أين البلسم

0 views
Skip to first unread message

ابو مصعب nmnmy

unread,
Jun 12, 2011, 7:27:46 AM6/12/11
to Nmry120+gar...@googlegroups.com

لا … إنني لا أراه ، لا أعرفه ، لا أحس به فمن الطبيعي أنني لا أستطيع
وصفه … لا أسمعه ، لا أفهمه ، لا أدرك كنهه ولا أعرف مصدره ، فكيف أفرح
به ؟ … حواسي تعطلت ، أحاسيسي تناثرت ، جوارحي تحجرت، كلماتي ماتت …
وآهاتي تدفقت … باختصار يا حضرة الدكتور : أنا ميتة !! … قتلت منذ زمن
ولم ينعني أحد !! … أنا التي نعيت نفسي إلى نفسي ، وكل الذين يعرفونني هم
الذين يمشون في جنازتي التي تشيع يوميا !! …
بدا كلام السيدة ( ساهرة ) غريبا على مسامع الدكتور ( سامي ) الذي بدا
مهتما بكلام محدثته رغم ما فيه من غرابة ، لكنه لا يستطيع أن يتجاهل
قسمات وجهها الصادقة ونظراتها المفعمة بالحزن الدفين … فسألها :

منذ متى وأنت على هذه الحالة ؟ ..
لا أعرف زمنا بالضبط ، كل الذي أعرفه تماما أنني لم أحس بجمال الحياة
لحظة واحدة ، الشيء الوحيد الذي أفهمه أن الحياة لا تستحق أن تعاش !! ..
هز الدكتور رأسه ونظر إلى ورقة المريضة ، وتساءل :

منذ متى داهمك هذا الإحساس ؟! ..
منذ خمسة وثلاثين عاما … وربما قبل ذلك أيضا !! .
رفع الدكتور رأسه وقال :

قلت أنك متزوجة منذ عشرة أعوام ولديك أطفال ؟ ..
نعم ..
ولم تعرفي الفرحة أو البهجة أبدا ولا حتى يوم زفافك ؟.. فأجابت بحزن :
ربما زارتني ومضة من الفرح سرعان ما تلاشت …!!
اعتدل الدكتور في جلسته وقال :

هل ازدادت تعاستك بعد زواجك ؟ .. فأجابت بثقة :
كلا.. إن زوجي إنسان عظيم ، يحاول إسعادي قدر المستطاع ، أنا التي قلبت
حياته إلى جحيم كما يبدو ، واسترسلت بقولها :
أنا التي أقترح أماكن زياراتنا ، وما إن أدخل وأسلم على الناس حتى أنادي
عليه ، وأطلب منه الخروج الفوري ، وأنا التي أطلب منه أن يدعو أصدقاءنا
لزيارتنا ، وما إن يدخلوا حتى أتبرم في وجوههم ، وأبدأ بالشكوى والأنين ،
وعندما يقترح علي الذهاب مع صديقاتي … أفرح لذلك وأعود إليه بعد قليل …
وعندما يقترح علي زيارة أهله أسارع بذلك ثم أخرج من بيتهم مسرعة ..!!
تابع الدكتور سامي حديثها ، وأحس أن هناك فجوة ما ، فهي لم تتحدث عن
أهلها حتى الآن ، فسألها :

وهل تزورين أهلك ؟ … أشاحت بوجهها وقالت :
أنا ليس لي أهل … أقصد ليس لي " أم " .
ابتسم الدكتور سامي ابتسامة خفيفة … يبدو أنه بدأ يضع إصبعه على الجرح ،
فسألها :

حدثيني عن أهلك ؟ ..
لا أعرف عنهم شيئا …
أهم بعيدون عنك ؟ … فقالت بيأس قاتل :
لا ، إنهم يشاركوننا بلدنا وحتى شارعنا .
تساءل بدهشة : ومتى رأيتهم آخر مرة ؟

فأجابت وكأنها تحاول صرف أمر مزعج : لا أذكر !! …

فقال لنفسه : أما الآن فقد وجدتها !! … والتفت إليها وسألها :

هل من الممكن أن تحدثينني عن طفولتك ؟
بدت وكأنها خائفة … مضطربة … وجلة … شحب وجهها وضاقت أنفاسها ، وارتجفت
أطرافها وقالت :

لا … لا أرجوك ، أنا لا أستطيع ، أرجو إعفائي …إني أخاف ، أخشى أن …
فنظر إليها نظرة إشفاق وقال لها :

اطمئني ، فلن يعلم أحد بذلك …
هدأ روعها قليلا وبدأت حديثها بعد تردد :

كنت في الثالثة من عمري عندما ماتت أمي رحمة الله عليها ، أذكر وجهها
الجميل وصوتها الرخيم الحنون ، إنها لا تغيب عني ، تركتني طفلة وحيدة في
بيت كبير ومع أب غارق حتى أذنيه في أمور دنياه ، أذكر أن جدتي لأمي
احتضنتني فترة ، غبت فيها عن بيتي وألعابي وأدواتي وذكريات أمي ، وغاب
وجه أبي عني ، كانت جدتي تغمرني بالعطف والهدايا ، حتى إذا بلغت السادسة
من عمري مرضت جدتي وأرسلت إلى والدي كي تستشيره في أمري ، فاقترح بأن
يأخذني لكي أعيش معه في بيته الجديد ومع زوجته الجديدة ، وكانت الصدمة
الثانية القاسية في حياتي، فقد حزنت على جدتي أضعاف حزني على أمي وكيف لا
وقد عوضتني الكثير مما افتقدته ..
أخذني والدي وأمسك بيدي ، شعرت منذ الوهلة الأولى بخشونة يده وقسوتها ،
ووضعني في سيارته الفارهة وانطلق بي …

أدخلني بيته ، كان كل ما في البيت غريبا علي ، أشار إلى سيدة مدللة تجلس
في الركن وتشاهد الشاشة وقال : هذه أمك يا " ساهرة " ، فابتسمت تلك
السيدة ابتسامة صفراء ، وهزت رأسها مع خصلات شعرها ولم تغير جلستها وقالت
ببرود : أهلا أهلا … أنت " ساهرة " إذن … أصبحت صبية يمكن الاعتماد
عليها ..

رأيت صغارا من حولي ، منهم من يركلني ومنهم من كان يضحك معي أو علي لا
أدري … مشيت في البيت خطوات متثاقلة … شعرت أن العيون علي معقودة ،
والأنفاس علي معدودة …

جلست بجوار والدي تائهة النظرات ، لا أدري ما بي … حاولت أن أمسك يده
فقالت السيدة بصوت حازم :

اسمعي يا ( ساهرة ) ، أنا لا أحب الدلع … اجلسي مؤدبة ، مفهوم ؟!!
وقفت وأردت التحرك ، فقالت :

اسمعي يا بنت .. لا بد أن تعرفي التعليمات ، انظري لهذا البيت كم هو مرتب
ونظيف وأنيق وجميل ، وأنا لا أحب الفوضى التي يحدثها أمثالك من الصغار …
وأردفت :
اسمعي أنا لا أحب أن أراك في كل المواقع في هذا البيت … افهمي منذ الآن
أن هذا طريقك لتلك الغرفة التي ستكون غرفتك … بجوارها حمام يمكنك
استعماله ، وهذا الطريق الذي يؤدي إلى المطبخ … طبعا يمكنك أن تدخلي
المطبخ وقت استدعائك ، مفهوم ؟!! .
نظرت إلى والدي فتجاهل نظراتي ، وأشاح بوجهه عني ، وقال بصوت هادئ :
ادخلي غرفتك يا حبيبتي واستريحي ..

مشيت بخطوات متثاقلة ، وبدأت أشعر برغبة جارفة في البكاء … لكني كتمت
دموعي وأنفاسي وفتحت باب غرفتي وجلست فيها …

يا الله … صحيح أن الغرفة جميلة وكل ما فيها أنيق ومرتب ، لكني أشعر أنها
غريبة عني … وأنا عنها أشد غرابة ، وقفت ونظرت من النافذة فرأيت سيدة
البيت … تقطف ورودا جميلة … تمنيت لو أكون بجوارها لأقطف وردة أو أنعم
بعبيرها ، تحلق الصبية حولها ونادوني … رفعت رأسها ونظرت إلي نظرات قاسية
… انتحرت ابتسامتي فورا … قالت : أغلقي الشباك واجلسي في غرفتك مؤدبة ولا
تحاولي التجسس على الآخرين … وتمتمت : يا الله يبدو أنها فتاة متعبة …

بوجوه من القسوة لا أنساها استقبلتني زوجة أبي ، فزرعت بذورا من الحزن
والأسى واللوعة والحرمان في سويداء قلبي … وهكذا فقد تقلبت بين أنواع من
الحرمان والأسى وتجرعت كؤوس المرارة والعلقم على مر الأيام …

قال الدكتور بدهشة : … وماذا كان موقف والدك ؟ أجابت :

والدي كان يحاول الدفاع عني أحيانا ، لكنه كان لا يصمد كثيرا أمام
شكاويها وألاعيبها وكيدها لي … بل كانت تحول بيني وبين الكلام مع والدي
مباشرة ، وكان هو يكتفي بنشرة الأخبار التي تبثها له كل يوم …

نظر الدكتور نظرات بعيدة وقال :

قد أجد بعض المبررات لنظرتك السوداوية البائسة لهذه الحياة ، لكن لم أدرك
حتى الآن لماذا كل هذا الحزن والتشاؤم وهذه الكآبة القاتلة ؟ …
عشرون عاما عشتها بين أهلي الغرباء .. عشرون عاما يا حضرة الدكتور عشتها
على رصيف الحياة لكن وسط بيت وعائلة …
كانت السيدة ربة البيت تسهر من أجل إطفاء بريق سعادة قد يلوح بها الدهر
لي ، كان حزنها يتصاعد وصوتها يعلو عندما تبصر على وجهي شبه ابتسامة …
كان ذهنها متوقدا بالأوامر السريعة التي تقطع علي فرحي وابتسامتي وتفكيري
وتعليمي ، لقد أصرت أن تقلب كل ضحكة أضحكها إلى دموع منهمرة … وكل فكرة
حلوة إلى فكرة مدمرة ، أنا يا حضرة الدكتور لم أعرف سوى قبح الحياة
وضياعها وتشوهها وترهلها … لقد حاولت الـ..

وصمتت ومسحت دموعا انحدرت على وجنتيها … ثم أكملت : أنا أكره الحياة أريد
أن تنتهي وبأقصى سرعة !! ابتسم الدكتور ابتسامة هادئة وقال : ربما تكون
الحياة لا تستحق أن تعاش كما تشعرين … ولكن ألا تتمنين العيش من أجل
صغارك ؟ ما ذنب هؤلاء الصغار ؟ أترغبين أن تغرسي في قلوبهم ما غرس في
قلبك ؟! .

يؤسفني أن أقول لك يا دكتور … بأنني أشعر بأن الأمومة شرف لا يستحقه
أمثالي … يبدو لي أني لست إنسانة كما تظنون .. ربما تغيرت فصيلة دمي …
وتبدلت خلايا جسدي ، أجل أنا لست إنسانة ولا أستطيع أن أتصرف تصرفات
إنسانية حتى مع صغاري وزوجي …
أنا جسد حي وروح ميتة قتلت ولم يعاقب القانون قاتلها ، أنا من يصدق علي
وصف الشاعر القائل :

وقـــاتل النــفــس مأخوذ بفــعلــته

وقـــاتل الــروح لا يــدري به أحـــد

دكتور … أرجوك هل تستطيع مساعدتي ؟ هل أجد عندك بلسما ؟ ..

فأجابها الدكتور بثقة : إن كآبتك شديدة و مزمنة ، ويؤسفني أن أخبرك بأن
بلسمك ليس عندي ولن تجديه إلا في عالم المعاني الرفيعة وفي ظل كتاب
الله ، أنصحك بالتعرف على أخوات صادقات مؤمنات ، فهن الوحيدات القادرات
على إروائك بينابيع خير دفاق تغسل ما في قلبك من ران وأدران … عندها
سيتدفق الخير في دمك ويفيض على يديك ، فيروي صغارك ومجتمعك بل والإنسانية
أجمــع ..

أم حسان الحلو


أعلى الصفحة

Reply all
Reply to author
Forward
0 new messages