لا تقتصر مضامين أغنية العيد في اليمن على الاحتفاء بالعيد وتفاصيله وإنما تشمل الإحالة على العادات والتقاليد الاجتماعية التي تتواءم مع خصوصية العيد وتمتد إلى استيعاب الواقع بإشكالاته المختلفة ومن ثم تتجاوزه إلى أجواء العيد وما يليق به من صناعة الفرحة والسعادة.
وبحسب إشارة الدكتور "إبراهيم أبو طالب" إلى تلك الليلة فقد ناقش فيها ثلاثتُهم (الفنان والشاعر والمذيع) حاجة الجمهور اليمني إلى أغنية خاصة بالعيد فكتب الشاعر "المطاع" كلمات الأغنية وقام الفنان "الآنسي" بتلحينها في الليلة نفسها ثم تم بثُّها من إذاعة صنعاء صباح اليوم التالي الذي كان صباحَ يوم عيد.
بعدها اعْتُمدت هذه الأغنية في التلفزيون والإذاعات الرسمية التي داومت على بثها كل عيد حتى رسخت في الذهنية الجمعية واستمرتْ طقساً عيديّاً رئيساً وأيقونةً فنية تبثُّها وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية ويتردد صوتُها احتفاءً بالعيد في المنازل ووسائل النقل والهواتف المحمولة ولقاءات التهاني العيدية.
ولهذه الرمزية العيدية التي وصلت إليها هذه الأغنية في الذائقة الاجتماعية فقد أعاد كثير من الفنانين والمنشدين غناءها كالفنان "فؤاد الكبسي" و"حسين محب" و"فؤاد عبد الواحد" و"عمر ياسين" وعدد من الفرق الفنية. وعلى ذلك فقد ظلّت أكثر تجليّاً في أدائها الأول بصوت الفنان "علي الآنسي".
تقوم أغنية "الآنسي" على خطابٍ موجّهٍ إلى الفرد مع ضِمْنِيّةِ الغاية الجَمْعيَّة الشاملة إذ تبدأ بالحثّ على التأمُّل في توالي الأيّام والسخرية منها والتعالي على ما تحْمِلُه من معاناة وهموم وانتهاز العيد في اجتراح فرحته وسعادة أيّامه:
ثم تنطلق إلى تفاصيل العيد وما ينبغي أن تسير عليه العلاقة بين أفراد المجتمع من التزاور بين الأهل والأصدقاء والتسامح بين المتخاصمين:
وإلى ذلك تتعدد العادات والتقاليد والقيم العيدية والاجتماعية التي تحيل عليها مضامين الأغنية كإحياء عدد من الممارسات الإيجابية وتمثُّل مشاعر السعادة والمحافظة على بشاشة اللقاء والألفة بين الناس وبثّ روح المحبة والسلام والدعوة إلى الأخلاق الكريمة كصلة الأرحام والعطف على المحتاجين.
تحظى هذه الأغنية بمكانةٍ خاصة لدى اليمنيين فهي على مستوى عالٍ من الشيوع والانتشار والحضور المتجدد في مناسبة العيد. وتقف وراء ذلك عددٌ من الخصائص الموضوعية التي اتسمت بها وفي مقدمتها ملامسة المعاني الإنسانية والروحانية ذات العلاقة الجوهرية بالمناسبة من خلال تفاصيل الحياة اليمنية والتعبير عن يوميات الناس وما يعيشونه من معاناةٍ وهمٍّ وكآبة. وتأسيساً على هذه التفاصيل تأتي غايتها المتمثّلة في الحث على تجاوز صور المعاناة المختلفة وتأجيلها والاستئناس بنقيضها من ألوان السعادة والفرحة.
وفي سياق ذلك تأتي خصائصها الفنية كاعتمادها اللهجة الصنعانية البسيطة الواضحة واختيار مقامها الموسيقي "البيات" المتصل بالغناء التقليدي بما هو عليه من بساطةٍ في إيقاع اللحن المستمد من تراث الغناء الصنعاني. وهي ترتبط بعيدي "الفطر" و"الأضحى".
يقوم الاحتفاء في أغنية العيد اليمنية على التنوع بين الفرحة الخالصة والفرحة الموحية بارتباطٍ واقعي وثيق والفرحة ذات الامتداد الوطني العام. ومثلها اجتمعت بنسبٍ متفاوتة في أغنيات العيد الأخرى التي تمايزت فيما بينها. في أغنيته "عيدك مبارك" أقام الفنان "محمد الحرازي" بُنيتها اللحنية على إيقاعٍ متنوعٍ بين الحزن والفرحة كما تدرج مضمونها من الفرحة والسعادة الذاتية إلى الفرحة العامة في سياقها الشعبي وحيِّزها الوطني الذي تغنّت بسعادته وعزّته.
كما يقوم الاحتفاء بالعيد في أغنية "اليوم عيد الهنا" للفنان "محمد عبده زيدي" على تعزيز قِيَم التزاور بين الأقارب والأصدقاء. والأمر ذاته في أغنية "يا عيد الأنس حيا بك" التي اشترك في أدائها الفنان "حمود السمة" والفنانة "ماريا قحطان".
وفي أغنية الموسيقار أحمد فتحي "يا فرحة العيد" التي كتب كلماتها الشاعر والإعلامي "محمود الحاج" تتجلّى الصيغة اللحنية بالأغاريد. كما تتكاثف فيها الدلالة على الفرد وسعادته.
وارتبط الاحتفاء بالعيد في أغنية "الله أكبر" للفنان "أحمد بن أحمد قاسم" بالبُعد الروحي من خلال المعنى الديني الذي تضمّنَتْه جملة العنوان التي تكررت في الأغنية. كما تتجلّى فيها قيمة التصالح والتسامح بين المتخاصمين.
وانتشر "زامل العيد" في سياق الطفرة الفنية الحديثة التي حظي بها هذا الفن الشعبي واستوعب من خلالها مستجدات الصراع السياسي والحرب الدائرة في اليمن فكان لهذه المستجدات بعضُ تجليّاتها في زامل "عيدك مبارك يا شعب اليمن عيد" إذ ارتبط العيد فيه بمعاني النصر والتحرير.
كما انتشر في السنوات الأخيرة عدد من أغاني العيد في اليمن التي يغلب عليها الطابع الشبابي ويؤديها فنانون صاعدون وتتميز بحداثتها التي تقوم على توظيف عنصر الصورة والمشاهد العيدية والاستفادة من التقنيات الحديثة في عمليات الإنتاج الغنائي وإخراجه.
ويتضح أن التحوير المُتّسق مع متغيرات الواقع وأحداث اللحظة الصحية ومثلها المأساة الغزاوية لم يستهدف سوى أغنية "آنستنا يا عيد" وذلك بما هي عليه من شهرة وذيوعٍ وترديدٍ يطّردُ طيلة أيام كل عيد في اليمن.
حينما لا يكون من الممكن مهادنة الذات لبؤس واقعها وليس في مستطاعها اصطناع الفرحة فإن أغنية العيد تتخلى عن التصالح مع الواقع إلى إفصاحها عن مرارة الحقيقة. من ذلك أغنية "العيد وصل" للفنان "أيوب طارش العبسي":
فقد جسّدت معاني هذه الأغنية ما يتعلق بمرارة العيد في الذات المسحوقة بتداعيات الغربة سواءٌ في مفهوم الغربة العام المتعلق بالهجرة خارج الوطن أو في مفهوم الغربة الخاص الذي يحيل على الفراق والبعد بين الأحبة.
يطلّ العيد مصحوباً بأغانٍ تحتفل به كما لو أنها وشم من الذاكرة يصبح حاضراً. وأحياناً تستأثر أغنية بكل شيء إذ تتوارثها الأجيال لتكون الأغنية الرسمية للعيد. وفي اليمن لم تتوقف إصدارات أغاني العيد سنة بعد أخرى بينما لا تزال أغنية الفنان علي الآنسي "آنستنا يا عيد" على مقام البيات هي الأغنية الرسمية لعيد اليمنيين.
ترتبط أغنية الآنسي بوصايا للعيد أهمها بكونه مناسبة للضحك على الأيام من أجل الفرح. بمعنى أنه مناسبة لطي الأوهام والأحزان والخصومات. وفي نفس الوقت هو فرصة لتبادل الفرح من دون نسيان المحتاجين بعيدية تبسط عليهم كفاً من السعادة.
وبين الماضي والحاضر شهدت أغنية العيد اليمنية بعض المتغيرات. وفي السنوات الأخيرة فرض الواقع نفسه بمرارته ليترك على مناسبة العيد غصة بالنسبة لكثير من اليمنيين. لكنها كمناسبة أيضاً تبقى فرصة للتخفيف من آلام الحرب والخراب والظروف الاقتصادية القاسية يعاني كثير من اليمنيين لاجتياز عقبتها وإن كان بأدنى المتطلبات والاحتياجات. وفقاً لذلك تغيرت ملامح الأغنية من الواقعية إلى اجتزاء العيد كفرحة متصلة بعادات محددة أو تضمينها تعابير يومية. فأغنية الآنسي لم تغفل استحضار مشهد اجتماعي واسع للعيد حتى وإن كان ذلك على شكل وصايا لتتضمن صوراً اجتماعية على صلة بعادات وقيم اليمنيين وتجسدها مع الابتعاد عن المنغصات التي تفسد هذه الأجواء.
03c5feb9e7