*(١) اغانى الحماسة في السودان:
هذه حلقات عن الاغاني الحماسية، والتي يطلق عليها اغانى السيرة أو الدلوكه،، هي ضرب من ضروب الشعر الغنائي الشعبي القديم، ارتبط بأشخاص أو جماعات قبلية، وفى معظم الأحيان بمواقف بطولية حدثت أثناء النزاعات والحروب التي كانت سائدة في القرون الماضية، وهى أشعار تمجد البطولة والشجاعة، وتتغني بالأخلاق الفاضلة والقيم الحميدة والشيم السمحة، من شجاعة، وكرم وشهامة وتضحية وإيثار.
لا يسمع أحدنا واحدة من هذه الاغاني الا وتحرك فيه شيئاً يدفعه الي إن يهتز،، ويعرض، ويمشي في خيلاء،، كأنه واحد من اولئك الابطال الذين نُظُمتْ فيهم هذه القصائد..
كان لهذه الأشعار والأغاني مع ضربات الطبول والنقارة التي تهتز لرزمها القلوب تأثيراً كبيراً في إزكاء الروح القتالية وإلهابها وشحذ الهمم وحث الرجال على الثبات في المعارك وقتال العدو، وإدخال الحماس إلى قلوبهم في وقت الحروب والشدائد. فكلمات الاغاني، وانغامها تطرد الجبن من القلوب الوجلة، وتزيل عنها الخوف وتبث فيها الحماس والنخوة والشجاعة مما يجعل الممدوح يبلى بلاءاً حسنا وقت الشدائد والكروب.
كانت الحَكَّامات يرافقن المقاتلين في بعض الحروب، يسرن مع الجيش يرددن أشعارهن الحماسية لتحريض وحث مقاتلي القبيلة علي الثبات والاستبسال في وجه العدو، وإحراز النصر.
كان معظم شعراء تلك الاغانى من النساء، وكثيراً ما كن من قريبات الفارس الذي يتغنين ببطولاته وفروسيته وبقية خصاله الكريمة، كانت الفتاة تغني لأخيها، أو ابيها، أو عمها أو خالها، وقد تغني المرأة لزوجها، أو ابنها أو إخوانها،، وبما إن الرجال في كل مجتمع يسعون لنيل الحظوة عند نساء القبيلة وبناتها، فقد كانت تلك الأغاني كافبة لإن تبث الحماس في القلوب فيقدم الرجال علي الصعب من الامور في جرأة واستهانة، ولا زال بعض الرجال يعمل على إظهار قوتهم وشجاعتهم وجَلَدِهِم من خلال الجلد بالسياط أثناء حفلات الزواج وهو تقليد منتشر في كثير من أرياف السودان.
وصف الأستاذ محمد عبدالرحيم في كتابه نفثات اليراع الإنسان السوداني بأنه:
[ قريب الانفعال شديد التأثر، تستطيع أحيانا أن تحرك أعصابه بقليل من التحريض ممزوجا بقليل من التحميس ولا سيما إذا كان موتورا فهو ساعتئذ يلتهب كالنار وينطلق كالسهم مضحيا بكل شئ تحت تأثير ما سمع من تحريض وإغراء ]
ومن الأمثلة التي يمكن إيرادها لمعرفة دور شعر الحماسة في التحريض ما ذكره الأستاذ 'محمد محمد علي':
[ إن إسماعيل باشا بعد أن استقر بدنقلا أرسل إلى الشايقية كيما يسلموا أنفسهم وأسلحتهم وخيلهم كما فعل غيرهم فأجابوه بأنهم مستعدون أن يدفعوا ضريبة أو اتاوة أما تسليم الخيل والسلاح فلا ، ولكن إسماعيل لم يرتاح لهذا الرد وبعث إليهم بخطاب آخر يقول فيه إن والده يريدهم شعباً يفلح الأرض ولايريد منهم أن يحملوا السلاح، فأمسك ملكهم الخطاب وجلس على الأرض ينظر في الأمر, فهم لم يتعودوا الخضوع لإحد بهذه الصورة ، فقد رفعوا عنهم أيدي ملوك سنار وملوك العبدلاب وهزموا المماليك وقذفوا بهم جنوبا، كما سجل الاستاذ مكي شبيكة في كتابه القيّم السودان عبر القرون. لكن أين قوة سنار وملوك العبدلاب وأين عدد المماليك من هذا الجيش الجرار ؟ إنهم الان لا يلاقون رجالاً يحملون السيوف والرماح والتروس، وإنما هي قنابل تنصب عليهم من أفواه البنادق والمدافع من حيث يعلمون ولا يعلمون ]
(كتاب الشعر السوداني في المعارك السياسية لمحمد محمد على )
لكن الشاعرة مهيرة بنت الشيخ عبود، والتي كانت حاضرة في المجلس، لم تدع للملك فرصة للتروي وإعمال الرأى بل وقفت على رأسه وصاحت ...
[[ الليلة العقيد في الحله متمسكن
في قلب التراب شُوفنُّ متجكّن
الراى فاقدُ ولايدرك ولا يمكن
لا تتعجبن ضيم الرجال بمكن ]]
وما تعنيه مهيره هو: [[ أن رئيس القوم، على غير عهدنا به فقد ظهر في الحِلة مسكيناً، وجلس على التراب متداعياً خائراً، فانظرن إليه يا بنات، لقد فقد الرأي وهو لا يدرك شيئا ولا يبرم أمرا، ولا تتعجبن يا بنات إنه أحس بالضيم والعجز]]
ويدور هذا التوبيخ اللاذع في صدور الرجال وكأنه شلال من نار،،، ولكن العقيد، أي الملك الذي بيده الحل والعقد، والقرار، لا يزال ملتصقا بالأرض وهم ينتظرون أمره، وتدنو منه مهيرة الشاعرة وتصيح فيه بنغمة لم تألفها أذنه من قبل ...
[ أكان فرّيت يا رفاقتنا ٠٠٠ أدونا الدّرق هاكم رحاطتنا ]
أي، إن أردتم الفرار يا رفاق، فهاتوا أسلحتكم وآلة حربكم وهاكم مآزرالعذارى من الرحط وخلافه، ولتخرج النساء بدلا عنكم للقاء الأعداء والدفاع عن الأرض والشرف،،، ما معناه إنكم نسوان، ونحن إرجل منكم،، وفعلاً كانت مهيرة بت عبود مثل الرجال في شجاعتها وعزمها.
هنا لم يطق العقيد صبرا، فنهض وقفز على ظهر حصانه الأغر، وقاد جحافل الشايقية إلى لقاء النار، وركبت مهيرة هجيناً وسارت أمام الجيش تغنى في حماسة ونشوة ....
الليله استعدُّوا ٠٠٠ وركبوا خيل الكر
وقدّامن عقيدن ٠٠٠ باللّغر دفر
جنياتن العزاز ٠٠٠ الليله تتنتر
ويا الباشا الغشيم ٠٠٠ قول لي جدادك كر
فالشاعرة تمدح قومها، بإنهم استعدوا للحرب، وركبوا الخيول التي تكِر،، يقودهم عقيد ركب حصانه الاغر، فهو يدفر ويتقدم،، والشباب العزاز يتقافذون استعداداً للحرب وللموقعة القادمة،، ثم تنادي الباشا، قائد الترك،، تطلب منه أن يأمر جنوده الذين تشبههم بالدجاج (قول لي جدادك)، أن يقل لهذا الدجاج 'كَر' وهي الكلمة التي يطرد بها الدجاج في السودان.
في هذا الجو الحماسي دارت معركة كورتى الشهيرة، غير المتكافئة عدداً وعدةً وعتاداً،، وكانت الغلبة فيها كما كانت في كرري،، للسلاح الناري الفتاك،،، لكن كان الفخر والمجد والسؤدد، وكان الخلود للمحاربين السودانيين، الذين حصدتهم آلة الحرب وما انهزموا، بل استشهدوا في سبيل وطنهم وكرامتهم،،
المصدر: الشعر السوداني في المعارك السياسية تأليف الشاعر: محمد محمد على..
يتبع
كامل سيد احمد
Subject: Re: [Elhakeem:5051] Announcement
From:
sdu...@hotmail.co.ukDate: Wed, 5 Aug 2015 19:36:30 +0100
To:
elha...@googlegroups.com