105] سورة يونس ، الآية 31 .
[106] سورة الزلزال ، الآيتان 7و8 .
[107] سورة الرحمن ، الآية 60 .
[108] سورة المعارج ، الآية 4 .
[109] سورة الحج ، الآية 47 .
[110] مع أن عدد أفراد الجماعة ليس عملاً ، وليس من اختيار نفس المصلي .
[111] سورة الانشقاق الآية 6 .
[112] سورة الذاريات ، الآية 56 .
[113] سورة البينة ، الآية 5 .
[114] سورة العنكبوت ، الآية 64 .
[115] سورة البينة ، الآية 5 .
[116] سورة المائدة ، الآية 2 .
[117] سورة البقرة ، الآية 45 .
[118] سورة البقرة ، الآية 153 .
[119] سورة الكهف ، الآية 95 .
[120] سورة الرعد الآية 28 .
[121] راجع البحار ، ج92 ص 155 وقرب الإسناد ، ص5.
[122] نهج البلاغة ج 3 ص 185 ( بشرح عبده )الحكمة رقم 145 ، والبحار ج 93 ص 294 وراجع ص 293 .
[123] نهج البلاغة ( بشرح عبده ) مطبعة الاستقامة بمصر ج 3 ص 205 الحكمة رقم 237 .
[124] مستدرك سفينة البحار ج 7 ص 55 .
[125] البحار ج 68 ص 181 . ومعاني الأخبار ص 198 . وأمالي الصدوق ص 352 . وأمالي الشيخ الطوسي ص 447 ط سنة 1401 هـ.ق . وأعلام الدين ص 303 .
[126] تفسير البرهان ج 1 ص 17 .
[127] سورة المطففين ، الآية 14 .
[128] سورة الصف ، الآية 5 .
[129] سورة محمد ، الآية 17.
[130] سورة البقرة ، الآية 2 .
[131] هذا إذا أريد بالتوفيق الإلهي ، الوحي . أما لو الأعم منه ، فلا يختص التوفيق بالأنبياء حسبما أوضحناه .
[132] سورة الأنعام الآية 153 .
[133] سورة سبأ ، الآية 6 . وسورة إبراهيم ، الآية 1 .
[134] سورة الأنعام ، الآية 126 .
[135] سورة الأنعام ، الآية 153 .
[136] سورة الشورى ، الآية 53 .
[137] سورة الأنعام ، الآية 161 .
[138] نهج البلاغة – بشرح عبده – الخطبة رقم 26 ج 1 ص 66 .
[139] سورة النساء ، الآية 69 .
[140] سورة الفجر ، الآيتان 28 و29 .
[141] سورة الرعد ، الآية 28 .
[142] نفس المهموم ص 206 ط سنة 1412 هـ دار المحجة البيضاء . واللهوف ص 39 . ومقتل الحسين للمقرم ص 256 عن الإرشاد للمفيد وعن تاريخ الطبري ج 6 ص 239 .
[143] نهج البلاغة – بشرح عبده – ج 1 ص 41 ط دار المعرفة – بيروت .
[144] ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق (بتحقيق المحمودي) ج 3 ص 303 . ومقتل أمير المؤمنين عليه السلام لابن أبي الدنيا مطبوع في مجلة تراثنا سنة 3 عدد 3 صفحة 96 . وينابيع المودة ص 65 .
[145] نفس المهموم ص 371 . واللهوف ص 67 .
[146] نفس المهموم ص 208 . عن اللهوف ص 82 و83 .
[147] سورة النساء ، الآية 69 .
[148] سورة النحل ، الآية 123.
[149] سورة الحج ، الآية 78 .
[150] سورة البقرة ، الآية 211 .
[151] سورة البقرة ، الآية 40 .
[152] سورة النحل ، الآية 83 .
[153] سورة النحل ، الآية 72 .
[154] سورة النحل ، الآية 71 .
[155] سورة إبراهيم ، الآية 28 .
[156] سورة النور الآية 9.
[157] سورة المجادلة الآية 14 .
[158] سورة آل عمران الآية 112 .
[159] سورة النساء الآية 136 .
[160] سورة النمل الآية 92 .
[161] سورة الأحزاب الآية 36 .
[162] سورة المجادلة . الآية 14.
[163] سورة المائدة الآية 77.
[164] سورة الأعراف . الآية 157 .
[165] سورة النساء . الآية69
[166] الصحيح من سيرة النبي ج 4 ص 44 – 52
[167] راجع : الغدير . ج 2 ص 313 و 314 عن شمس الأخبار للقرشي .
[168] راجع مصادر هذا الحديث في الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 4 ص 46 /47 .
[169] راجع مصادر هذا الحديث في الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 4 ص 47 /48 .
[170] راجع : الصحيح من سيرة النبي الأعظم . ج 4 ص 45 /46 .
[171] الصحيح من سيرة النبي (ص) .ج 4 ص 48 .
[172] الصحيح من سيرة النبي (ص) .ج4 ص 45 – 49 .