صحيح أنه ليس هناك شيئ أحب إلى المرء من العيش في وطنه وبين أهله ومجتمعه الذي يعرفه ويقدره ولكن هناك بلدان أو دول قد تخرج عن هذه القاعدة وحسب اعتقادي فإن موريتانيا بوضعها الحالي تحتل رتبة متقدمة بين تلك الدول بجدارة.
الدولة الموريتانية أو ما يطلق عليه مجازا إسم دولة - حيث أن مقومات الدولة وركائزها التي تقوم عليها تكاد تكون مفقودة هناك - تشكل هاجسا كبيرا وحملا ثقيلا لأبنائها الذين غادروها في وقت من الأوقات وأراد لهم الله أن يعيشوا في دول حقيقية يسود فيها النظام ويسري فيها القانون. نعم لقد أصبح أولئك المغتربون في حيرة من أمرهم
فحنينهم إلى وطنهم وأهليهم يدفعهم إلى التفكير الجاد في طريق العودة والاستقرار ولكن سوء الأوضاع وترديها وفساد الإدارة واستشراء الفساد والظلم يقف عقبة كأداء في سبيل تحقيق ذلك، إذ كيف بمن تعود على العدل والعيش في دولة القانون أن يقبل أن يعود إلى الظلم والمحسوبية والفوضى طواعية من جديد.
ما من موريتاني خرج من بلده إلا وهو يفكر لحظة خروجه في العودة إليه مهما طال الزمن، بل إننا نحن الموريتانيون قد نكون مربوطين بوطننا أكثر من أي إنسان آخر بوطنه، لأن عندنا عادات وتقاليد فريدة من نوعها تربينا عليها وغرست في نفوسنا ولا نجدها إلا في
وطننا ولكن الحال يتغير حينما يهاجر أحدنا إلى العالم الآخر ويرى الحضارة الإنسانية إلى أين وصلت في تقدمها وفي أسلوبها في إدارة الدولة الحديثة*. حينها تصعب العودة ويقف أحدنا محتارا أمام دعوة رئيس "الجمهورية" سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله ويقول:
كيف تريدني يا رئيس "الجمهورية" أن أعود إلى موريتانيا وأنا الذي تعودت على نيل حقوقي بعزة وكرامة كاملة غير منقوصة حيث أقيم وفي بلدك لا يمكنني أن أصدق وثيقة ولا أحصل على حق إلا بالوساطة أو الرشوة.
كيف تريدني أن أعود إلى موريتانيا وأنا الذي تعودت أن تتم معالجتي مجانا إذا مرضت وعلى أحدث
المستويات مهما كانت تكاليف العلاج ويقدم لي الدواء وأنا مطمئن أنه غير مزور ولا مغشوش وفي بلدك يموت الناس على أبواب المستشفيات لأسباب بسيطة ولا يجدون من ينظر إليهم مع أن الأطباء يمرون عليهم جيئة وذهابا ما لم يدفعوا نفقات العلاج مقدما وإذا تلقوا العلاج فإنه عادة ما يكون خاطئا وما أشهر وأكثر العمليات الفاشلة التي يجريها أطباؤك في المستشفى الوطني ومستشفى الشيخ زايد المنهوب* وغيرهما من المستشفيات وإذا قدم لهم الدواء فما أكثر أن يكون مزورا ومغشوشا.
![]() |
في مثال هذه الحافلة يتم نقل سكان العاصمة وبهذه الطريقة |
كيف تريدني يا سيادة الرئيس أن أعود إلى موريتانيا وأنا الذي تعودت على وسائل نقل متطورة تحملني إلى حيث أردت وبأسعار مناسبة لدخلي وفي بلدك لا أجد سوى حافلات أو سيارات متهالكة لا يمكن أن تصلح لنقل الحيوان أحرى البشر.
كيف تريدني أن أعود إلى موريتانيا وأنا الإنسان الذي يعيش في بلد يعوضني بجزالة عن كل ضرر يلحق بممتلكاتي الخاصة وفي بلدك لو سقط منزلك أو تهشمت سيارتك أو احترق متجرك فلا معين لك إلا نفسك ولو كنت من أهل الوساطة والنفوذ لما استطعت ان تحصل إلا على النزر اليسير من شركات التأمين إن وجدت وبعد مقاضاة طويلة في المحاكم.
![]() |
في مثل هذه الحافلة يتم نقل سكان العاصمة وبهذه الطريقة |
كيف تريدني أن أعود إلى موريتانيا وأنا الذي أسير في البلد الذي أقيم فيه في أي وقت شئت من الليل والنهار خالي البال آمنا على نفسي ومالي وحينما أرى سيارة الشرطة يزداد أمني بها لأني أعرفهم رجالا ساهرين على حفظ أمن الناس مهما كانت الظروف والمخاطر وفي بلدك كل شيئ مهدد بالسرقة حتى الأحذية في المساجد والملابس في المنازل وشرطتك ورجال أمنك في أغلبهم مجموعة من الفاشلين في الحياة أميون جاهلون لا يعرفون سوى استخدام القوة ولأتفه الأسباب مع أي كان ووالله إن رؤياهم لتفزع القلب وتخيف النفس لأنك لا تضمن أنه عند أبسط خلاف يتم الاعتداء عليك
بالضرب وإهانة كرامتك بالكلام البذيئ. نعم يا سيادة الرئيس رجال أمنك والمفروض أن يكونوا حماة له هم الذين يهددونه وفي كل يوم يكتشف الشارع الموريتاني عصابة تعتدي على أعراض الناس وممتلكاتهم تتكون منهم أو تلقى الحماية منهم على الأقل (عصابات المخدرات وحماية بيوت الدعارة مثال على ذلك**).
كيف تريدني أن أعود إلى موريتانيا يا سيادة الرئيس وأنا حامل شهادة وخبرة يقدرها كل من أقدمها له في بلد إقامتي وتتمنى كل شركة أن أكون موظفا عندها وفي بلدك لا يلقى حملة الشهادات أي اعتبار بل إن التوظيف يتم على أساس القرابة والوساطة، كما أن بلدك عاجز عن
أن يتأكد من صدقية الشهادات المزورة المقدمة له وما أكثرها وكم أعرف من موظف في بلدك تم تعيينه على أساس شهادة مزورة لا قيمة لها.
كيف تريدني أن أعود إلى موريتانيا وأنا صاحب الأسرة ذات الأبناء الذين يتلقون تعليما مجانيا وعلى أحسن المستويات في العالم وفي بلدك ترغم الأسر على إرسال أبنائها إلى المدارس الحرة باهظة التكاليف لضعف التعليم النظامي ومع كل ذلك فإن التلميذ يصل إلى مرحلة الباكلوريا وهو لا يعرف شيئا عن هذه الحياة سوى أمورا نظرية في الفيزياء والرياضيات وبعض العلوم الطبيعية الأخرى، أما جامعتك فلو وصلها التصنيف العالمي
لاحتلت المرتبة الأخيرة ولا شك في ذلك.
كيف تريدني أن أعود إلى موريتانيا وأنا صاحب الشركة الناشئة التي تلقى منافسة شريفة من نظيراتها وتنال العقود والصفقات بطرق شفافة وبمناقصات علنية وفي بلدك يمرر كل شيئ من تحت الطاولة ويستأثر القوي بنصيب الأسد ويتم سحق الضعيف تحت الأقدام، والامتيازات التي تلقاها سلفك ولد محمد فال في شركة الاتصالات شنقيتل شاهد على ذلك وكذا ما حصل عليه رجل الأعمال ولد بوعماتو في شركة الطيران الجديدة والقرض الذي حصل عليه من البنك الدولي وقبل ذلك استأثرت مؤسسة أهل عبد الله وغيرها بالصفقات الكبيرة لقرابتهم من
الرئيس الأسبق وبدون شك يطمح كثير من أقاربك للحصول على امتيازات خلال فترة حكمك إن لم يكونوا حصلوا عليها فعلا وهي امتيازات تعود أقارب كل رئيس الحصول عليها إبان فترة حكمه.
![]() |
في قلب العاصمة تجد مثل هذه المناظر - لاتعليق |
كيف تريدني أن أعود إلى موريتانيا وأنا الإنسان الذي تعودت في حياتي أن أجد في أوقات الفراغ أماكن جميلة أتنزه فيها وأروح فيها عن نفسي وفي بلدك لا توجد حديقة واحدة ولا منتزه، بل فقط القمامة والأوساخ المتناثرة على جنبات الطريق وسيول مياه الصرف الصحي وسط العاصمة.
كيف تريدني أن أعود إلى موريتانيا وأنا الذي أعيش في بلد لو غش فيه مسئول أو ثبت ارتشاؤه لجرد من وظائفه ولسيق إلى القضاء ذليلا دنيئا حتى يلقى جزاءه وفي بلدك الكل مرتش وخائن إلا من رحم ربك ولو ثبت ذلك بحق أحدهم لم يغير ذلك من الأمر شيئا ولم يتم تجريده من وظائفه أحرى تقديمه
للمحاكمة وما الفضائح التي أثارتها مفتشية الدولة مؤخرا إلا شاهدا على ذلك، تلك المفتشية التي يبدو انها استيقظت مؤخرا بعد سبات عميق (وزير التجهيز والنقل وميناء نواكشوط أمثلة على ذلك***).
![]() |
مثل هذه السيارة المتهالكة يربط بين وسط العاصمة وأرقى حي بها |
كيف تريدني أن أعود إلى موريتانيا وأنا الذي أعيش في بلد يقدم لي الحماية ويدافع عني حيث ما كنت في هذا العالم وبلدك لا يعنيه شيئ عن مواطنيه في الداخل أحرى الذين منهم خارج البلاد، بل إن سفاراته تتنكر لمواطنيها عنما يحتاجون إليها وتتبرأ منهم (الطالبان في الجزائر و قضية الأسرة المقيمة في إسبانيا التي زوجت إبنتها وهي في الثالثة عشرة من عمرها والمسفرين من السنغال أمثلة على تخلي الدولة الموريتانية عن مواطنيها**** ).
هذا غيض من فيض وما هي إلا أمثلة أوردتها هنا لأبين لسيادة الرئيس ان الكلام شيئ والواقع شيئ آخر.
يا سيادة الرئيس،
لتعلمها وليعلمها من سيأتي من بعدك أن من ذاق طعم الحرية والعدالة من الموريتانيين في الخارج لن يعود إلى موريتانيا أبدا في هذه الظروف القاتمة ولتعلم أن من واجبك وواجب من معك من المسئولين توفير ظروف ملائمة للشعب الذي هو راغب في الهجرة ليعيش حياة كريمة وليستقر في بلده ولكي تعود أيضا الطاقات والكفاءات المشتتة في هذا العالم والتي وطننا بأمس الحاجة إليها حاليا ولن يتم ذلك إلا بمجموعة من الأساسيات لا بد من إيجادها قبل أن تقف في باريس وتطلب منا العودة:
![]() |
القمامات منشرة في كل مكان حتى وسط العاصمة |
1- توفير الرعاية الصحية الضرورية للمواطنين.
2- توفير الأمن اللازم لحماية الناس وإطمئنانهم على أرواحهم وممتلكاتهم.
3- توفير تعليم يمكن ان يفي بمتطلبات العصر.
4- إصلاح الإدارة والقضاء على الرشوة والفساد.
5- تفعيل مبدأ المكافأة والعقوبة وتطبيقه بشكل صارم.
6- إيجاد بنية تحتية توفر للمواطنين أسباب الحياة الكريمة (إنشاء مجاري الصرف الصحي – تعبيد الطرقات قدر الإمكان – إنشاء المنتزهات والحدائق العمومية – أسفلة وأرصفة المدن ).
8- الفصل بين السلطات الثلاثة فصلا حقيقيا لا مراء فيه.
وقبل أن أختم مقالي هذا أوجه كلمة شكر إلى
الكاتبة المصرية هويدا طه العاملة في قناة الجزيرة القطرية والتي سبق لها أن زارت موريتانيا قبل أشهر وكتبت مقالا رائعا أبرزت فيه مظاهر التخلف عن ركب الحضارة في بلدنا قاصدة بذلك تنوير الموريتانيين بواقعهم إلا أنها تعرضت لسيل من الانتقادات اللاذعة واللامسئولة مما اضطرها إلى كتابة مقال ثان ترد فيه على بعض ذلك. أوجه لها كلمة شكر وأرجو أن لا ألقى ما لقته من سب وتجريح ممن سيقرأ هذا المقال لأني موريتاني ولا يمكن أن يشكك أحد في وطنيتي ومعزة بلادي علي ولكنه الاعتراف بالخطأ حتى يتم تصحيحه.
-------------------------------
الصور المنشورة مع المقال
التقطتها أثناء زيارتي الأخيرة لموريتانيا ويمكن لكل استخدامها.
* مستشفى الشيخ زايد في العاصمة نواكشوط تبرعت دولة الإمارات ببناءه ولكنه أوكلت تنفيذ المشروع للأسف إلى الإدارة الموريتانية وعندما حضر المسئول الإماراتي لتسلم العمل اشتد غضبا وقال بأن ما تم بناءه لا يصلح ان يكون اصطبلات للخيل. لقد تم اختلاس جل الأموال المخصصة للمشروع والذي يزور ذلك المستشفى حاليا ويقارنه بمستشفى الشيخ زايد في السنغال والذي كان من المفترض أن يكون مثله ليبكي دما ويموت تحسرا.
** في التسعينات من القرن الماضي تم اكتشاف عصابات للمخدرات كان يقوم
عليها ضباط وموظفين كبار في جهاز الشرطة وفي هذا العام تم أيضا اكتشاف أن ممثل الأنتربول في موريتانيا قد يكون متورطا في قضية المخدرات وهو الآن رهن السجن. فضلا عن أن أفراد الشرطة العاديين الحاليين مجموعة من الفاشلين في الحياة عديمي التعليم وأصحاب سوابق في حين أن العالم المتحضر لا يقبل في شرطته إلا من كان على مستوى من التعليم والخلق وليست لديه سوابق.
تقارير إعلامية كثيرة تتحدث عن حماية الشرطة لأوكار الدعارة وشرب الخمور وكان آخرها قصة المطعم الصيني التي هزت العاصمة نواكشوط بداية هذا العام.
*** المفتشية العامة للدولة أثبتت أن
وزير التجهيز والنقل الحالي قد احتفظت من منصبه القديم بسيارتين مع سائقيهما وكذا مبلغا ماليا وجهاز كمبيوتر محمول وهاتف نقال وهاتف آخر من نوع الثريا. الوزير اعترف وأعاد بعض تلك الممتلكات العامة إلا ان الفضيحة هي بقاءه في منصبه وعدم توبيخه على الأقل.
المفتشية العامة للدولة أيضا أثبتت اختفاء مبلغ 167 مليون أوقية من ميناء نواكشوط في فترة معينة وفي الحالة العادية كان يجب أن يتم استدعاء المسئولين في تلك الفترة والتحقيق معهم إلا ان ذلك لم يحدث وهي فضيحة أخرى سيحفظها التاريخ للدولة الموريتانية ونظامها الحالي.
**** طالبان في الجزائر
تم اعتقالهما على خلفية عدم شرعية إقامتهما في الجزائر إلا أن السفارة تنكرت لهم وذلك بشهادة اتحاد الطلبة الموريتانيين في الجزائر ومحاميتهما.
أسرة موريتانية مقيمة في إسبانيا زوجت إبنتها ذات الثلاثة عشر عاما في موريتانيا من ابن عمها وهي تقاليد وأعراف موريتانية لا ينكرها المجتمع ولكن القانون الإسباني يحرم ذلك وتم اعتقال الأسرة إلا الحكومة الموريتانية لم تتدخل رغم بروز المشكلة في وسائل الإعلام الإسبانية والموريتانية.
المسفرين من السنغال لم يتم لحد الساعة المطالبة بحقوقهم وحكوماتنا المتعاقبة قل ما تظهر تعاطفا معهم ولم يحدث
أن نشبت أزمة دبلوماسية بيننا وأي بلد آخر بسبب الاعتداء على مواطنينا في الخارج وهو أمر ربما نكون ننفرد به بين كل دول العالم.